الجمعة ١٠ حزيران (يونيو) ٢٠١٦
علي الوردي: (60)
بقلم حسين سرمك حسن

اعتماد «المادّة الشعبيّة» في البحث الاجتماعي

# اعتماد "المادّة الشعبيّة" في البحث الإجتماعي:

كان الوردي الرائد في تعزيز السمة ( العمليّة ) في علم الاجتماع العراقي وشعبيته. وكان من نتيجة ذلك تأسيسه لطريقة جديدة في البحث الاجتماعي في العراق على الأقل، وهو ( المادة الشعبية ) التي يحصل عليها بصورة مباشرة من الناس البسطاء، وهي طريقة لم تكن موجودة في البحث الاجتماعي في العراق على الأقل كما قلت. كان البعض من مناهضي الوردي يعيبون عليه الاعتماد على مصادر شعبية تتمثل في الشيوخ والعجائز وشيوخ العشائر ورجال الدين وأناس بسطاء رثي الثياب محدودي الثقافة من روّاد المقاهي والتكيات، ولكنهم شهود صادقون وتلقائيون لا تلجم اندفاعتهم قوقعة العلم الفكرية المتصلبة. يقول الوردي عن جمع المعلومات عن الشقاة:

( وكنت مضطرا أن أتقصّى أخبارهم عن ألسنة الناس ولا سيما العوام منهم، والواقع أن العوام كثيرا ما يمدونني بالوقائع الاجتماعية أكثر مما تمدني بها وثائق المؤرخين ).

ولعل أفضل وصف قدم لهذه السمة ( الورديّة ) هو ما ذكره الصحفي والباحث ( حميد المطبعي ) في كتابه: ( الوردي يدافع عن نفسه )، حيث قال:

( وأساس معاناة الوردي، أن مجتمعا من المجتمعات لا يفهم أسراره، وأسراره كثيرة في مجتمع المثقفين، ومجتمع الأميين، مضى زمنه، وربما غاب في أحداث التاريخ، تصوّر: أن الوردي يدخل مقهى شعبيا ويصغي إلى حديث رجل رثّ الثياب، دميم، فيراه أحد المتعلمين.. فيلومه على هذا التبذل الذي لاحظه في سلوكه.. فماذا سيقول له، ربما سيعتذر إليه، ثم يقول له: إن الأمكنة الموبوءة اجتماعيا، فيلمحه شخص يعرفه، ويأخذ هذا يعاتبه بل يلومه لوما مقذعا ولم يصدق أنه يقصد الدراسة. فالدراسة في نظره تكون في الكلية لا في هذه الأمكنة المحرّمة في ( الشقاة ) يحادثهم مهموما ويسرّهم مهموما. وطالت به الجلسة، قال الناس: ما بال الوردي، ما بال هذا الأفندي لا يراعي حرمة نفسه وجامعته، فيتجنب الجلوس مع أمثال هؤلاء. قال لبعضهم: أن هؤلاء جزء منا، وفي أعماقهم صور الزمن القديم، زمن العهد العثماني. فاستفيد منه في جامعتي، فصدقوا ظنه، واعتقد أن ظنه يذهب بهؤلاء ( الشقاة ) الثلاثة إلى ما كان يمثله حسن كبريت وخلف بن أمين وعباس السبع، وهم الشخصيات النمطية، من سلوك وتفكير المرحلة الاجتماعية التي كان الناس يعيشون فيها في العهد العثماني. كان يأخذ مادة مهمة في حياة الكائنات الاجتماعية، لينشرها فيما بعد، في موسوعته الهائلة بالتاريخ: لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث) (419).

وقد كان الكثيرون من المثقفين العراقيين المتمسكين بالمنطق العقلاني القديم يلومون الوردي حين يرونه يجالس العوام أو يرتاد المقاهي الشعبية. فهم يعتبرون العلم في الكتب لا في المقاهي وأوساط العامة. والعلم من وجهة نظرهم يجب أن يكون عاليا، أما الأوساط الشعبية فهي واطئة يجب على الرجل العلمي أن يترفّع عنها. ومن المفارقات الطريفة هو أن أحد العراقيين شاهد الوردي في أحد منازل البغاء في طهران، ثم عاد إلى بغداد وأخذ يشهّر بالوردي في حادثة طريفة يلخصها الوردي بقوله:

(حدث لي ذات مرة أني زرت عاصمة أحد الأقطار الشرقية، ودخلت المبغى العام فيها، من أجل دراسته طبعا. فرآني رجل من أهل بلدتي، ولما عاد إلى البلدة بعدئذ ملأ الدنيا شتما وتثليبا على المسكين الذي هو أنا. فانبرى أحد الناس للدفاع عني قائلا أني إنما دخلت المبغى للدراسة فقط لا غير. فصاح الرجل في وجهه معترضا: ( هي كلّجية لو كلية ). ومعنى قوله أن الدراسة لا تكون إلاّ في الكلية، أما ( الكلّجية ) – أي المبغى العام – فليس من المعقول أن تكون فيه أي دراسة) (420).

والمشكلة أن هذا النزوع الفلسفي (العاجي ) امتد لينتشر بين المثقفين والأدباء. يقول الوردي:
(يؤسفنا أن نقول أن بقية من هذه المباهاة الفلسفية لاتزال شائعة بين الكثيرين من أخواننا المثقفين والأدباء. فهم لا يحبون أن ينزلوا في مفاهيمهم ومصطلحاتهم إلى المستوى الذي يشترك معهم به عامة الناس. نراهم يحرصون في خطبهم وكتاباتهم أن يأتوا بالأفكار العالية جدا والفارغة جدا. واعتاد الناس أن يقيسوا عمقها الفلسفي بمقدار ما يجهلون منه. فإذا فهموها انحطّت في قيمتها لديهم) (421 ).

ومن المواقف الطريفة أن مدّ استخدام المصطلحات المعقدة والتعبيرات المركّبة والملغزة ذروته في منتصف السبعينات، وأتذكر أننا كنا مجموعة من الشباب نتناقش بصخب حول موضوع معين، وكان كل منا يستخدم أقصى التعبيرات المعقدة والمصطلحات المركبة، فما كان من الصامت الوحيد بيننا إلا أن قال: (بصراحة إن كل ما قلتموه لا يخرج عن دائرة إسقاطات المربع الزرق !! ). فسكتنا جميعا لأن أيّاً منا (مثقف) ويستحي أن يسأل عن معنى المربع الأزرق!! وعندما غادرنا الصالة وتفرقنا لحقت بصاحبي وسألته: ما معنى المربع الأزرق؟ فقال: والله أنا نفسي لا أعرفه.. لكنكم أحرقتم أعصابي بنقاشاتكم ومصطلحاتكم العجيبة، فابتكرت هذا المصطلح الغريب !!.

ومثلما دعا ابن رشد إخوانه من الفلاسفة آنذاك إلى اعتزال الناس وتكوين جماعة خاصة بهم بعيدة عن سخافة الغوغاء ودناءاتهم، لأنه يظن أن الفلاسفة حين يكوّنون مجتمعا خاصا بهم يستطيعون أن يسعدوا وأن يتعاونوا تعاونا تاما في سبيل الفكر الخالص، فترتقي البشرية بهم رقيا هائلا على زعمه، فقد شهدنا، بدءاً من الستينات (مجتمعات ) ثقافية مغلقة لها لغة خطابها و( شفراتها ) التي تعسر حتى على خريج الكلية، وخصوصا في ظل سوء فهم موجات الحداثة وما بعد الحداثة التي اجتاحت الوطن العربي وحوّلت الثقافة إلى نخبة النخبة !!.

ويرى الوردي أن:

(ابن رشد كان مخطئا في رأيه تماما، لأن الفلاسفة لا يختلفون عن غيرهم من الناس في طبيعتهم البشرية، فهم لو اجتمعوا لتنازعوا وتناحروا ولعن بعضهم بعضا كما يفعل العوام والسوقة تماما. يعتقد ابن رشد أن الفلاسفة إذا اختلفوا في شيء ردّوه حالا إلى دليل العقل وحجة المنطق فتفاهموا وخضعوا للرأي الذي يرونه معقولا. إنهم على زعم ابن رشد يستنيرون بنور العقل والمنطق وليس هناك سخافة أبشع من هذه التي يقول بها ابن رشد وأمثاله من المفكرين الطوبائيين ) (422).
ولكن ليس معنى هذا أن الوردي ضد الفلسفة بإطلاق. إنه فقط ضد الفلسفة العقلانية التي ما زالت تسيطر على تفكير بعض الكتّاب والمفكرين الذين لا يكاد أحدهم يكتب بحثا أو مقالا حتى يفتتحه قائلا: مما لا شك فيه.. مما لا يتنازع فيه إثنان.. مما اتفق عليه العقلاء.. من بديهيات الأمور... إلخ.

# هناك فلسفة عربيّة ضد – أغريقية:

إن الوردي ضد هذه الفلسفة التي هي الخط الأغريقي العقلاني الذي سار عليه فئة مثل الكندي والفارابي وابن سينا وابن باجة وابن طفيل وابن رشد. ولكن هناك طائفة أخرى عارضت هذا الخط وحاربته وجاءت بفلسفة جديدة يمكن اعتبارها إرهاصا للفلسفة الواقعية التي ظهرت في العصر الحديث. إننا حين نقرأ بعض ما كتبه الجاحظ، وما كتبه الغزالي وابن تيمية وابن خلدون، نشعر بوضوح أنهم كانوا ثائرين على الفلسفة الأغريقية، وعلى المنطق الأرسطي بوجه خاص. وهو بهذا يقف ضد رأي المفكر الفرنسي (رينان) الذي طرحه في منتصف القرن التاسع عشر ورأى فيه أن الفلسفة العربية الإسلامية ليست سوى فلسفة اغريقية بحروف عربية. هذا الرأي الذي تبنّاه بعد ذلك الدكتور ( عبد الرحمن بدوي ).
فالوردي يرى أن هناك فلاسفة عرب ثاروا على الفلسفة الأغريقية ومنطقها الصوري. ولكن لم يُطلق عليهم لقب (فلاسفة)، لأن الفلسفة في ذلك العصر كانت اصطلاحا يطلق على المفكرين الذين اشتغلوا بالفلسفة الإغريقية فقط. ومن هنا جاء خطأ رينان ومن لفّ لفّه. فرينان ركز نظره على المفكرين الذين ساروا على الخط الإغريقي، ونسي أن هناك في الحضارة العربية فريقا آخر من المفكرين الذين جروا على النقيض منهم....))
وقد انطلق ( جورج طرابيشي) من منطلق مطابق لموقف الوردي هذا في كتابه ( مصائر الفلسفة بين المسيحية والإسلام) الصادر عن دار الساقي في عام 1998 حيث قال على الصفحة (14):

((أبرز من تصدى لمهمة الإنكار هذه – يقصد إنكار وجود فلسفة عربية – هو بلا أدنى شك إرنست رينان، أحد كبار معماريي المركزية الإثنية الأوروبية وصائغ أسطورة تفوق الجنس الآري ودونية الجنس السامي في القرن التاسع عشر... فقد أنكر وجود فلسفة عربية قائلا قولته المشهورة: (من العسف أن نطلق اسم فلسفة عربية على فلسفة لا تعدو أن تكون استدانة من اليونان..... فهذه الفلسفة مكتوبة بالعربية ليس إلا )).

ثم يقول على الصفحتين (16و17) متحدثا عمن أيدوا هذا التناقض " الريناني ":

((أما عبد الرحمن بدوي.. فقد غلا في دعوى العدمية الفلسفية الإسلامية إلى حد تحويره حديثا موضوعا على لسان الرسول ليقول إن الفلسفة ولدت في ديار الإسلام غريبة وماتت غريبة. بل إنه... يصدر حكم النفي القاطع التالي: " الفلسفة منافية لطبيعة الروح الإسلامية. لذا لم يُقدّر لهذه الروح أن تنتج فلسفة، بل ولم تستطع أن تفهم روح الفلسفة اليونانية وأن تنفذ إلى لبابها )).

ومن هذا المنطلق – تأليه الفلسفة اليونانية وتصنيم المنطق الأرسطي – يقع الدكتور " محمد عابد الجابري " في خطأ كبير حين يقول على الصفحة (538) من كتابه: ( بنية العقل العربي ):

(( إن نموذج المعقولية في الطريقة البرهانية خلال القرون الوسطى كان النموذج الأرسطي، ولذلك فليس غريبا أن نجد ملامح هذا النموذج في كل محاولة لإضفاء المعقولية على البناءات الفكرية، سواء منها ما له طابع فكري محض كالعقليات (ابن رشد)، أو ما يؤطره العقل كأصول (الشاطبي)، والتفسير التاريخي (ابن خلدون)).

والواقع أن ابن خلدون – كما يقول الوردي قبل أكثر من ربع قرن - لو لم يكن من نقّاد المنطق الإغريقي العقلاني لما أنتج نظريته الاجتماعية الكبرى في الصراع والتفاعل بين البداوة والحضارة. وبعبارة أخرى: إنه لو كان يتبع المنطق العقلاني في تفكيره لجرى في تنظيره الاجتماعي على النحو الذي جرى عليه الفارابي وابن رشد وابن طفيل وغيرهم من اتباع التراث الاغريقي. فنحن لو قارنا بين (المدينة الفاضلة ) للفارابي و (المقدمة ) لابن خلدون لوجدنا فرقا أساسيا بينهما هو الفرق بين المفكر الذي يحلق في سماء المثاليات والطوبائيات في تنظيره الاجتماعي والمفكر الذي ينزل إلى الواقع الاجتماعي ليدرسه كما هو. صوّر لنا الفارابي – كما يقول الوردي - في مدينته الفاضلة مجتمعا سعيدا يعيش في أتم الصفاء والهناء. وقد وضع الفارابي شروطا لتوفير هذا الصفاء والهناء في المجتمع. ومشكلة الفارابي هو أنه لم يتوقف ليسأل نفسه: كيف يمكن توفير تلك الشروط في المجتمع الواقعي. فهو يتخيلها في عالم المثل وينسى أنها قد تكون غير ملائمة للطبيعة البشرية. إن المفكرين الطوبائيين من أمثال الفارابي لا يشغلون أذهانهم بهذه المشكلة. فهم يضعون شروطهم المادية لمجتمعهم الخيالي، ولا يهمهم بعد ذلك أن يكون البشر قادرين على تحقيقها أم لا.... لأن البشر لا يستطيعون تغيير طبيعتهم التي خلقهم الله عليها. فالإنسان هو حيوان قبل أن يكون إنسانا. وهو مهما ادّعى وتفاخر يظل في قرارة نفسه حيوانا. لا ننكر أن الإنسان عاقل ولكن عقله لا يعمل إلا في نطاق حدود معينة يصعب عليه تجاوزها. إن من واجب المفكر أن يتعرّف على تلك الحدود قبل أن يباشر صب مواعظه الرنانة على رؤوس المساكين من الناس. يمكن القول بوجه عام: إن الطبيعة البشرية هي التي تسيطر على العقل، وليس العقل هو الذي يسيطر على الطبيعة البشرية. وهنا تأتي أهمية ابن خلدون وأمثاله من نقاد التفكير العقلاني. فهم يحاولون دراسة المجتمع البشري كما هو في الواقع، باعتبار أن هذا الواقع مستمد من طبيعة البشر التي جبلوا عليها، ولا يمكن تغيير الواقع إلا بتغيير الظروف التي يعيش فيها البشر، ومادام البشر يعيشون في نفس الظروف فهم لابد أن يفكروا ويسلكوا حسبما تملي عليهم تلك الظروف) (423).

# "حيّ بن يقظان" دعوة للصعود إلى البرج العاجي:

وكأنموذج تطبيقي نأخذ موقف الوردي من محاولة ابن طفيل التي تلغي (عمليّة ) الفكر وتحبسه في الأبراج العاجية. ويتضح هذا في تعليقه على قصة الأخير الفلسفية: (حي بن يقظان ). التي تخيّل فيها إنسانا ولد وترعرع في جزيرة منعزلة، حيث أرضعته ضبية، وظل ينمو في تلك الجزيرة وحيدا حتى بلغ مبلغ الرجال. يقول ابن طفيل: إن عقل هذا الإنسان أخذ ينمو بنمو بدنه حتى تم نضوجه في تلك الجزيرة. واستطاع أن يفكر ويستنتج حتى توصل بتفكيره المجرد إلى الكثير من الحقائق الكونية التي توصل إليها الفلاسفة العظام من قبل. ويعلق الوردي على ذلك بالقول:

(يريد ابن طفيل بهذا أن يبين للقاريء أن العقل البشري جهاز فطري وأنه ينمو من تلقاء نفسه، فلا حاجة إلى التدريس والتلقين. ويبدو أن ابن طفيل يرى بأن العقل البشري حين ينمو بعيدا عن سخافات المجتمع وأباطيله يصبح أسلم تفكيرا وأصح استنتاجا وهو بذلك يحبذ للمفكرين أن يبتعدوا في تأملاتهم عن الناس ويتساموا على عنجهياتهم. إنه بعبارة أخرى، يدعو المفكرين إلى الصعود إلى البرج العاجي. ولا ريب أن هذا الرأي هو رأي الفلاسفة القدماء جميعا، فابن طفيل إذن لم يأت بشيء جديد. وليس له من فضل في هذا إلا ابتداعه لقصة شيقة حيث عرض فيها ذلك الرأي القديم في قالب جديد) (424).

والمشكلة هي أن أغلب المفكرين والباحثين العرب قد تناولوا قصة (حي بن يقظان ) على أساس أنها علامة نبوغ كبيرة من الفيلسوف ابن طفيل في ملاحقة وتشخيص الكيفية التي ينمو بها العقل البشري وملكاته، حتى أن بعضهم جعلها سبقا رياديا لابن طفيل يفوق ما طرحه بعض المفكرين الغربيين في هذا المجال. فقد لاقت هذه القصة رواجا عظيما بين المفكرين وتُرجمت إلى كثير من اللغات، وحاول تقليدها والاقتباس منها فلاسفة وكتاب من مذاهب شتى.

(والغريب – كما يقول الوردي – أن كثيرا من كتّابنا ومفكرينا لا يزالون حتى يومنا هذا متأثرين بهذه القصة ويعتبرونها الكلمة الأخيرة في قضية العقل البشري. إنهم لا يزالون يؤمنون بأن العقل موهبة طبيعية تنمو من تلقاء نفسها سواء أعاش الإنسان في مجتمع أم عاش منذ ولادته وحيدا منعزلا. أما الأبحاث العلمية الحديثة فهي تكاد تجمع على خطأ هذا الرأي. حيث ثبت اليوم أن العقل البشري صنيعة من صنائع المجتمع، وهو لا ينمو أو ينضج إلا في زحمة الإتصال الاجتماعي. فإذا وُلد الإنسان وترعرع بين الحيوانات فإنه يمسي حيوانا مثلها. وما قصة (حي بن يقظان ) التي ابتدعها خيال فيلسوفنا الرائع إلا وهم أو خرافة لا وجود لها في عالمنا الذي نعيش فيه) (425).

وقفة مهمة: هل سقراط نبي؟:

بمناسبة تناول موضوعة الفلسفة الأغريقية، فللوردي رأي مهم وطريف في الوقت نفسه يعتبر فيه الفيلسوف الإغريقي ( سقراط ) نبيا !!. يقول الوردي:

(يبدو أن السوفسطائيين كانوا يقومون في المجتمع الإغريقي بمثل ذلك الدور الذي قام به ( الحنفاء ) في مكة قبل البعثة المحمدية. فكانوا يمهدون بشكوكهم طريق النبوة. وقد ظهر النبي هناك فعلا في شخص سقراط العظيم )(426).
ويبرّر الوردي وجهة نظره هذه بالقول أن المعروف عن سقراط أنه كان في أول أمره سوفسطائيا، ولكنه شعر أخيرا بأن الوحي ينزل عليه، فأنطلق عندئذ بدعوته الإصلاحية ويضحي بكل شيء في سبيلها، حتى أنه أهمل جميع شؤونه العائلية والشخصية من أجل دعوته. وقد أفاد سقراط من مناهج السفسطة ولكنه لم يأخذ بشكوكها، حيث آمن بأن الله يسيطر عليه ويهديه سواء السبيل. وكان يعتقد بأن الدين هو في تكريم الضمير النقي للعدالة الإلهية وليس في تقديم القرابين وتلاوة الصلوات بالرغم من تلطخ النفس بالإثم.

ولأن الوردي كان محاصرا بالتهم من كل جانب، فإنه يعتقد بأن هذا الرأي سيسبب له تهمة الزندقة فيسارع للقول:
(وإني لأخشى أن يتهمني القاريء بالزندقة لأني أطلقت على سقراط صفة النبوة. وأرجو من القاريء أن لا يصدّق الأساطير الإسرائيلية التي كانت تحصر النبوة ببني إسرائيل وحدهم. وقد أشار القرآن إلى أن الله أرسل في كل أمة من الأمم القديمة نذيرا. وليس من المستبعد أن يكون سقراط نبيا. ومن يدرس سيرة هذا الرجل يجد صفات النبوة قد توافرت فيه. فقد حدثنا التاريخ عن إخلاصه وإيمانه وتضحيته وانهماكه في أمر الإصلاح الاجتماعي مما يندر أن نجد مثيلا له بين عامة الناس. ومن خصائص النبي أنه يختلف عن الإنسان العادي بكونه يهمل ذاته الفردية ويذوب في ذات أخرى أوسع منها. وقد ضج من سقراط المحافظون والمتزمتون وسدنة المعابد، وأخذوا يهيجون الغوغاء عليه، وهذا أمر نلاحظه في حياة كل نبي) (427).

ولكن هذا الرأي سبقه إليه - وبشكل موسّع - أبو حاتم الرازي في كتابه " أعلام النبوة "، وذلك حين اعتبر الفلاسفة القدماء أنبياء أو أشبه بالأنبياء أوحى إليهم الله بالحكمة والشرائع والرسوم الصحيحة – كما يسمّيها - في النجوم والطب والهندسة" ( 428).

وبخلاف هذه الأفكار العاجية، عمد الوردي على إعادة الفكر الاجتماعي إلى ( واقعه وأرضه ). يقول الوردي:
(( إذا رأوني أجالس العوام أو ارتاد المقاهي الشعبية، لاموني في ذلك أو اتهموني. فهم يعتبرون العلم في الكتب لا في المقاهي وأوساط العامة. إن العلم في نظرهم يجب أن يكون عاليا، أما الأوساط الشعبية فهي واطئة يجب على الرجل العلمي أن يترفع عنها )) (429).

والوردي يقتدي في ذلك بابن خلدون الذي يعده رائدا في هذا المجال:

(( إن ابن خلدون يمكن اعتباره رائدا في هذا المجال، فهو نزل من برجه العاجي وأخذ يدرس الناس على حقيقتهم. والواقع أن ابن خلدون لم يكن متفردا في ذلك. فقد سبقه الجاحظ وغيره من الأدباء إذ هم شحنوا مؤلفاتهم بوصف العادات الشعبية. ولكن ابن خلدون تميز عنهم بكونه درس العادات الشعبية لكي يستنتج منها نظرية اجتماعية، أما الأدباء فكان مقصدهم شيئا آخر)) (430).


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى