الأربعاء ١٣ تموز (يوليو) ٢٠١٦
بقلم محمد علّوش

تحت قوس النار والشعر

قراءة مصاحبة للتجربة الشعرية للشاعر الراحل علي الخليلي

بقي الشاعر الفلسطيني الكبير علي الخليلي يطور قصيدته طيلة حياته الحافلة بالإبداع والتجريب، منوعاً في طرائق كتابته الشعرية ما بين قصيدة قصيرة مكثفة ذات نهاية مباغتة، وقصيدةٍ طويلة تستلهم التراث على نحو ما، وتستلهم في الوقت نفسه مأساة شعبنا الممتدة من منظور فكري أكثر عمقاً وإحاطة، بلغةٍ جديدة متقنة فيها بساطة اليوميّ ورصانة التراثيّ، تعبر في حالات غير قليلة عن شغف علي الخليلي بالمكان والتصاقه الحميم به، خصوصاً حينما يتعلق الشعر بنابلس، مدينة طفولته وصباه، أو بالقدس، مدينة نضجه وتبلور رؤاه وكل المدن التي أحبها وأحبته، بل كل فلسطين التي عشقها حتى أخر لحظة من عمره، حيث نلمس الصدق الفني والتعبيري والبساطة الآسرة في مجمل هذه التجربة التي استمرت عقوداً وعناقيد من العطاء والثراء الشعري والأدبي بمختلف تكويناته الوطنية والإنسانية والوجدانية.

وفي قصائده تناول الوطن بكل تكويناته المكانية ممثلة بالمدينة، القرية والمخيم، فمثلت المدينة في قصائده الحصن المنيع وعمق جذور الانسان الفلسطيني من خلال إبراز معالم المدينة المختلفة، أما القرية فمثلت في قصائده العمق التاريخي من خلال إبراز قيم الفلاح، فالفلاح هو الذي يشكل الحماية للأرض، وهنا يبرز التلاحم الروحي بين الانسان الفلسطيني وأرضه، أما المخيم فكان يمثل في قصائد علي الخليلي مأساة الشعب الفلسطيني الذي أُقتلع من جذوره، حيث يقول في قصيدة " هات لي عين الرّضا هات لي عين السّخط " ( الأعمال الشعرية المنجزة – المجلد 3 ):

" عواف
لتطحن من حنطة الرّوح،
من حفنة الصّابرين
طحين الشّغاف
وتملأ خابية الجائعين الضّعاف
وتسقط في بئرها دونهم
نجمةٌ، لا شهودٌ ولا قبّرات
العيون
تؤرّخ صرختها في المطاف
عواف، عواف
لقد برّأتك الرّياح
فماذا تخاف
وماذا ترشّ على الماء بالماء،
من بذرةٍ شرشّت في الجراح
... " ص 227-228

وكان الشاعر علي الخليلي حرصاً كل الحرص على التنوع في أساليب الكتابة، حيث أنتج ما يزيد عن أربعين مؤلفاً، وهذا يدلل على قدر من التوهج والاستعداد للكتابة في أصعب الظروف وأكثرها تعقيداً وانتهاباً للوقت.
وعلى الرغم من انشغال علي الخليلي في سلك العمل الوظيفي وفي العمل الصحافي سنوات طويلة، فإن هذا الانشغال لم يستطع أن يحد من اتساع الحيز الذي ابتكره لنفسه، ليعطينا أعمالاً أدبية ومجموعاتٍ شعرية ودراسات نقدية جعلته في طليعة المنتجين للفكر والثقافة والشعر، ومن كبار الذين أغنوا هويتنا الثقافية وأمدوا ثقافتنا الوطنية الفلسطينية بالكثير من عناصر الحيوية والجدارة.

علي الخليلي مثقف نموذجي، عاش حياته لهدفه، وتماهت سيرته الشخصية بسيرته الإبداعية والنضالية، عاش الاحتلال وعانى منه واكتوى بناره وسجونه وعنجهيته، ولكنه رغم كل الإحباطات وخيبات الأمل، مارس دوره كما ينبغي وكما يجب، كانت الكلمة ملكوته وفضاءه، وكانت القصيدة سلاحه وبوحه وبوصلته.

الشاعر علي الخليلي التزم في شعره بالواقعية ومفهومه للشعر كان أكثر شمولية وخاصة عند ضياع الوطن فلسطين، على اعتبار أن الشعر هو الفن الذي يعبر عن واقع الأمة كونه شعراً صادقاً في تعابيره وأفكاره ومضامينه، حيث يقول في قصيدته " ملحمة صغيرة من عنق النخلة " ( الأعمال الشعرية الناجزة – المجلد 1 ):

" انقلبي أيتها الحدائق
وعانقي المشانق
والنفط والبنين والبيارق
واحترقي
احترقي
وبعثري الحرائق
لو نضحك
جاءت الطائر، فانتبه أطفال عين الحلوة
تحرقت بنادق
وانتصبت خنادق
وقامت الأشجار تبحث عن الضوء
أخرجت الطائرة لسانها الناريّ وحاولت، حاولت أن
تحصد الأطفال والشجر والأكواخ والبنادق " ص 431- 432

في شعره نرى الوطنية بأبهى صورها ووضوحها، فإلى جانب الإصرار على المقاومة والثورة، نجده صوتاً إنسانياً رهيفاً يتلمّس عذابات شعبه ومعاناته كمسألة إنسانية فائقة الرعب، ونجده العقل المنفتح على الثقافة الإنسانية التاريخية والمعاصرة، فلم يكن لسان حال المقاتلين في خنادق المواجهات، ولا لسان حال الأشجار والأحجار التي تئن تحت وطأة الإحتلال، ولا لسان حال شعبه الذي يتعرّض للإقتلاع فحسب، بل كان، إلى جانب كل ذلك، ناياً غائراً بأنغامه الحزينة والمتمرّدة معاً، حيث يقول في قصيدة " انتشار على باب المخيم " ( الأعمال الشعرية المنجزة – المجلد 1 ):

" لن يصبح الشّهداء مقبرةً
ولن يكونوا كعكة الأعياد
للأولاد
والأحفاد
نأكلها ونأكلهم ونمضي في المقابر
والدّفاتر
والحناجر
ثم ننسى، ثم نمشي في المخيّم
يا ركاماً
يا ركاما " ص 526-527

ويقول شاعرنا الكبير في إحدى مقالاته عن تجربته الشعرية: " مع الشعر، تعلّمت أن فلسطين وطني، وفلسطين قضيتي، وفلسطين إنسانيتي، تتجلّى في نسيج هذا العشق، صعوداً إلى المعرفة العميقة لموسيقى النفس وموسيقى الكون كله ".
ففي رحلته الشعرية حرص الخليلي على أن يشتغل على نصه الشعري وأساليب كتاباته الشعرية التي لازمها التجديد والتجريب دائما دون أن يتوقع بقالب شعري ثابت بعيداً عن تلك القوالب الجاهزة التي أسرت العديد من الشعراء، وفي هذه الرحلة ظلّ علي الخليلي يحاول اختراق الصعب في اللغة وفي المعنى نحو اكتمال الصعود الذي حافظ عليه مستمراً ومتواصلاً، ويحاول أن يجد التوزان الذي يرضى عنه في الفكر السياسي كما في الوجدان الإنساني، منتمياً للوطن وللقصيدة والحقيقة ويعلن موقفه بصدر مكشوف، يتأمّل كارثته كإنسان وُجد على هذه الأرض العابقة بالتاريخ وهي تمور في مرجل الأحداث العاصفة، وكارثة شعبه المقتلع إلى مخيمات اللاجئين في الشتات والمحاصر والمكبّل على أرض وطنه بأغلال الإحتلال وغطرسته وعنصريته.

إننا أمام شاعر متميز، شكّل نموذج من نماذج ومدارس شعرية متميزة ومختلفة في آن، له تجربته المتفردة والخاصة في ميدان الشعر بأشكاله ومضامينه المختلفة، وقد سعدت جدا بمصاحبة هذه التجربة والتي أثمرت مكتبةً قائمة بذاتها والتي تجملت بأعماله والتي كان آخرها ( الأعمال الشعرية الناجزة – 3 مجلدات ) *.

للشاعر ذائقته الأدبية والفنية والشعرية، وقصائده لها نكهات ولها رونق جمالي، تحلق في سماء الإبداع والشعر الفلسطيني الأصيل، وهو من الشعراء الرواد في حركة الشعر الفلسطيني بما قدموه للشعر الفلسطينيّ وللشعر العربي ّعلى مدار عقود، يستحقون الوفاء ويستحقون الدراسة والبحث النقديّ والأكاديمي.

اختار علي الخليلي منذ البداية الشعر الحر وسيلة للتعبير عما يختلج ويتأجج في نفسه وصدره من ثورة عارمة، وحب لوطنه وأرضه، وعشق للفقراء، وكراهية لأعداء الانسان ومضطهدي شعبه ومحتليه.

ومنذ البداية كان متمرداً لأنه عرف أن ما أراد أن يقوله لم يكن من الممكن احتواؤه في الصيغ الشعرية التقليدية القديمة، وقد جاءت أشعاره المعبرة عن تجربته الإنسانية، متحررة من الأشكال الشعرية، منسابة ومتموجة وغزيرة وجارفة، منسجمة مع تناغم الفكرة التي يطرحها وتحملها قصيدته.

وخلال استعراضنا للمجموعات الشعرية للشاعر علي الخليلي، تشدنا بقوة هذه التجربة الثرية بمنجزاتها الشعرية والجمالية، شعره يعبق بالحرية والثورة ويحث الجماهير على النهوض وتحطيم القيود والسلاسل التي تكبلها، وما يميزه هو ثورته على الأوضاع السياسية الفاسدة، ونقمته على الظلم والقهر والانسحاق والاحتلال والطغاة الظالمين، وعلى الأوضاع الاجتماعية التي يكتنفها الجهل والفقر والجوع والبؤس الإنساني، ويحرض الشعوب العربية المستكينة، وينفخ فيها نار الثورة بجرأة وصراحة، فيقول في قصيدة " هكذا قال المخيّم " (الأعمال الشعرية المنجزة – المجلد 1):

" هكذا لفلسطين المخيم، وللبنان
المخيم، وللكرة الأرضية المخيم
وللوطن المحتلّ المخيم
من مراكش إلى البحرين، تصير
القاهرة نقطةً في بحرٍ، شعرةً
في رأس صبيّةٍ محاربةٍ
وتصير مكّة حجراً في ركام
صيدا، وتصير بغداد وعمان
والكويت والخرطوم وتونس
خرابيش على ورقةٍ من دفترٍ
تلميذٍ لا اسم له، في مدرسةٍ
لا اسم لها من مدارس الوكالة،
في معتقلٍ ما أو مقبرةٍ ما، هي
منسوفة أيضا
.." ص 294-295

هذا هو الشاعر علي الخليلي شاعر الوطن، المسكون باليوميّ وبتفاصيل الحدث ومقارعة اللحظة التاريخية، وشاعر الإنسانية النبيلة والمعذبة، لسان حال المقهورين والمضطهدين والذي ألقى خطاباً ثقافيا ذات يوم شكّل دّرساً لكافة الشعراء والمثقفين، حيث قال: " شعرنا لا يطلق الرصاص، لكنه يطلق ضمير المقاومة من خناق الأسلحة، في مواجهة أعداء مدججين بكل أنواع الأسلحة، أعداء، غزاة، قراصنة، غاصبين، يكرهون الشعر ويقتلون الشعراء والأدباء والفنانين، هم قتلوا الشاعر الزجّال نوح إبراهيم، وهم قتلوا الكاتب الروائي غسان كنفاني وهم قتلوا الشاعر كمال ناصر وهم قتلوا الرسام الفنان ناجي العلي وهم قتلوا القاص ماجد أبو شرار وهم يواصلون القتل والتدمير والسلب والنهب، في حروبهم العدوانية، من إسرائيل إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وما بينهما من أتباع وعملاء وجبناء.. ونحن نواصل الحياة، نحبّ الشعر ونكتبه وننصت إليه، ونطوّق أعناق الشعراء بالبنفسج البريّ والامتنان، ونحب القصة والرواية والمسرحية واللوحة التشكيلية والرقص والموسيقى والسينما، وكل أشكال الفنون والآداب، ونجعل من عيوننا وقلوبنا منازل ومنابر لكل المبدعين " **.

يعد الشاعر علي الخليلي من أهم الشعراء الفلسطينيين الذين كانت لهم بصماتهم الواضحة في الأرض المحتلة في خضم الصراع والمواجهة النضالية ضد الاحتلال وكان من رواد شعر المقاومة والتحريض ضد الاحتلال وقد دفع ثمن هذا الدور وهذه المواقف الرائدة التي مثلها وكان من أهم مؤسسي اتحاد الكتّاب في القدس في أحلك الظروف السياسية والأمنية تحت الاحتلال، فكان دائما " تحت قوس النار والشعر "، واستطاع أن يكون جامعاً ومجمعاً للشعراء والأدباء وإبراز إبداعاتهم وإيصال أصواتهم من خلال " الفجر الأدبي " وغيرها من منابر الكلمة والنضال وبسالة القصيدة.

وصدر للخليلي العديد من الكتب والمجوعات الشعرية وأبرزها: " تضاريس من الذاكرة، جدلية الوطن، وحدك ثم تزدحم الحديقة، نابلس تمضي إلى البحر، تكوين للوردة، انتشار على باب المخيم، الضحك من رجوم الدمامة، ما زال الحلم محاولة خطرة، نحن يا مولانا، سبحانك سبحاني من طينك طوفاني، القرابين أخوتي، هات لي عين الرضا هات لي عين السخط، خريف الصفات، شرفات الكلام "، وكل هذه الأعمال صدرت خلال مسيرة هذا الشاعر التي تواصلت منذ منتصف السينات حتى وفاته عام 2013 حيث صارع " السرطان " الذي لم يمهله كثيرا مختطفاً من بيننا شاعراً كبيراً ومتميزاً، متواضعاً ونبيلاً ومستقيما ً، رحل لنبقى نفتقده ولتبقى ذكراه وآثاره الشعرية شاهدةً على تجربة كبيرة كانت مثالاً للحالة الشعرية الحقيقة المفعمة بالحياة والأمل، حيث كانت " الكتابة فرح " في مسيرة هذا الشاعر وعطاءه الإبداعي الأصيل.

هوامش:

1- صدر عن بيت الشعر الفلسطيني 2013

2- مقتطفات من كلمة الشاعر خلل تكريمه من قبل بيت الشعر قبل رحيله


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى