الجمعة ١ آب (أغسطس) ٢٠٠٣
أحمد منير الاسكندراني ـ الأهرام العربي

إبراهيم أصلان . . يكتب روايته على الكومبيوتر:

أكتب لأحقق لنفسي لحظة فرح حقيقية

مهمة صعبة جداً. . وسهلة جداً. . تلك التي وجدت نفسي أقوم بها. . فالحديث الى إبراهيم أصلان الكاتب والروائي وصاحب التأملات المدهشة. . حديث أنيس. . لا تعرف من أين تبدأه والى أين سينتهي . . ومتى سينتهي، فأنت مع أبراهيم أصلان تتبادل حديث الود والتفاهم وتشعر بالأنس. . وتجد صعوبة أحياناً في نقل ما دار بينك وبينه، ليس لأنه أسرار . . أو كلام لا يقال ولا ينشر. . ولكن لأنه كلام منساب ومسترسل وصادق من النوع الذي يطلق عليه، بحق، السهل الممتنع، وسأحاول هنا رصد بعض ما جرى خلال هذا الحديث الحميم الذي ربما كان من الأفضل إعادة ترتيبه بطريقة مختلفة عن مساره الأصلي، بهدف وضع معالم للأفكار التي انسابت خلاله. .

حدثني "إبراهيم أصلان"، وهو بالمناسبة من الأقلية التي لا تحب كثرة الكلام، ولا تحب أيضاً الأحاديث الصحفية، وفي مجرى الحديث كانت عودة الى البدايات. . وذكر بمجموعته القصصية الأولى "بحيرة المساء" التي صدرت في نهاية النصف الأول من ستينيات القرن العشرين فأحدثت مع غيرها من الأعمال الأولى للكتاب المصريين الذين يطلق عليهم "جيل الستينيات"، وقفة . . أو نقلة، فاصلة في مسار أدب القصة القصيرة السائدة في ذلك الوقت، القصة الإدريسية (نسبة الى يوسف إدريس).

 قبل صدور "بحيرة المساء" لم تكن لي محاولات كثيرة . . نشرت، ثم توقفت. . بدأت الكتابة سنة 1962، قمت بمحاولات عدة ثم شعرت بأنها لا تشبهني .. وإنما تشبه أسماء موجودة . . فتوقفت بعد عام. . وعاودت الكرة عام 1965 وهو العام الذي أعتبر نفسي مسؤولاً بداية منه. وبالنسبة الى "بحيرة المساء" لم يكن في ذهني أن أكتب شيئاً مختلفاً عما هو موجود . . ليس أكثر من أن نتلمس ما يمكن أن نقول أنه رداؤك الخاص. . لم أكن راغباً في إنجاز أي شيء مختلف، وفوجئت بردود الفعل حينما نشرت المجموعة . . من الممكن القول أن ما يبقى في الذاكرة الآن مما حدث قبل سنوات طويلة، هو أننا في معظم القصص التقليدية أو السائدة آنذاك أو التي لا تزال سائدة أيضاً، وبصفةخاصة، كنا نعيش حالة مد للقصة الواقعية خلال الستينيات.

لم نكن نبدأ من مفهوم فكري بقدر ما كنا نسعى الى مفهوم فكري. . يقودك في هذه الحالة إحساس فكري تجاه الزمن الذي تعيشه. . احساس يكشف ملامح أيامك. . وأيام الناس الذين يحيون حولك، وتسعى الى إعطاء هذا الإحساس روحه.

ولم يكن الغرض بصراحة. . أن أنجز عملاً مختلفاً ومغايراً بقصدية. . ولكنك تسعى بنبرتك الخاصة الصادرة من القلب، وما هو مشترك بينك وبين الآخرين. .

يمسح أكثر مما يكتب!

إبراهيم أصلان الذي ولد في منتصف الثلاثينيات من القرن الماضي، وبدأ الكتابة في منتصف الستينيات، يحدثنا الآن ونحن نقترب من منتصف العقد الأول من القرن الواحد والعشرين عن شيء مختلف. . فعندما بدأ الكتابة كانت له خبرة طويلة "كموظف تلغراف"!. .

يكتب كثيراً. . ويكتب بالقلم الرصاص، ويستخدم "الأستيكة" (الممحاة) ليمسح بها ما كتب. . ويروي أنه كان يمسح "بالأستيكة" أكثر مما يكتب بالقلم الرصاص!

ويكرر كثيراً أنه كاتب "موسوس"كتب نصوصاً وقصصاً وروايات ومسحها بالاستيكة ولم تظهر لجمهور القراء على الإطلاق!. . ومزق أوراقها!.

والآن يكتب رواياته على الكومبيوتر مباشرة! روايته الأخيرة "عصفور النيل" كتبها على الكمبيوتر بالكامل. . وله مع هذه الرواية حكاية فقد بدأ يتلمس ملامح تجربة الكتابة في هذه الرواية في بداية الثمانينيات. . و"قمت بنشر بعض مشاهد منها في مجلة "الدوحة" وبعض الأماكن الأخرى. . وظلت الرواية تناوشني عن بعد. . حاضرة، لكنها ليست موضوعاً للكتابة، بل هي موضوع للانشغال الدائم. . وأثناء انشغالي بها كتبت روايتي الثانية "وردية ليل".

و"عصافير النيل" روايتي الثالثة شعرت أنها أعطتني الإحساس بالراحة، لأنها المرة الأولى التي أكتب فيها رواية مثلما أريدها بالفعل، وكأن كل ما استهدفته طوال عمري قد حققته الآن. . سواء على مستوى التجربة أو على مستوى التعبير عنها.

ففي روايتي الأولى "مالك الحرير". . والثانية "وردية ليل" كان هناك شيء يعنيني ولا يعني القارئ وهو محاولة التغلب على بعض المشاكل الفنية من أجل التوصل الى كتابة رواية على نحو يرضيني. . الرواية كما أتصورها.

و"عصافير النيل" رواية شديدة المصرية. . أبطالها من بسطاء القوم .. من هؤلاء الناس الموجودين في كل الأحياء الشعبية . .بشر على هامش المتن الاجتماعي رغم أنهم صُناعه .

  هذه رواية استغرقت 20 عاماً .. فهل كنت طوال هذا الوقت تبحث عن صيغة لها؟

 كنت أهرب منها غالباً . . فأنا عادة ما أهرب من الكتابة بتمزيق ما أكتب أو مسح ما وبعد أن تعلمت الكتابة على الكومبيوتر واستخدمته في كتابة هذه الرواية بالذات، اكتشفت إنه سهّل علي مهمتي أكثر. . أقصد مهمة المسح والإلغاء وليس مهمة الكتابة. فالكمبيوتر له قدرة فائقة على مسح أي شيء والإزالة في ثانية واحدة.

  رواية "مالك الحزين" استغرقت منك عشر سنوات كما نعلم. . هل هي مسألة "وسوسة"؟!

 "مالك الحزين" ليست إلياذة حتى اكتبها في عشر سنوات، بدأت كتابتها في عام 1972 مع مظاهرات الطلاب في ميدان التحرير والمصادمات مع الشرطة، بدأت الكتابة بإحساس معين وجرت حرب تشرين الأول (اكتوبر) كي تنسف هذا الاحساس تماماً فتوقفت، وقد أحسست أن مشاعري أخذت طريقاً آخر. . ثم انتهت الحرب وعاد الي نفس الاحساس، وكأن الحرب كانت فاصلة حتى تستمر الأمور على ما كانت عليه. . وأريد أن أقول أنني كنت منشغلاً بالرواية طوال العشر سنوات.. وهذا لا يعني أنني ظللت طوال العشر سنوات منشغلاً بكتابتها . . ونعم أنا "موسوس" . . وهذا أمر واضح. .

جيل "إبراهيم أصلان"

وعودة الى الحديث عن جيل "إبراهيم أصلان" جيل الستينيات.

يقول: إذا سمحت لنفسي أن أتحدث عن جيلي. . جيل الستينيات.. فما كان يميز جيلنا أنهم رافضون لمجمل المقولات المطروحة، لأنك تعرف أن أي صيغة فنية ما هي إلا تعبير عن صيغة اجتماعية مقبولة. فهي لم تكن اختياراً عفوياً، هي كتابة عفوية نتيجة مكونات مختلفة ورؤية مختلفة. . فتلقائية الكتابة لدي ولدى جيلي لم تكن قدرية.

لا يكتب نفسه .. ولا آلامه!

ونصل الى موقف "إبراهيم أصلان" من مزاجية الكتابة . . فهو كثيراً ما يردد أنه لا يكتب نفسه . . ولكن يكتب خبرته.

يقول: الكتابة ما هي إلا عملية تهجين. . فإما أن أكتب عن تجربتي وخبراتي وحياتي، وهذه مسألة تيسر عملية الكتابة جداً. . أو أن أكتب بتجربتي وخبراتي وحياتي. . بمعنى أن أكتب بهذه الأشياء وليس عنها. . وهذا ما أفعله فعلاً. فآلامي لا أكتب عنها . . بل أكتب بها. . ولهذا أقول أن تجربتي ليست موضوعاً للكتابة، لكنها أداة للتناول.

وأنا أكتب بمزاج كاتب القصة القصيرة ولا أقصد أن تكون النتيجة رواية .. وإنما كتاب كبير حول عالمي. . كتاب غير خاضع لمواصفات براقة. . وليس خاضعاً لشروط كتابة مسبقة. . تنصاق من رغبة في طرح تصور معين لو ملامح تصور أكثر تقدماً. . أو أكثر قدرة على إغناء تجربتك وجعلها أكثر تأثيراً وتواؤماً مع رؤاك.

صراع قاتل مع أدواتي

  ويثور الكلام حول السبب وراء الكتابة، هل تكتب لأن تجارب الآخرين تشقيك. . أم تكتب حباً في الكتابة مع أنك تهرب منها؟

 حينما أكون مشغولاً بالكتابة، لا أفعل ذلك، لأن هناك من سيقرأ لي.. لكن لأن الكتابة تعجبني هكذا. . أنا أكتب لأحقق لنفسي لحظة فرح حقيقية، وأدخل في صراع قاتل مع أدواتي حتى أصل لحلول أحقق بها فرحي.

وأعتقد أن الكاتب لا يجب أن يكون موضوعاً للكتابة لأن رجل الشارع العادي، يعيش بطريقة أكثر خطورة. . وقيمة التجربة ليست بتفاصيلها ولكن بما تفعله في صاحبها. . ولهذا اقول أن تجربتي ليست موضوعاً للكتابة ولكنها أداة لها. . ودائماً نجد أن ما يصنع قيمة للنص والدلالة ليس ما هو مكتوب . . ولكن الغائب الذي كتب به المكتوب. . أو ما يسمى بـ "المسكوت عنه".

أكتب لأحقق لنفسي لحظة فرح حقيقية

مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى