الاثنين ٢٠ حزيران (يونيو) ٢٠١٦
بقلم عزة رشاد

مجموعة «أنا وأنتِ» لأحمد الخميسي.. التشبث بالأمل

"ليس من السهل أن تعلِّق عشرين رجلًا مرة واحدة" لكنهم فعلوها في.. "ليلة بلا قمر"، برابرة قِدام ومعاصرون، لا يحبون الكلام.. "اغلق فمك. إنه طريق الشيطان إلى المؤمن"، علَّقوا العشرين بعد أن شنقوهم ثم أخذوا يفحصون الغنائم.. "خواتم بفصوص كريمة ومسامير من الذهب.. إلخ". ولهذا لن تعييهم الحِيلة لتعويض المشنوق الناقص.. "ننتظر إلى أن يرزقنا الله.... ويفك كربنا"، يقتلون بدم بارد ولديهم ميكانيزمات تسويغ للجريمة وترييح للضمير، ولهذا سيمسح أحدهم وجهه بيديه بعد القتل مباشرة ويرفع يديه بالدعاء.. "لك الحمد والشكر".

الأمل في "روح الضباب" ليس مصادفة بل خيار وجودي، كما لن نحتاج التفتيش عن البرابرة فهم واضحون، حتى لو لم يظهر أحدهم في المشهد القصصي المُروِّع، حيث.. "تنحل الطرق وتذوب جوانبها أمام عينيه"، وآثار بربريتهم واضحة.. "صرخات صغيرة من حوله وفوقه تهرس أذنيه برنين أبيض قاطع" وذاكرة تتقلب.. "كان الناس يُقتلون ويُعذبون أمامنا و..." هل كانوا مثل "كيفين كارتر: المُصوِر الذي التزم بدور المتفرج ثم عجز عن احتمال اللوم فانتحر؟"، أيًا كانت الإجابة فها نحن نصل إلى.. "البقاء هنا انتحار"، وبينما تستمر كابوسية واقعنا فإن السارد يختار أن ينهي قصته بهذه العبارة المفتاح لأغلب قصص المجموعة: "لايمكن أن يحكموا علينا بالعزلة والموت. سنخرج معًا. سأمشي بجوارك لا أفارقك خطوة بخطوة".

الأمل في علاقته بالحب:

عن تجاوز المسافات الجغرافية والنفسية، وعن انهيار الجدار
الأمل في خلود الحب لا يكابده المتصوفة وحدهم، بل قد يحدث في حياتنا العادية، وإن في أحيانٍ نادرة؛ هذا الأمل يتجسد في قصة "أنا وأنتِ"، حيث المقاومة المستميتة للفناء.. "يجلد قلبي أمل لا يموت"، حتى لو أن الحبيبة منذ سنوات.. "تمدين بصرك إلى الجدار الأزرق الفاتح خلف ظهري"، حتى لو كابد السارد.. "ثمت قلق ومحبة وعزلة مؤلمة"، حتى لو لم تكُّف الحيرة عن تعذيبه.. "فقط لو تقولين لي من منا الذي..... لم يعد يرى الآخر؟" في قصة تُشبه صورة غائمة يحطِّم فيها الحب الجدار بين الحياة بالموت، كما يختلط فيها الواقع بالحلم وبالمتخَيل والمُتوهَم.

في قصة "سأفتح الباب وأراكِ يومًأ" التي تبدو كقصيدة عشق خالص، صوفي المنحى.. "كل ما يفصلني عنكِ يغرقني، كل ما يصلني بكِ يُغرقني"، لا ينفك الأمل يلعب دور البطولة ويتحدى.. "حتى لو لم تظهري أبدًا سأراكِ"، لأن.. "ما جاء وردة، يرحل وردة"، ولأنه العاشق الذي.. "وحده لم يفقد الأمل...، وحده.... أكبر من اليأس" ولأنه لا يُصغي لمن يقولون له.. "عليك أن تذعن للفراق، كما يواجه الإنسان موته بشجاعة المرة الأخيرة للشجاعة"، لا يُصغي بل يُصر على فتح الباب والانتظار، ولكن... "لا صوت ولا صدى"،، ولا لحظة لقاء قبل النهاية، فقط.. "سأفتح الباب وأراكِ يومًا".. وهذا الأمل لا يمكن لأحد أن ينتزعه منه.

"أليونا" تبدو كأنها قصة التوق الذي لا ينتهي إلى الحب، التوق الذي يجعل رجل في منتصف العمر متزوج ولديه أبناء وحياة مستقرة "أي رتيبة بمعنى ما"، يُغرم بمراهِقة لم تكد تخرج بعد من طور الطفولة، "أليونا" قصة التمزق النفسي بين هذا الحب وبين ما سيترتب على تحققه من تداعيات، ويبدو السارد "المتعقل بمعنى ما" قد اختار أن يبتعد ويظل يكابد الرغبة والأمل في رؤية أليونا مجددًا؛ وعندما يلتقيها بعد سنوات طويلة في ظروف لا تمنع تحقق هذا الحب يكتشف أنه.. "لم يكن يشتهي أليونا طوال هذه السنوات"، ربما كان يتوق إلى احتياجات... تخصه، يكتشف أنه.. "لا يحبها، لم يحبها من البداية"، كاشفًا النقاب عن اشتهاء خفي لديه كرجل لحب "أليونا: وهم مكابدة الحب المُحرَّم، الحب المستحيل، ما يشير إلى أن كل ""رجل"" في الغالب، يصنع "أليونته" بنفسه.

اقتناص لحظات مؤثرة وشخصيات ذات حمولة إنسانية عالية

في قصة "الخطوبة": نتعرف إلى رجل يستعد لاستقبال شاب آت ليطلب يد ابنته، وهو من فرط القلق والترقب ينشط ذهنه ويستبِق الحدث بتخيل ردود أفعال الزائرين.. "يسترقون النظر ألى ما حولهم/ يمهد والده الطريق بحديث موزون عن أن الطيبين للطيبات"، حائر.. "هل يهز رأسه ببطء محتميًا بالوقار والرصانة؟ أم يُطلق فرحته لتتواثب في عينيه؟ أم ..؟" هذا الأب يبذل جهدًا، يشيل ويحط، ويعيد ترتيب المكان من أجل أن يبدو أفضل ما يُمكن، ثم يرتج من فرط الذهول عندما يرتفع صوت والد العريس بالطلب المتوقع تمامًأ.. "يُشرفنا نطلب يد ابنتك". وفي لحظة مكثفة تتزاحم الصور.. "صور بيضاء من الطفولة والأبوة والحب رفرفت قبل أن يطمرها الزمن القادم"، والمقصود بالزمن القادم.. "انسلاخ حياتها عن حياته"، لحظة مكثفة فيها.. "فرح رقيق داخل حزن"، وسعادة.. "كيف يمكن أن تكون مؤلمة هكذا!!".

الأمل في القيم الانسانية النبيلة يتجسد في قصة "بالميرو"، حيث المفاجأة الطريفة.. "هذا بيت وليس كافيه"، وحيث.. "بالميرو من الناحية الأخرى"، بينما يبقى الأمل في وجود بشر يحتفون بالإنسان أيًا كان اسمه، جنسه، عمره، وظيفته، لونه، جنسيته، دون أن يتوقف كل شيء على أن.. يدفع الحساب، سواء في "قلعة محج" أو في غيرها.

ذاكرة طفل في السادسة من عمره هي البطل في قصة "بيت جدي" حيث يشير السارد ضاحكا إلى أن طرافة ملاحظات الطفل لن تنفصل عن مآخذ سيسجلها تاريخه الشخصي على من سيخذله، وكأنه بهذا ينبِّه من يهمه الأمر: أحسنوا معاملة أحفادكم لأن كل شيء سيُحكى أو سيُسرد. فصورة الجد العظيم النبيل القديس "هذه الصورة المفتعلة" مُحطَمة هنا تمامًا ومُستبدَلة بأخرى حقيقية: جدٍ كسول واسع الخيال وكثير الأكاذيب ولا مثيل لطرافة الحكايات عن نوادره وقفشاته.. "الكُتب التسعة التي تألفت منها كل مكتبته" و.. "يُطري الليمون بدعكة في فروة رأس من يقع منها تحت يديه"، و.. "كان جدي معلمًا بالمدرسة ثم رفتوه لأنه نِكدي وكل يوم بخناقة"، و.. "كان أستاذًا في "المريسة"؛ ولكن أيضًا هذا الجد... "إذا تسللت أصابع أحدنا الصغيرة لأكثر من نصيبه لسع جدي عليها بكفه الثقيلة، كان يراقب الجميع بعينين مفتوحتين وهم يأكلون ليضمن أن الخبز سيكفي الأفواه النهِمة كلها وأن عدالة الفقر ستتخذ مجراها"؛ نزْع الطفل السارد القداسة أيضًا عن العائلة ككل بالكوميديا أكثر مما بالتهكم.. "سُمعتنا العطِرة (أمراض جلدية) لم تمنعنا من مواصلة دورنا الرئيسي وهو النمو في الشارع العِرَّة المُسمى بشارع السروجي". أما الجدة التي هي حمامة مستكينة فقد إزداد حوَل عينيها بعد أن ضيَّع الجد "الصقر" أرضها، وصارت بطيئة الحركة نادرة الكلام مع فشله في مشروعه الاستثماري: "دكان"، ولم تفرد جناحيها في وجه هذا الصقر إلا مرة واحدة عندما عزم على رفع قضية على اخوتها.. "إذا رفعت قضية هأسيبلك البيت وأمشي"؛ كما تفترش الأم مساحة معتبرة، أما "سعاد" أخت نُصْحي فهي حب الطفولة الأول.

بيت جدي قصة مكان مختلف، زمان مختلف، ولكن جوهر إنساني واحد مهما تنوعت مظاهره، وهي تبدو مثل فصل من رواية سيرة، لا تُبجِّل الماضي ولا تُهوِّن من شأنه، سيرة توسِّع من المجال البصري تاريخًا وأجيالًا في المقام الأول.
& وإذا كانت القصص السابقة قد استمدت جمالياتها من اختيار لحظات مثقلة بالمعنى وشخصيات ذات حمولة إنسانية عالية، واقتنصت قدرتها على الإدهاش من تعقيدات دواخل البشر وعدم وضوحها، واكتسبت زخمها من تفصيلات وجزئيات موحية وذاكرة مفتوحة أفقيًا: على عالمنا اليوم: بلدان وشعوب أخرى، وتاريخيًا: حرب 1956 وغيرها، كما اتكأت في شعريتها على ضمير المتكلم في أغلب القصص لكي يناسب كشف أعماق وأغوار الشخوص، ولهذا احتاجت في سردها إيقاعًا هادئًا بما يكفي لتأملها وكشف خبيئتها؛؛ أما القصص التالية فأتصور أنها اختارت التكثيف والاقتصاد اللغوي وهذا القص القصير اعتمد التجربة المناوءة، فهي ليست حكاية آدمي يستعيد حقيقته كعصفور، وآخر يتحول إلى شجرة، أو مرآة قررت ألا ترانا، ليست كذلك حكاية قمر خاصمنا وكفَّ عن إلهامنا، أو طفل يأكل الماء، بل هو خيار جمالي بعدم التشبث بعالم "واقعي" مستهلَك، وكذلك بتفكيك الثابت وتشييد بدائل وخرافات صغيرة، ولهذا اتسعت رغم قصرها لظواهر مثل: التناص مع بعض الأساطير والحكايات القديمة، واعتمدت التداعي الحر أحيانًا، كما تلاعبت بالمفاهيم القاطعة للزمان والمكان، ومالت للتجريب كما استخدمت تقنية الكتابة عن الكتاب في إحدى القصص.

الواقعية السحرية بدلًا من واقعية الدمار:

&في "سماء ضائعة": رحلة فقد واستعادة السماء "أو: الحرية والكبرياء المنتهك"، فبعدما اعتادت العصافير مع جريان نهر الزمن أن تكون.. "سماؤها برك المياه في الشوارع"، كما ألِفت مناقيرها.. "ضرب الأرض بحثًا عن فتات الطعام وقطرات من الماء"، ولكن يحدث أن تضيق بها الأرض.. "وقف عصفور بقميص نصف كم وسروال أزرق أمام محل يسأل صاحبه عملًا"، ويتعرض للغبن والإذلال، عندئذٍ يضرب ويضرب حتى يستعيد "عن قصد أو غير قصد" مكونها الطيري، فخطواته.. "أقرب إلى خطوات جده العصفور الأول"، كما تصلَّب أنفه...، و.. "هزته فطرة عريقة...... ورفرف بذراعيه بحثًا عن السماء الضائعة". التي هي قد تكون رمزًأ للحرية الضائعة، أو للرقي أو الكرامة الضائعة أو غيرها، لكن يبقى الأمل في استعادتهم مرفرفًأ.

تبدو قصة طرح القلب مثل سيرة تحول الكائن من.. وإلى، حيث الفوح هو أول ما لاحظه السارد.. "شم في أنفاسه العطر ذاته، أدرك أنه هو مصدر ذلك الفوح"، عندئذٍ "وبعيدًا عن الأسباب" يبدأ التحول في الحدوث.. "قدميه وساقيه قد تخشَّبت/ أصابع قدمه تطول وتنغرز في التربة/ ذراعيه تستطيلان لأعلى كفرعين/ مالبث الورد أن نما من خصره وصدره وعنقه". نمت الشجرة وحولها نمت الأساطير.. "كل من يجلس تحتها يغدو متيمًا مولعًا"، حتى تحولت إلى مزار سُمي "طرح القلب"، وتنتهي القصة بغرابة حاضرنا.. "مازالت الحديقة مزهرة إلا أن البعض يعبر اليوم بجوارها مسرعًا فلا يراها.
&في قصة "مرآة": لا يبدو أين يبدأ الحلم.. "ينظرون إليّ معًا برصانة وصمت"، أو متى يتحول إلى كابوس.. "أحسست بالمكان خاويًا موحِشًا"، أو كيف يتحول العقل إلى مرآة تومض في العتمة.. "يظهر حقل ممتد... عفاف التي أحبها منذ الصِغر. عين جدتي الطيبة الحولاء. أمي ممسكة بكفي نقطع شارعًا طويلًا ..إلخ". أو حقيقة مشروعية هذه التخوُّفات.. "إذا فارقتني هذه الصور فلن أرى نفسي ثانية".

وفي مستوى آخر تحيلنا "مرآة" للهموم الفلسفية حول حقيقة الميلاد، وأيهما الأصل: الموت أم الحياة؟ وعن الذاكرة والحياة: من منهما تحمي الأخرى؟ وفي الغالب لا نهاية للمرآة ولا حتى بتهشمها.. "كما يشعر الأعمى بالضوء على جلده، شعرت بالظلام الذي يعم، لكني لم أره".

قصة "النور": لا تنتقد التقدم التكنولوجي والاستغلال المجحف للطبيعة رغم أشارتها إلى كوننا نحن البشر من دمرنا القمر "وتجسيد ذلك في شخصية الصياد"، لا تفعل ذلك بل تقترح أسطورة جديدة لتفسير مجافاة "السماء أو الطبيعة" لعصرنا، حيث.. "أخذ الصياد الذي صاد القمر يحطمه بمعول ضخم إلى قطع وشظايا صغيرة"، وبعد تعبئته وبيعه واستثماره.. "أصبح في كل بيت نور، لكن لم تعد السماء تلهم البشر دروب العشق".

&قصة "الصبي الذي يأكل الماء": قدمت فجاجة الواقع: الطفل الجائع ومثل ملايين، ثم أشركت القارئ في كيفية الكتابة "الكتابة عن الكتابة" عندما قال السارد.. "خطر لي أن أجمع معلومات عن الأطفال الذين يشبهونه" وهكذا بدأ بجمع وثائق مشحونة بالدلالات، ثم بدأ بين كل وثيقة وأخرى ينمو الحدث القصصي المتخيل.. "لابد من اسمٍ للصبي، ولابد من مكانٍ يعيش فيه" يفكر السارد المؤلف، هذا التناوب أو التضفير بين الواقعي الوثائقي الجاف وبين المتخيل الإبداعي لقصة واقعية عن طفل جائع فقير خففت منه إضافة صورة شعرية مائزة هي صورة الصبي الذي ينمو على الماء مثلما تنمو الزهور، هذه الصورة المفعمة بمقاومة الموت وبالأمل في الحياة، التي تعيدنا لقصة "روح الضباب"... "إن فقدنا الأمل.. نكون قد فقدنا كل شيء".
"أنا وأنتِ" كتاب يجمع خمس عشرة قصة متنوعة ومتباينة الحجم من صفحة واحدة إلى أكثر من خمسين صفحة، أي أن بعضها قصص قصيرة جدا وبعضها متوسطة وبعضها قصص طويلة، وكلها تحتفظ بجوهر فن القصة القصيرة، وهو الكتاب القصصي الرابع للكاتب الصحفي والناقد والقاص أحمد الخميسي بعد: قطعة ليل، وكناري، ورأس الديك الأحمر؛ أو الكتاب السادس إذا أخذنا بعين الاعتبار كتابين آخرين ساهم فيهما مع آخرين "الأحلام، وطيور الكرنفال" مع: أحمد هاشم الشريف، محمود يونس؛ و"الأجيال الثلاثة" مع: عبد الرحمن الخميسي وآنا أحمد الخميسي".

هوامش:

 "أنا وأنتِ" مجموعة قصصية إصدار دار كيان للنشر - القاهرة 2015

 د. عزة رشاد كاتبة وروائية مصرية معروفة صدر لها: " نصف ضوء" ، و" بنات أحلامي" و" ذاكرة التيه" و" شجرة اللبخ"


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى