الاثنين ١٥ أيار (مايو) ٢٠٠٦
بقلم بطرس دلة

الظاهر والخفيّ في "بسمة لوزية تتوهج" للشاعرة آمال عوّاد رضوان

في زياراته إلى بيتي، فاجأني الأستاذ الأديب محمّد علي سعيد ببعض الهدايا القيّمة التي أراد إشراكي في انطباعاته عنها، بعد أن قرأها وتمتّع في قراءاتها، كما ذكر لي.

والأديب أبو علي، تلميذنا سابقاً، تربطنا به أواصر صداقة متينة لأن بيننا خبزاً وملحاً ثقافيين! وله نظرة ثاقبة إلى ما يصدر من إبداعٍ محليٍّ وعالميٍّ، إلى جانب نشاطاته المختلفة في كتابة القصّة والمسرحيّة وفهم المقروء ودراسة اللهجات في اللغة العربية، ولديه مكتبة ضخمة لا يملّ القارئ منها لو أقام فيها عشرات الأيام.
المجموعة الشعرية التي نحن بصددها للشاعرة آمال عوّاد- رضوان هي إبداع من نوع مميّز، قدّم له الأديب الشاعر محمّد حلمي الريشة بمقدّمة جميلة جدّاً، بحيث يحثّ القارئ على قراءة المجموعة دون تردّد.

لماذا الظاهر والمخفيّ؟

من يقرأ المجموعة الشعرية قراءة سريعة يتكوّن لديه شعور بأنّها عبارة عن رسالة حبٍّ كتبتها الشاعرة بحميميّة خاصّة إلى من تحبّ، ولكنّه ظلّ في مخيّلتها يحتلّ مكانة مرموقة في مشاعرها، ولذلك فهي تكتب عن شوقها ولهفتها للقائه، الأمر الذي لا يقبله مجتمعنا العربيّ– الذكوريّ المتزمّت. إلاّ أنّ قراءةً ممعنةً ثانيةً، تكشف للقارئ الذكيّ أنّ وراء الكلمات ووراء كلّ قصيدةٍ قصّةً إنسانيّةً ليست بالضرورة قصّة الشاعرة نفسها، لأنّ الشاعر قد يكتب عن معاناة الآخرين كما لو كان يخوض تجربة هذه المعاناة بنفسه. فالقصائد، بشكل عام، تحكي رواية الكثيرات من فتيات مجتمعنا العربيّ، والحرمان الذي تعيشه بعض الفتيات اللواتي قسا عليهنّ هذا المجتمع وحرمهنّ من أبسط الحقوق الديمقراطيّة ألا وهو حقّ الحريّة!
ولذلك، فإنّ الشاعرة تكتب شعراً وجدانيّاً تتحدّث فيه عن الروح الداخليّة، معبّرة عنها بحميميّة ليس لها شخص معيّن أو امرأة معيّنة، وإنما قد تنطبق على بعض النماذج الأنثويّة في عالم يسيطر فيه الرجل، حتى في الألفيّة الثالثة التي نعيشها. فحواراتها الروحيّة، وتواصلها بالكلمات مع أيّ نموذج نسائيّ، لا يعني أنّ هذه المرأة أو تلك هي صديقة للشاعرة أو قريبة لها، بل قد تكون نموذجاً معيّناً متواجداً في مجتمعنا، وليس للشاعرة أيّة صلة خاصّة بها سوى أنها تتماثل معها من باب الدعم وتبني قضية المرأة في معاناتها.

جداولها شهيّة

في قصيدتها الأولى "أحنّ إلى حفيف صوتك" لهفة شديدة لسماع صوت الحبيب الذي تزداد مسالك الشوق في قلبها يوماً بعد يوم، خصوصاً لأنها أدمنت دنان حزنه بسبب النار التي تأكله وتشرب دماءَه، وتطالبه أن يفتح لها قلبه الذهبيّ.

ولأنها تشبّه صوته بحفيف أوراق الأشجار، فإنها تدعوه دعوةً صريحةً أن يسمح لها بتجديد ماء حدائق قلبه، لتجعل النبات فيها وروداً تتراقص بينها شغفاً، فتسبح قناديلها في جداول هذه الحديقة الشهيّة! فهل تعايش الشاعرة في هذا الكلام إنساناً معيّناً؟
هذا السؤال يلحّ على القارئ كي يبحث بين الكلمات عن شخصيّة الحبيب! من أجل ذلك، ترجوه السماح لها بأن تروي براري عطشه بأمطار عينيها، فهي تشتاقه أبداً، ولا تستغني عن العلاقة به! فدموع المرأة سلاحٌ لا يستطيع الرجل مقاومته! والحقيقة هي أنه جميل أن تتوق المرأة إلى من تحبّ، لأنّ ذلك حقّ طبيعيٌّ؛ فهي مخلوقة لها مشاعرها، تحبّ وتكره كما تشاء، ولكن الأجمل من الشوق ومن الدموع هو استبدال هذه الدموع بالقبلات مثلاً؛ لأنّ القبلة سوف تثير في الرجل حنيناً قويّاً وحبّاً متجدّداً من أجل الوصال معها، ومن ثمّ صناعة الحياة! لأنه من أجل صناعة الحياة، والحفاظ على ديمومة الجنس البشريّ، خلق الله الذكر والأنثى، فهذه هي طبيعة الأشياء!

المرأة والكبرياء

في قصيدتها "في مهبّ رصيف عزلةٍ" تتساءل الشاعرة سؤال العارف: كيف تمنح الحبيبَ قلبها وقد اختطفته ملائكة الحب إلى فسحة من العراء؟! فطالما هو في أحضان الأخرى، إذاً فما عليها إلاّ أن تركن حيالها عاجزة شاردة الروح حيث تعيش في زنزانة أحلامها المستحيلة.
ومع كلّ القسوة، فإنّ لديها شيئاً من الكبرياء يجعلها توقع به قصاصاً تراه مناسباً لذلك الحبيب الهاجر، ولكنها تعود إلى الحنين معلنةً أنّ قلبه قد احتلّها، وأنّه تحوّل إلى ظلٍّ يلاحقها؛ ظلٍّ لصيقٍ بحرفها، بخوفها، وبعطفها، حتى باتت مرهونة له، يدثّرها بثوب الإثم، فترجوه ألاّ يتركها رعشة في مهبّ رصيف عزلة، بعد أن اعتادت نسائمَه التي تطيب لها في كلّ حين.

فهي، إذاً، تتذلل له، وترجوه ألاّ يهجرها، فتبكي كما في القصيدة السابقة، وتعود إلى كبريائها راجيةً أن يعاملها معاملة الندّ للندّ!

والحقيقة أنّ الربط بين هذه القصيدة وسابقتها هو ما يبدو لأوّل وهلة للقارئ، إلاّ أنّ التمعّن بالكلمات يجعل كلّ قصيدة وحدةً قائمةً بحدّ ذاتها؛ فكلّ قصيدةٍ هي موضوعٌ منفردٌ قائمٌ بذاته، على الرغم من الترميز إلى التواصل بين قصيدةٍ وأخرى!

في قصيدتين أخريين هما "أنفض الغبار عن متحف فمك" و"أوتارٌ متقاطعة" ترسم الشاعرة بالكلمات صورتين لامرأتين؛ الأولى امرأة تترنح في قوارب أحلامها مخدَّرَةً، تعيش في دوّاماتٍ مفرغةٍ من الحروف، ترتشف دمعاً يترشّح حيرةً من ثقوب قلبها على أوتار الذاكرة والنسيان المتقاطعة. بينما المرأة الأخرى ترى في حبيبها ساحراً تشدو له في صلاتها لوعةً، وتفيض ينابيع قلبها حبّاً جامحاً فيه الكثير من نوبات الذهول، فتتحوّل إلى لغةٍ من نوعٍ آخر، وتنقلبُ إلى امرأةٍ برّيّةٍ قطْرها مرٌّ، تتشظّى في سيول يديه عندما يغمرها بطوفانه، فعلى ضفاف روحه تنمو أشجار توهّجها مثقلة بثماره، لأنَ لكلّ عودٍ من هذه الأشجار عصارةٌ، وهو- الحبيب- هو أشهى عصارةٍ لديها! والسؤال: هل هي المرأة أم أنّ الشاعرة تروي قصّة كلّ امرأةٍ على حدةٍ وشتان ما بينهما؟!

كي لا تتهاوى

هذه القصيدة الوجدانيّة الطافحة بالمحبّة الحقيقيّة لدرجة إنكار الذات، هي قصّة إحدى الفتيات التي تخترعها الشاعرة، تتبنى قضيّتها، حيث ترى في الحرمان والبعاد الذي يمارسه الحبيبُ خطورةً عليها، لأنها معرّضة ٌلأن تتهاوى، مع أنّ لديها بعض الأمل في تحويل برق العيون إلى أقمارَ تضيء صحارى الأرواح، حيث الرؤى اللامحدودة في آفاق الأجساد، فتتوجّه إليه طالبة المسامحة، لأنها تؤمن أنّ في حقول صدره متّسعاً لاخضرار حرفها الشقيّ، وأنّ مرافئ عينيها الزرقاوين يجب أن تكتحل بزرقة شعره المتماوجة!

هنا، لو حاولنا قراءة ما وراء السطور والتلميحات الذكيّة، لرأينا أنّ هذا الحبيب هو الوطن الذي لا غنىً عنه، وأنّ محبّة الوطن، لا بل عشقه، يصل إلى درجة التضحية بالروح وليس فقط بالدمعات! تقول:

"سامحني!

إن لم تتسع حقولُ صدْركَ

لاخضرارِ حرفي الشقيّ

إن لمْ تكتحلْ مرافئُ عينيْكَ

بزرْقةِ شِعْريَ المتماوجة" (ص37)

يزيدُ من شوقها إلى الوطن الحقيقيّ؛ حقيقة ضياع هذا الوطن!
وفي قصيدتها "شوقي إليكَ يشعلني" (ص40 –50) تتلوّع شوقاً إلى الوطن الذي تبخّر وتشظى، وهي لا تستغني عن حضن ذلك الوطن الذي يعاني الجفاف، بينما تتحوّل شجونها إلى عزف ناياتٍ علَّها تبعث الحياة في ذلك الضائع الهالك. تقولُ:

"أترطِّبُ بلظى السكونِ نيرانَ أحضانِكَ؟

أتبعثُ شجونيَ الحياةَ في عزْفِ ناياتِكَ؟" (ص50)

فهل تعود الحياة إليه ليعزف على ناياته كما عهدته شاعرتنا؟!

غـربـة

ليس لديّ شكّ في أنّ الشاعرة تعيش جوّاً من الغربة حتى وإن كانت تعيش داخل الوطن! فقلبُ الشاعرة غصّه الحزن وهدّه امتهانُ الروح، وقد رحلتْ أحلامُها على أجنحةِ النّور والظلام، وهربتْ من مداراتِ الرّعبِ الدامي وخرجتْ من جاذبيّة كوكب اللئام! تقولُ في قصيدة "أيائل مشبعة برائحة الهلع":

"عيونُ الشرّ تتربّصهمْ

في كلّ اتجاهٍ وآنِ

تستنفر حواسّ الذّعر

تستثيرهم

تستنفر موْتَهم إلى الموت"! (ص56)

فمن هم هؤلاء المستفَزّون حتى الموتِ إن لم يكونوا أطفالَ الحجارةِ وشهداءَ الانتفاضة؟!

إنها تتحدّث وبذكاءٍ عن شعبنا العربيّ الفلسطينيّ،وعن صور الانتفاضة الحزينة، وعن القتل وهدم البيوت،وعن ضياع دم الشهداء لأنّ أرضَ فلسطين متعطّشة لدمائهم!

وفي قصيدة أخرى تتبنى الشاعرة قصيدة صديقةٍ حميمةٍ قريبةٍ إلى قلبها هي رمزُ للوطن،فتتحوّل بلهجة المتكلّمة إلى ناطقة بلسان هذه الصديقة بقولها:

"على قارعةِ الانتظارِ جلستْ
تتسوّلُ فتاتَ حروفٍ مبعْثَرات
تتناثرُها أعاصيرُ الهجرِ
على مرمى انشطار الحدود"! (ص58)
وتتابع قولها:
"أتراني تشكّلني الأقدارُ دمعا خافتا؟
تنزّني الأوجاعُ أنينا صامتا؟
وتسدِلُ على بؤسي ستائرَ الأعذار؟
.........

فلتنزفْ دماؤُنا وقودَ سراجِ الذكريات!" (ص62-63)
أليسَ هذا ما يشعرُ به الإنسانُ الفلسطينيُّ الذي يحملُ همَّ الوطن، ويسترجعُ ذكريات الماضي عندما كان يعيشُ على أرضِ الوطن؟! هذه الكلماتُ فيها سحرُ الرومانسيّةِ الحالمةِ الممزوجةِ باللوعةِ على فقدان الوطن.

هل بعد هذه اللوحات التي رسمتها الشاعرة حروفاً مضيئةً ووجدانية بقلمها السيّال من كلام؟!

أليس ما كتبه الشاعر الأديب محمّد حلمي الريشة في تقديمه للكتاب صادقاً عندما كتب:

"هل كان هذا هو البدّ الذي لا بدَّ منه؟! أحسّه نعم! إذ أحسستُ وأنا أقرأ شعر الشاعرة القادمة آمال عواد رضوان، أنها تدعو القارئ، قارئها، إلى أن يقلب وضعَ عينيه عكساً، إلى الداخل، ليرى بحسِّ نظرِهِ أوّلاً، كينونة بواطنه المغيّبة بفعل واقعٍ يضجّ شراهة ويجنح افتراساً، مغيّباً حراكاً جمالياً كان يسدل ظلاله النديّة على جفاف الحياة وعطشها العضال." (ص8)

ويضيفُ:
"بسحر هذه الكلمات، ومثيلاتها من/ في معجمها الباطنيّ، تتورّد الحياة حتى في خريفها... إنها صرخات تمرّد القلب مدركاً غياباً لا بدَّ من حضوره، وفقداً لا بدّ من انوجاده.
حقاً.. إنّ الشعر، في حدائق الشاعرة هنا، ناقوسُ الروح منادياً، بإيمانٍ، أنّ القلب حديقة الحياة تستحقّ عشّاقها، وأنّه، بمعنى جديد جميل من معانيه كما رسمته الشاعرة، بسمة لوزيّة تتوهّج على شفاهه!" (ص10)

هنيئا لك أيتها الشاعرة على هذا الإبداع الرائع، وأنا لا أبالغ إذ أقول الرائع، لأنّ لغة الديوان هي نبض لحياة في الكلمات، وهي، أي اللغة، تحمل مدلولات أبعد من معانيها المألوفة، والشعر إذا كان سرداً عاديّاً فقد مصداقيّته كشعر، وتحوّل إلى كلامٍ منثور! فلديكِ تحديثٌ في المبنى اللغويّ وفي المعاني العميقة.
فتحيّاتنا لكِ مع أطيب الأماني بتحقيق حلم الوطن الجريح وعودة المُبعَدين قسْراً عن هذا الوطن.

(كفر ياسيف)


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى