الخميس ٢١ تموز (يوليو) ٢٠١٦
علي الوردي: (67) التحذير من سرطان الطائفية
بقلم حسين سرمك حسن

في المجتمع العراقي والعربي قبل ستّين عاماً

الجرأة في فضح الصراع الطائفي في العراق:

((أني ركزت بحثي في المجتمع العراقي وحده. وأخشى أن يغضب مني إخواني أهل العراق، ويخيل لي أن بعضهم سيسمعون بخبر هذه المحاضرة فيقولون عني إني تعمدت فضح العراق أمام البلاد الأخرى. وليس من العسير أن أتصور أحدهم يقول لي: (لقد فضحتنا يا أخي ). الواقع أني أعتز بالعراق وأتشرف بانتسابي إليه. ولكني أتبع في بحوثي المبدأ الصوفي القائل: ((اللهم افضحنا ولا تسترنا )) وغاية أملي أن يسير الباحثون الاجتماعيون في البلاد العربية الأخرى على هذا المبدأ فيعمدوا إلى فضح قومهم أمام الناس دون حياء، ولا حياء في العلم. ولست أشك أننا لو درسنا أحوال البلاد العربية الأخرى لوجدنا فيها من الفضائح والأدواء الاجتماعية ما لا يقل عن تلك التي شهدناها في العراق على وجه من الوجوه ))

يبقى الدكتور علي الوردي رياديا ومتفردا في أنه لم يسلك سلوك النعامة في التعامل مع الطائفية في المجتمع العراقي. وحتى اليوم، وبعد احتلال العراق والخراب الطائفي الشامل المصحوب بقطع الرؤوس وفقء العيون وتقطيع الأوصال، مازال سلوك النعامة طاغيا ومتسيدا. كل المسؤولين السياسيين يظهرون في وسائل الإعلام ليعلنوا أن العراقيين إخوة وإن المجتمع العراقي صاف ومتجانس ولا وجود للطائفية فيه !!!. إذن من أين جاءت هذه الحرب الطائفية التناحرية المدمّرة التي عصفت بحال الشعب العراقي. لقد شكل السيد نوري السعيد أربع عشرة وزارة، كلها كانت فيها وزارة الداخلية للشيعة والدفاع للسنة أو بالعكس في وزارات أخرى. كيف شكلت أول وزارة عراقية ؟ أليس على أساس طائفي ؟. الكل كانوا طائفيين سلوكا ووطنيين لسانا، إلا المُجاهد التنويري علي الوردي الذي لم يقع في أحابيل هذه الخدعة المكابرة. كان في مؤلفاته كلها يعلن أننا طائفيون، وأن مجتمعنا قائم على أسس طائفية، وأن سياستنا طائفية، وأننا إذا لم نحاول معالجة هذا السرطان بصورة علمية مدروسة تقوم أولا على الاعتراف بها كظاهرة فإنها سوف تدمر حياة الشعب العراقي، وهذا ما حصل عبر أكثر من ثمانين عاما من حياة هذا الشعب.

الوردي هو المفكر العراقي الوحيد الذي جعل جزءا من موجّهات منهجه وسماته في الوقت نفسه الطرق المثابر العزوم على موضوعة " الطائفية " المقيتة. لم يستمع لصوته التحذيري أحد، واستمر الجميع في سلوك النعامة هذا، الذي أوصلنا إلى هذا الحال الكارثي بعد الاحتلال خصوصا.

لم يترك الوردي مناسبة – حتى الكتاب الذي لا علاقة مباشرة له بموضوعة الطائفية - دون أن يصرخ ليحذّر من الطائفية. في كتابه " أسطورة الأدب الرفيع " وهو كتاب يختص بالأدب كما نعلم وكما يعلن عنوانه، يتحدث الوردي وفي أكثر من موضع عن الطائفية والنزاع الطائفي، فيتناول في فصل غريب ومقطوع الصلة – في "المقالة الحادية والثلاثون: الضجة والمجتمع" – الفرق بين المصلح والمشعوذ فيضرب مثلا بالصراع الطائفي، حيث يقول:

(أن فقهاء كل طائفة في الإسلام قد اعتادوا أن ينسوا عيوب طائفتهم ويركزوا على عيوب الطوائف الأخرى. فكان كل فقيه يهتف بالأفكار المطلقة لكي يتخذ منها سلاحا للدفاع عن طائفته وللهجوم على الطائفة الأخرى، وكانت النتيجة أن نشأ نزاع خبيث يشبه نزاع القبائل البدوية التي تتغازى فيما بينها وتتقاتل دون أن يكون وراء ذلك فكرة جديدة تفتح عيون الناس ).
ومثلما يتصنّع سياسيو البلاد في عهودها كلها بأننا غير طائفيين وبأن المجتمع يرفل بالأخوة الدينية والوطنية ويندهشون من شخص مفكر يطرح موضوعة غير موجودة للنقاش مثل الطائفية فقد استشرف الوردي مثل هذا الموقف " النعامي ". يقول الوردي:

(قد يعترض معترض فيقول: ما بالك تهتم بالنزاع الطائفي في الوقت الذي ينشغل العالم فيه بالقضايا الاجتماعية الكبرى التي لا يعد النزاع الطائفي تجاهها شيئا مذكورا !! )

ويجيب على اعتراض هذا المُعترض بالقول:

(نعم يا سيدي المعترض، إن النزاع الطائفي لا أهمية له في العالم المتمدن، ولكنه في هذا البلد الذي نعيش فيه له كل الأهمية. فالمتمدنون الآن منهمكون في أقمارهم الصناعية وقذائفهم الموجّهة، وهم على وشك أن يصعدوا بها إلى المريخ، بينما نحن لا نزال نتحدّث في موضوع المفاضلة بين علي وأبي بكر وأيهما أولى بالخلافة من صاحبه ) (463).

الطائفية ليست بين العامّة فقط بل بين النخبة المثقفة ايضاً:

والمعضلة التي لا تقل خطورة عن تشخيص داء الطائفية في المجتمع والإعلان الجسور عنه، هو الإشارة التعرّضية إلى حقيقة أن هذا الداء غير موجود بين العامة البسطاء حسب، بل هو مستشرٍ بين النخب الثقافية التي تُناط بها قيادة هذا المجتمع وتغيير عقليته وضرب الأنموذج الصالح له في التعامل الإنساني المتسامح:

(ولو كان الأمر مقتصرا على رجال الدين لما أسلفناه، ولكنه أمسى موضع اهتمام زمرة لا يستهان بها من المثقفين والأدباء. وليس من النادر أن ترى شابا يحمل الشهادة العالية وهو يدور في المقاهي ويرقى المنابر ليحرّض العامة على أمور طائفية ما أنزل الله بها من سلطان. وهناك مؤلفون يشار إليهم بالبنان، ويتظاهرون بعمق التفكير وسعة المعرفة، حتى إذا كتبوا في التاريخ نحوا فيه منحى علماء الكلام في القرن الرابع الهجري ) (464).

وفي لمحة عابرة يقول أنه مرّ مصادفة بسوق الكتب فرأى كتابين صادرين حديثا: الأول من منشورات المكتبة السلفية لصاحبها محب الدين الخطيب في القاهرة، والثاني من منشورات مكتبة أهل البيت العامة في بغداد. فلننظر ما يحتويه جوهر كل كتاب. الأول يحاول أن يثبت الإمامة لأبي بكر وعمر وأنهما أفضل من علي بن أبي طالب، بينما يحاول الثاني إثبات الإمامة لعلي وأنه أفضل من ذينك الشيخين. يقول الأول: إن اتفاق كلمة المسلمين لا تتم إلا إذا خضع الشيعة لإمامة أبي بكر وعمر وأقروا بأن أصحاب رسول الله هم حملة شريعته وأمناؤها الذين أدوها إلى الأمناء من بعدهم، فالصحابة كلهم عدول وإن تفاوتوا في العلم والمنزلة.

أما الكتاب الثاني فيقول: هذه عقيدة الشيعة الإثنى عشرية في الإمامة، ونعتقد بأن لا سعادة للبشر وخاصة المسلمين منهم إلا إذا اتفقوا على ذلك فهي تدعوهم بحججها القاطعة وبراهينها الساطعة لغاية إسعادهم وإعلاء كلمتهم والله حسبنا ونعم الوكيل.
هكذا كانت الكتب (الثقافية ) التي تتحدث عن الطائفية بشكل علني وصارخ يتم تداولها في أسواق الكتب في العراق، هذا ينتصر للشيخين وذاك ينتصر لعلي بن أبي طالب. ثم نأتي ونتحدث عن أننا ملتحمون تحت خيمة الوطن وما يجمعنا هو الرابطة الوطنية، في حين أن الموقف الطائفي يفرقنا كل يوم ويشتغل كالنار تحت الرماد.
وقد يقول قائل أن من أساسيات الحرية الفكرية والأنظمة الديمقراطية أن يطرح كل إنسان الآراء التي يقتنع بها بصورة علنية لأن الحرية الفكرية والدينية مكفولة لكل مواطن. ورغم أن الرد على هذا الرأي يسير إذ هناك تابوات فكرية حتى في أشد البلدان تقدما وانفتاحا، فكيف بمسألة طائفية تهدد بتمزيق وحدة الشعب !! ألا ينبغي حضر طرحها علنا ؟. ولكن هذه الأمور تُطرح بسبب عامل أشد خطورة وسيصدم رؤوس النعامة في مجتمعنا، وهو أن الدولة العراقية طائفية منذ تأسيسها.

حرب طائفية على الجواهري تصل إلى عصبة الأمم:

وهل هناك دليل أقوى من واقعة الجواهري الشهيرة التي ذكرها في ذكرياته. لقد وصلت محنة الجواهري الطائفية إلى عصبة الأمم المتحدة (هل تصدّقون ذلك ؟ إذن أي بنية طائفية مقيتة كانت عليها الدولة العراقية ؟). يقول شاعر العرب الأكبر:
(في بداية ما يُسمى بالحكم الوطني في العراق، أي عهد الانتداب حين كان المندوب السامي البريطاني هو المسؤول عن العراق أمام عصبة الأمم، وهناك تقرير منه عن واقعة قرعت بها أبواب العصبة وأنا في الرابعة والعشرين من عمري، يقول فيه بالحرف الواحد:

(وفي هذه السنة كان الخلاف بين الوزير الشيعي، يقصد به عبد المهدي المنتفكي، وبين المدير السني، يقصد به ساطع الحصري، بسبب تعيين شاب عراقي (يقصدني به) معلما في مدارس العراق) وتضمن التقرير إشارة صريحة إلى الفتنة، أسبابها، مقدماتها، وخلفياتها) (465).

ويذكر الجواهري عرضا أن الوزير المنتفكي كانت له وقفة مشهودة مع (أنيس النصولي) وهو مدرس مُنتدب من لبنان وأصدر كتابا انتقص به من منزلة سيد الشهداء الإمام الحسين (ع ). ويبدو أن (ذنب) الجواهري الأساسي هو أنه حيّا الوزير بقصيدة مطلعها:

حيّ الوزير وحيّ العلم والأدبا – وحيّ من أنصف التاريخ والكتبا
ويعلق الجواهري على ذلك بالقول:

(وقد نشرتها بعض صحف بغداد. ولم يخطر ببالي، قط، أنها ستكون الوثيقة الأولى بيد (ساطع ) ومدخلا قويا لمعركة جديدة ينتصر بها، وأن أكون، أنا بالذات، في هذه المعركة المفتعلة، كبش الفداء، من هذه الضحايا الباردة للأكثرية المسحوقة) (466).

ولو انتبهنا إلى ما ذكره الجواهري عن كتاب النصولي في الانتقاص من الإمام الحسين، فسنجد دليلا مضافا يؤكد رأي الوردي عن أن الثقافة العراقية كانت تشهد إصدارات طائفية بلا رادع من الدولة وكأن من ضمن الحرية الشخصية أن تؤجج نيران الطائفية في نفوس المواطنين وهو الأمر الذي يضعف الرابطة الوطنية ويدمرها.

وفي محنة الجواهري ما هو أعجب ويتمثل في الاستمارة التي سُلّمت له ليقوم بالإجابة على أسئلتها لمنحه الجنسية العراقية. يقول الجواهري:

(كانت استمارة بتعداد المذاهب والأديان والجنسيات وفيها أكثر من عمود يحمل تساؤلا (هل أنت عراقي؟) مفهوم أنني عراقي، ثم بالحرف الواحد: هل أنت مسلم ؟. والمفاجأة الأخرى التي توقفت عندها بأكثر من غيرها: هل أنت شيعي ؟ هل أنت سني ؟. تسلمت الأوراق وفجأة وبكل بساطة كتبت مستهزئا وساخرا بأكثر من تساؤل وعلى سبيل المثال، سؤال: ما هي شهادتك المدرسية ؟ كتبت شهادتي (لا إله إلا الله ). كما أجبت على سؤال عن شيعيتي، أجل أنا مسلم، وعن سنيّتي بمثلها. أجل أنا مسلم. وعن عراقيتي أجبت أنني هندي) (467).

ولا يتردد الجواهري الشجاع والتعرّضي مثله مثل الوردي في القول إن السلطة استمرت تلعب لعبة الطائفية في العراق، وتشد الأوتار، في هذه اللعبة المفضوحة. وفي عهد (عبد السلام عارف) بدأت حملة استهدفت إفراغ العراق من أبنائه الشيعة قدر الإمكان. وأقول هذا لأجل الحقيقة وإدانة لهؤلاء الناس الذين لا يكفّون عن زرع هذه السموم في هذا البلد).

وقد قدم الجواهري تحذيرا واضحا من حتمية انفجار الصراع الطائفي المكبوت الذي يغلي في النفوس حيث قال:
((إن الأحقاد التي أثرتها في مجتمع يضم وجوها وجدت لتكون حاقدة، بل معبأة بالحقد وبالعنصرية والشوفينية البغيضة وبالنعرات الطائفية المنكرة، أحقاد تغلي ولابد من أن تظل تغلي وتغلي في الصدور، وإنها تنتظر يوم انبعاثها من مكامنها وتفلتها من عقالاتها)) (468).

طائفيّتنا اسوأ من طائفية مسلمي القرن الرابع الهجري:

ينتقل الوردي إلى تشخيص عجيب وموجع لنفاقنا الطائفي، والذي لا يرقى حتى إلى سلوك أهل القرن الرابع الهجري الذين نعدهم متخلفين قياسا إلينا نحن أبناء القرن العشرين " المتحضّرين ". فقد كان أهل القرن الرابع الهجري يعلنون عن نزعاتهم الطائفية بلا تردّد ويتصاولون بها من غير تكتم. في حين أننا اعتدنا أن نضمر الطائفية في أعماقنا ثم نتظاهر أننا بريئون منها. وهذا ما حصل في كل عهود العراق – ملكية وجمهورية – ويحصل الآن بشكل سافر مخادع:

(وحين يستمع الغريب إلى خطبنا وأحاديثنا الرسمية يخيل إليه أننا من أبعد الناس عن النزعة الطائفية، ولكنه لا يكاد يتغلغل في الأعماق حتى يجد تلك النزعة كامنة هناك تعمل بصمت وحذر. وقد اعتاد أبناء الطائفة الواحدة أن يتحدثوا فيما بينهم بغير الحديث الذي يتحدثون به حين يجتمعون مع غيرهم. ولا يكاد يدخل عليهم رجل يخشون منه حتى يتحوّل حديثهم فجأة إلى موضوع المثل العليا وما يجب على المرء أن يفعل في سبيل الله والوطن ) (469).


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى