الثلاثاء ٢ آب (أغسطس) ٢٠١٦

برهــان شاوي في إستراحة مفيســــــــتو (2)......

هاتف بشبوش

(فليس هناك من بين جميع المخلوقات التي تتبرز من تجد غائطه أكثر جيفة وإثارة للاشمئزاز من غائط وخراء الإنسان، وفي هذه الجيفة وجد آدم المسافر زوجي نفسه عالقا ومضطرا للعمل في تنظيف المرافق لكن هذه المهنة حولت حياتنا الى جيفة..فقد كان المسكين يتحمم يوميا لكن رائحة الغائط ظلت عالقة به).

تتجلّى هذه في العراق وبلدان العالم الثالث المنحط الى أسفل درجات الإنحطاط، فهناك الكثيرون ممن امتهن هذه المهنة التي لاتطاق من جراّء عالمٍ باطل، والأدهى من ذلك تراه يحمدل و يشكر الله على نعمته هذه وهو في منتصف الخراء، مثلهُ مثل الذي يعمل حارسا في مراحيض عامة، حيث يتحمل الروائح العفنة لخراء البشر وهو ماسك بيده مسبحة يحوقل ويسبح بها حمودا شكورا. بينما هنا في بلدان التحضر هناك من يمتهن هذه المهنة لكننا نراه نظيفا عبقا، بل يمتلك سيارة مرسيدس وبيتا فاخرا على غرار (ميكائيل) في فارسو المدينة التي كنت أعيش فيها سابقا في الدنمارك. الحوارية أعلاه هي حوارية مؤلمة عن البشر ومدى الرائحة التي تنبعث من مخلفاته وفضلاته، بالرغم من إدعاء الإنسان وتبجحه بالمثل العليا وإستخدامه لأجمل العطور والكريمات والدهون البراقة. زوج حواء المسافر يضيق ذرعاً بعمله النتن وسط عالم لايرحم، يترك الخراء ويضطر الى العمل في المخدرات التي تجلب له المال الوفير والسهل الذي أصبح هو السعادة الحقيقية لدى الكثيرين للأسف وسط عالم رأسمالي جشع، عالم رأسمالي قال عنه ماركس قبل أكثر من مئة وخمسين عام،( إنّ العالم القادم هو عالم المال الكثير الكثير لكنه ينحسر بيد أعداد قليلة من الأثرياء كما بينها الكاتب الأمريكي البديع(هوارد زين) في مسرحية (ماركس في سوهو) ترجمة حارث النبهان منشورات دارالمدى). ثم نستكشف أثناء الرواية إنّ زوج حواء المسافر قد أختطف وقتل لأسباب مالية تتعلق بالمخدرات. لكنّ آدم المسكين لم يعرف من خلال اللقاء الصحفي معها من أن الجثة الممدة التي رآها في المقبرة قرب الحقيبة الجلدية من أنها تعود لزوجها وبهذا يكون قد خسر بما أراد معرفته من خلال اللقاء معها.

ثم يتطرق الروائي الى قضية المرأة وإنتقامها، رأيناها حين تحب تذوب وتعشق وتضحي وتبني عالما جميلا كما حواء الدلو، لكنه أعطانا مثالا على المرأة المنتقمة التي تهد الجبال لو أرادت الإنتقام، إذا ما أحبت فإنها عبارة عن إلهة الحب، أما إذا غضبت فهي إلهة الموت والإنتقام، مثلما حصل لإنتقام حواء النمرود من زوجها آدم الطيار المحامي، مع إبنها قابيل بالتبني، عاشت مع زوجها لعشرين عاما بالرغبة والحب وانتهت معه بالإنتقام لخيانته لها مع سكرتيرته. حيث تروي لآدم المسكين أثناء اللقاء الصحفي عن كيفية مضاجعتها مع ابنها قابيل بالتبني بعد رقصٍ وسكرٍ بينها وبين إبنها، حيث تروي لآدم المسكين الذي مثل دور الصحفي أيضا بدلا من الصحفي آدم الضائع، عن كيفية إنتقامها من زوجها مع إبنها بالتبني وتقول:

(وأخذت يده تجول( إبنها بالتبني) في أنحائي وبراكيني الفوارة، ولم أجد نفسي الا وهو يأخذني الى السرير في الغرفة المجاورة، ويخترقني، كل شئ جرى خلال دقائق معدودة، لااعرف ماذا جرى بعد ذلك).

وفي حوار آخر بين حواء الأعمى وآدم المسكين الذي يأخذ منحىً آخرَ وبعداً عميقا، إذ أنّ كلا الأثنين يحاول الإطاحة بالآخر، حيث أنها تعيّره من أنه يلقب بالمسكين فقال لها (أن أكون مسكيناً خيرلي من أن أكون أعمى). كما وأنّ زوج حواء الأعمى يحمل إسم آدم عينُ الحياة، هي العمياء وهو عين الحياة، حبكة جميلة ورائعة من الروائي برهان في حيثيات الأسماء وماتحمله من دلائل عميقة، وكأن النور الذي ترى به حواء الأعمى هو لدى زوجها آدم عين الحياة، الزوج هنا إتكاء بالنسبة لحواء الأعمى، بينما بالنسبة لحواء النمرود التي ذكرناها أعلاه فالزوج هو إنتقام. وهذه تذكرني بصديقين حميمين في أيام الزمن الكلاسيكي (عبودي الأعمى، وجميل الأعور)، كان جميل يمسك بيد عبودي الأعمى في الطرقات ويتجولان في أحياء المدينة. في أحد البارات يغني جميل سكرانا منتشيا، فيقول (علاوي ياعلاوي....عيني إلك علاوي)...فيضحك عبودي الأعمى بصوتٍ عالٍ فيقول له ( ياجميل..لديك عين واحدة نتكل عليها أنا وأنت وهي نورنا وبصيرتنا..إذا أعطيتها الى علاوي.. فمن سيقودنا في هذه الطرقات العاثرة ياجميل). غريب امر هذا البشر، كلُّ يظهر عيوب الآخر، حتى اللصوص في نهاية المطاف تراهم يقتلون بعضهم البعض لغرض الإستفراد بالغنيمة لوحدهم بعد إن نرى أحدهم يتربص بالآخر لمعرفة عيوبه ومايحمله من ناقصات، كما رأيناهم في الفيلم الجميل من أفلام الويسترن( The Good, the Bad and the Ugly) الطيب والسيئ والقبيح 1966 من تمثيل كلنت إيستوود.

ثم في حوارآخر تقول له حواء الأعمى:

(من أنتَ ايها المسكين يقول لها...... أنا ظل يمشي، أنا لستُ أنا، وهل أنتِ أنتِ).......

هنا يدس لنا الروائي مايريده بالضبط عن معشر البشر والإنسان الذي يتقنع بمئات الأقنعة ومانراه يمشي بلحمٍ ودم ماهو الاّ الظل، هو الإكذوبة، هو الزائل لامحال، هو المتخفي، هو الزئبقية التي يتحلّى بها البشر التي سرعان ماتنساب وتختفي في الظروف الغامضة، أو تلقى في دروب الآخرين كي يتزحلق بها الآخر، لله درّك يابرهان على هذا الحوار الممتع الذي يحمل في طياته الفلسفة الإنسانية وأبعادها الأخرى التي لانراها في حقيقتها ماثلة أمام أعيننا، بل هي الغبار العالق بوجوهنا والذي سرعان مانريد أن نتخلّص منه بأسرع مايمكن.

تنقلنا الرواية الى مشهدٍ آخر على أنّ الفندق هو عبارة عن المدينة بأكملها، حيث يستطيع المرء أن يتجول في شوارعها وأزقتها. اي أن الرأسمالي الذي يمتلك هذه المدينة الذي هو آدم الآدم بيده كل مفاتيح هذه المدينة، بل كل مايعيش فيها من بشر. ويتبين فيما بعد أن كل مايعيش في هذه المدينة عبارة عن أشباح الموتى المتشابهين. هذه الفكرة على وجه التقريب كما الفلم الأمريكي من بطولة آرنولد( يوم الحساب في أحد أجزائه)، حيث هناك في كوكب المريخ يتواجد الرأسمالي الذي يملك الهواء، وهو الذي يتحكم بحياة الآخرين في ما اذا أراد خنقهم أو إحيائهم عن طريق التحكم بكمية الأوكسجين، هكذا هو حال البشر حتى في إمتلاكه لقسم من السموات السبع نراه جشعا مجرما يريد المزيد والمزيد.

في المشاهد النهائية من الرواية يُهدد ويُجبر آدم المسكين على أن يقف أمام مدير فندق ( إستراحة مفيستو )، يدخل ويجد هناك إمرأتين حواء الأبيض وحواء الأسود واللتان تشبهان حواء الدلو، مما يجعله يتوجس خوفا من حبيبته حواء الدلو التي ربما هي التي خططت لكل هذه الفبركات.

هنا أستطيع أن انتقل من خلال الرواية لموضوعة في غاية الأهمية، لما ألمّ بالكثير من العراقيين كما وألمّ بالروائي برهان نفسه من عذابات وآلام في السجون وقبلها على الأرض وما أصابه من جراء المخبرين ورجال الأمن السري الذين نجا منهم بإعجوبة كما بين لنا في إحدى رواياته. ولذلك آدم المسكين لما رآى حواء الأبيض وحواء الأسود تشبهان حواء الدلو، راح شارداً بذهنه الى إنّ حواء الدلو ربما هي أحد مخبري آدم الآدم، وهذه كنا نعيشها أيام البعث والقصص التي لاتصدق بشأن الرجال الذين أصابتهم الأهوال من جرّاء جاسوسية زوجاتهم لدى السلطات، إنه موضوع متشابك حقا، يمكن للقارئ أن يغوص من خلاله في الكثير من التأويلات.

وقبل أن يدخل آدم المسكين الى مكتب آدم الآدم يقرأ على باب الدخول نقشا واضحا: (أيها الداخلون إطرحواعنكم كل أمل)، ما أروع الروائي برهان هنا وفي هذا المدخل، فالذي يدخل سجن قصر النهاية في أيام البعث المقبور لايمكن له أن يفكر في الخروج منه تحت أي ظرف، الاّ إذا كان ذا حظٍ عظيم. لكن هذا المدخل يذكرني أيضا بما قرأته عن إفلاطون ومدينته الفاضلة حيث كتب على باب أكاديمية الرياضيات: (الذي لايمتلك خبرة في الرياضيات عليه أن لايفكر في الدخول) فأين هذه من تلك ومايفعله المجرمون والشياطين أصحاب النفوذ والمال والسلطة والجشع.

الرواية منذ عثور آدم المسكين على حقيبة الدولارات تحدثنا عن أنه حينما يتنقل وأينما يصول ويجول، نراه لايترك الحقيبة من يده، إنها أصبحت بمثابة السعادة الحقيقية لديه، وهنا نرى انّ السعادة الوحيدة التي يمكن أن نقبض عليها هي المال , بالرغم من كون السعادة الحقيقية هي عبارة عن قبضة ريح، ولذلك نرى أحيانا آدم المسكين ينظر في المرآة ويرى نفسه بدون الحقيبة الجلدية التي يمسكها، ثم فجأة ترجع هذه الحقيبة الى يده ويطمئن ويرتاح، ثم يضمحل وجودها وهكذا، هنا تتجلى السعادة بكونها لايمكن مسكها الى الأبد، واذا تم مسكها فستغيب حتما في المشاهد الأخرى من الحياة، وكأن السعادة حركة متأرجحة غير ثابتة مثلما قال عنها عبقري التشاؤم شوبنهاور (إنّ حياتنا مثل البندول تتأرجح بين ألم الرغبة وفراغ الإشباع وليست السعادة الاّ حلم لايمكن تحقيقه).

يتبين أيضا انّ هذه الرواية تتناول صفقة غريبة، المال مقابل الروح، نعطيك هذا المال مقابل أن نقبض على روحك، أو تعيش فيه ببذخٍ وترف الى أن ينتهي، فنأتي ونقبض على روحك، لكن آدم المسكين يتحير في هذه الصفقة، هل سيعيش بقية حياته بهذه النقود سعيداً مرتاحا حتى يموت، أم يرفض هذه النقود ويعيش حياة الفقر والذل. انها كما يحصل في هذه الأيام العصيبة في سوريا وفي كثير من بلدان الفقر والتخلف حيث يبيع المرء أحد أعضائه الى الأثرياء (صفقة ايضا) كي يعيش بها مدة من الزمن، إنه عالم غريب، ولذلك ليس غريبا حين يقص الروائي برهان كل هذا الخيال العجيب الغريب والصفقة التي تمّت (النقود مقابل القبض على روح آدم المسكين من قبل إبليس مفيستو). هناك من يبيع أعضاءه واحدا تلو الآخر، ظنا منه إنه يستطيع أن يعمل مشروعا بالمال الذي يقبضه نتيجة بيعه الكلى أو ماشاكل، ثم يبيع الجزء الآخر وهكذا دواليك فيجد نفسه قد أنفقها كلها وإنه بين قاب قوسين او أدنى من الموت. هي هذه الحياة التي نعيشها والتي وصفها برهان في فندق صغيرٍ يمثل مدينة بأكملها، حيث تتراءى لآدم المسكين بكل شوارعها المتسارعة، شوارع تسير به بأسرع مما يتصور، إنها الحياة التي تنزلق من بين أيدينا كإنزلاق السمكة الطازجة، إنها الحياة التي تشبه ُ عفطةَ عنزٍ في مدتها القصيرة الخاطفة.
الرواية في فصولها الأخيرة تحدثنا عن الحياة ومآسيها بفلسفة عالية على لسان حواء الدلو المدفون لنرَ ماذا تقول الى آدم المسكين...

(مشكلتك انك في عزلتك لاتسمع سوى موسيقى الصمت بينما لو أنصت للحياة لوجدتها جوقة موسيقى وصراخا وضوضاء بل حتى كوكب الأرض فانه في الكون اللانهائي لايطلق سوى الأنين والاهات). برهان له كل الأحقية بذلك، فها نحن كعراقيين مذ أتينا الى هذه الحياة لم نحصد منها غير سمفونية الحرب والألم والقتل والتشريد القادم من الأزل والصاعد صوب الأبدية على مايبدو.

الرواية في مشوارها النهائي تخبرنا عن آدم المسكين وتقول:

(فتح عينيه.... وكانت ثمة أشجار جرداء تحيط بالمقبرة.. لم يعد آدم يعرف نفسه جيدا...هل هو آدم المسكين، أم آدم آدم مدير فندق إستراحة مفيستو).

في المقابر تتساوى الآوادم والحواءات بكل مستوياتهم المعاشية والمادية، هذا هو قانون الموت، الذي لايستثني أحدا كما يقول (مونتسيكو)، يجد نفسه آدم المسكين غير معروف، هل هو الآدمي آدم المسكين الطيب أم هو آدم الآدم الشيطان الشرير مالك فندق إستراحة مفيستو، هكذا يحيرنا الروائي برهان شاوي في كتابه البديع هذا حيث يجعلنا نقرأ البشر في شتى صنوفهم. البشر واحد هو هو، لكننا مرة نراه ملاكاً دمثَ الخلق ومرة نراه شيطانا لايدانيه أحد، ولذلك يبقى آدم المسكين في النهاية لايعرف من هو بالذات وسط هذا الكم الهائل من الآدميين وأفعالهم الشريرة في غالب الأحيان. فيجد نفسه في النهاية له رغبة في ان يلتقي حواء الدلو، لكنه يقرر فجأة أن لايرى أياً من الحواءات والأوادم ـ لكثرة ما أصابه من جرّائهم من الويلات والمتاعب. يتخلص آدم المسكين من لعنة الحقيبة الجلدية، أي يتخلص من لعنة النقود التي تشغل باله فيجد نفسه خفيفا مطمئناً. وهذه هي النقطة الأخرى التي أراد الروائي ايصالها لنا، من أنّ آدم المسكين كان ينعم بحياة هادئة بسيطة رغم قلة المال والفقر، كان مثقفا، مطلعا، مستقرأً، محبا ولكن ما أن حلّت النقود في عالمه حتى جعلت منه إنسانا آخرا، قلقا تعبا، مشغولا، خائفا، محبطا، مرتبكا، حارسا عليها طوال الوقت أينما يذهب فهي معه، هذه هي ضريبة المال الكثير، وخصوصا حينما يأتي على غير وجه حق. موضوعة المال هذه حينما يأتي لشخصٍ مستقيم ويجعل منه قلقا على الدوام، قد مثلت بأفلام كثيرة رائعة ومنها فلم الأكشن الجميل والدرامي المثير (المدينة)، حيث تشترك مجموعة من الشبان الأصدقاء في سرقة بنك، يحصلون على المال وحلم مآثرهِ، لكن البوليس يترصدهم فيقتلون جميعا سوى بطل الفلم حيث تبقى ملايين الدولارات بحوزته. يظل يتذكر أصدقاءه وأيام الصبا النزق معهم، فيكره هذه الملايين من المال، فيدفنها في حديقة حبيبته التي يهجرها خوفا من أن يطاله البوليس، ويترك المال هذا الذي جلب له الحظ النحس بقدانه أصدقاءه جميعا، فتعثر عليه الحبيبة التي تجد رسالة وداع حزينة مبكية يدسها بين المال المسروق الذي يذهب أدراج الريح، حيث تبني به مشاريعَ خيرية للفقراء.
في النهاية أستطيع القول من خلال الرواية: إنّ حياتنا هذه التي نعيشها على الأرض هي عبارة عن صفقات، وأولها وآخرها الصفقة الكبرى بين الخالق والمخلوق، نعطيك الحياة مقابل العبادة حتى الموت( وماخلقنا الأنس والجن الاّ ليعبدون).

إنتهـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــى

هاتف بشبوش

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى