الأحد ١٠ تموز (يوليو) ٢٠١٦
بقلم فاروق مواسي

قرأت فانزعجت!

ابن مقلة (868- 940م)-

الخطاط الفنان
تٌـقطع يده، ثم اللسان

تقديم:

ما أكثر الجرائم والمصائب التي حاقت بعدد من الأدباء والفنانين، بل والفاتحين في تاريخ الأدب، وكأن الحدث يعنينا اليوم،
وأنا لا أظن هنا أن لأمريكا يدًا في ذلك!!!

ابن مقلة الشيرازي صاحب خطٍ حسنٍ، أبدع في هندسة الحروف، وقدّر مقاييسها، وكان خطه يضرب به المثل، وهو كذلك وزيرٌ وأديبٌ. عُرف هذا الوزير الخطاط بابن مقلة، لأن له أمًّا كان أبوها يلاعبها في صغرها ويقول لها: "يا مقلة أبيها"، فغلب عليها هذا الاسم واشتهرت به.
كان جده خطاطًا، وأما أبوه فقد كان استاذه الذي علّمه الصناعة.

كان من إنجازات الخطاط ابن مقلة أنه أول من هندس حروف الخط العربي، ووضع لها القوانين والقواعد، وإليه تنسب بداية الطريقة البغدادية في الخط.

وهو أول من كتب مصنفًا في الخط العربي ذكر فيها مصطلحات هذا العلم البديع، مثل "حسن التشكيل" وهي التوفية، والإتمام، والإكمال، والإشباع، والإرسال، ومصطلحات "حسن الوضع" - وهي: الترصيف، والتأليف، والتسطير، والتنصيل. كما أنه وضع قواعد دقيقة في ابتداءات الحروف وانتهاءاتها، وفي علل المدّات، وأنواع الأحبار، وفي أصناف بري القلم.

وضع ابن مقلة قواعد خط النسخ، وأُطلق عليه النسخ لكثرة استعماله في نسخ الكتب ونقلها، لأنه يساعد الكاتب على السير بقلمه بسرعة أكثر من غيره، ثم كتبت به المصاحف في العصور الوسطى، وامتاز بإيضاح الحروف وإظهار جمالها وروعتها.
ذُكر في (صبح الأعشى) للقَـلَقَـشَنْدي عن خط ابن مقلة:

"ثم انتهت جودة الخط وتحريره على رأس الثلاثمئة إلى الوزير ابي علي محمد بن علي بن مقلة، وهو الذي هندس الحروف وأجاد تحريرها، وعنه انتشر الخط في مشارق الأرض ومغاربها".

وقال عنه ياقوت الحموي في (معجم الأدباء):
"كان الوزير أوحد الدنيا في كتبه قلم الرقاع والتوقيعات، لا ينازعه في ذلك منازع، ولا يسمو إلى مساماته ذو فضل بارع ".

جدير بالإشارة كذلك- إلى أن ابن مقلة كان قد كتب كتاب هدنة بين المسلمين والروم بخطّه، فكان الروم يبرزونه في أعيادهم، ويعجبون من كونه غاية في فنه.

أما في الشعر فقد تردد ذكر (خط ابن مقلة) في شعر الكثيرين في عصورهم المختلفة على أنه النموذج الأعلى في الفن، ومن أجمل ذلك ما ورد في كتاب الثعالبي (يتيمة الدهر)- في مدح أبي الفضل الميكالي:

لك في المحاسن معجزات جمّة *** أبدًا لغيرك في الورى لم تُجمـعِ
بحران: بحر في البلاغة شابه *** شعر الوليد وحسن لفظ الأصمعي
وترسّل الصابي يزين علوّه *** خطّ ابن مقلة في المحلّ الأرفع

(الثعالبي- يتيمة الدهر ج4، ص 355)
يضيف الثعالبي في مكان آخر:
"خط ابن مقلة يُضرب مثلًا في الحسن، لأنه أحسن خطوط الدنيا، وما رأى الراؤون، بل ما روى الراوون مثله"!

العذاب:

تقلَّد ابن مقلة الوزارة ثلاث مرات، لثلاثة خلفاء عباسيين هم- المقتدر بالله، والقاهر بالله، والراضي بالله، ثم وُشي به، فقطع الراضي بالله يده اليمنى، وقيل أنها أُلقيت في دجلة!

كان يبكي على يده ويقول:

"قد خدمت بها الخلافة ثلاث دفعات لثلاثة من الخلفاء، وكتبت بها القرآن دفعتين، تُقطع كما تقطع أيدي اللصوص"!!!

ثم أخذ يكتب بيده اليسرى، وقيل كان يشدّ القلم على ساعده الأيمن وهو مقطوع اليد، وكتب أبياتًا مفعمة بحزن، فقال:

ما سئمت الحيـاة لكن توثقـ (م) تُ بأيمـانهم فبـانت يميني
ولقد حُطتُ ما استطعت بجهدي *** حفظ أرواحهم فما حفظوني
ليس بعد اليمـين لذة عيـشٍ *** يا حيـاتي بانت يميـني فبيني

ثم استمر الكيد له، فقُطع لسانه وحُبس، فكان يستسقى الماء من البئر، ويجذب الرشاء بيده جذبة وبفمه جذبة أخرى، وبقي في الحبس إلى أن مات، فدُفن في دار السلطان، ثم حُمل فدُفن في داره، ثم أُخرج فدفن في مكان آخر. (حتى في موته يُعذَّب).


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى