الأحد ١٤ آب (أغسطس) ٢٠١٦
علي الوردي: (70)
بقلم حسين سرمك حسن

ظاهرة «الفرهود الجديد»

ظاهرة "الفرهود" وسيكولوجيّة "النهّاب الوهّاب"؛ نهب المدن العراقية منذ أيام سومر:

وهذه ظاهرة خطيرة جدا في حياة المجتمع العراقي ، نبّه إليها الوردي كثيرا ودعا إلى تفحّص عواملها وسيرورتها التاريخية. ولأن لا أحد من المرجعيات السياسية التي تتحكم بالسلطة يريد رؤية الحقائق "المزعجة" التي يعرضها الوردي ، فقد استمرت ظاهرة سلب ونهب المدن في المجتمع العراقي. وهي ظاهرة بكل معنى الظواهر الاجتماعية السلبية التي تفتك بالمجتمع. كما أنها ظاهرة تاريخية منذ ظهور دويلات المدن السومرية كما أشار إلى ذلك "صموئيل نوح كريمر" الذي بين أن أكبر عدد من مراثي المدن في الحفريات الأسطورية عثر عليه في أرض سومر. فهناك مراث لأور وأخرى لنفر وثالثة لأكاده وهكذا. في مرثية لأور يتفجّع الراوي على خسارته لممتلكاته التي نهبت:

"لقد سلبت ممتلكاتي ، كما لو كان سالبها جرادا كثيفا زاحفا
آه ، يا لممتلكاتي أقول
ممتلكاتي ، من جاء من الأراضي السفلى ، أخذها إلى الأراضي السفلى
آه ، يا لممتلكاتي سأقول
ممتلكاتي ، من جاء من الأراضي العليا ، أخذها إلى الأراضي العليا
آه ، يالممتلكاتي سأقول
معدني وحجري الثمين وحجري اللازوردي قد بعثرت هنا وهناك..."

وهذه مرثيّة أخرى لأور تذكّرك بحرق وسلب المدن العراقية سنة 1991 وسنة 2003 - عام الإحتلال البغيض - تفصيليّا ً:

" إيه أبانا ( نانا ) إن تلك المدينة قد حوّلت إلى رميم
وملأ شعبها ، وليس كسر الفخار ، كل محلاتها
وتصدّعت جدرانها والناس يئنون
في أبوابها العالية ، التي كانوا فيها يتنزهّون ، رميت جثث الموتى
وفي شوارعها المشجرة ، حيث كانت تُنصب الولائم استلقوا متناثرين
وفي كل طرقاتها التي كانوا فيها يتنزهون سجت جثث الموتى
وفي ميادينها حيث كانت تقام الإحتفالات استلقى البشر بالأكوام
( أور ) التي أكل الجوع أقوياءها وضعفاءها
وكوت النيران الآباء والأمهات الذين لم يبرحوا منازلهم
والأطفال المضطجعون في أحضان أمهاتهم
كالأسماك حملتهم المياه بعيدا
وفي المدينة هُجرت الزوجة وهجر الابن وانتثرت الممتلكات في كل جانب
أواه ( نانا ) لقد دُمرت ( أور ) وشُرّد أهلها..."

و "لم يُعثر حتى اليوم على نماذج لمراث حثّية أو كنعانية أو فرعونية. ومن المعتقد اليوم أن أصول المراثي التوراتية هو سومر، والبكاء على حائط سليمان في أورشليم ليس إلّا استعادة لما دشّنته مدن سومر منذ أكثر من 4000 سنة ق. م ".
ويمضي بنا الزمان ومسيرة سلب ونهب المدن وحرقها وتخريب بنيانها لا ينقطع. هذا الشاعر ( ابن الرومي ) يبكي في قصيدة طويلة البصرة التي سلبها وأحرقها الزنج:

لهف نفسي عليك أيتها البصرة لهفا كمثل لهب الضرام
لهف نفسي لجمعك المتفاني لهف نفسي لعزّك المستضام
أين تلك القصور والدور فيها أين ذاك البنيان ذو الإحكام
بٌدلت تلكم القصور تلالا من رماد ومن تراب ركام
وقد سار "بعد خراب البصرة" مثلا بين الناس.

أما بغداد وكما يقول "باقر ياسين" في كتابه "تاريخ العنف الدموي في العراق" فقد أُحرقت وسلبت بعد حرقها وسلبها على يد هولاكو إثنتي عشرة مرّة.

ما أشبه فرهود عام 2003 بفرهود 1917؟!

يصف الوردي حال بغداد في تلك الليلة الليلاء – 10 آذار 1917- التي انسحبت فيها القوات التركية منها ، وهي ليلة اجتمع فيها ظلام الليل وغبار العواصف الشديدة ، فيقول:

( أخذ الأتراك ينسفون مخازن الذخيرة التي يمكن أن يستفيد العدو منها... كما نسفوا باب الطلسم لوجود مخزن للذخيرة فيه وهو من أبواب بغداد القديمة ويُعد من كنوزها الأثرية. وقد هزّ نسفه المدينة هزّا عنيفا. وقد انتهز السجناء الفرصة في تلك الليلة كذلك ، إذ هم لم يكادوا يسمعون بانسحاب الحكومة حتى أسرعوا إلى أبواب سجونهم فحطموها ثم انطلقوا نحو الاسواق والخانات ومحلات اليهود والنصارى يكسرون أقفالها ويعيثون فيها نهبا وتخريبا. وانضم إليهم غوغاء المدينة وضواحيها وبذا أخذ نطاق النهب يزداد اتساعا ساعة بعد ساعة... وشب الحريق في بعض الخانات والأسواق وكان سبب ذلك ان بعض الناهبين أوقدوا أوراقا وخرقا للاستضاءة بها اثناء النهب ثم رموها دون ان يهتموا باطفائها ، فامتدت النار منها إلى البضائع الموجودة وأخذت تتسع شيئا فشيئا دون ان ياتي أحد لإطفائها , فقد كان الناس ليلتئذ كأنهم في يوم الحشر ، كل واحد منهم يهتم بنفسه ولا يبالي بغيره. واستمر النهب طيلة الليل ، وعند الصباح استفحل واتسع نطاقه بعد أن هدأت الريح ، فأخذ الكثير من الأطفال والصبيان يشاركون فيه.. وأصبحت دور الحكومة ودوائرها طعمة للغوغاء يعيثون فيها كما يشاؤون فلم يبق فيها شيء من الكراسي والمناضد والرفوف حتى الأوراق والاضبارات بُعثرت ومُزّقت تمزيقا ، كما حُطمت الأبواب والشبابيك لاستخراج الخشب والحديد منها. وكذلك فعل الغوغاء بدكاكين باعة الكتب والقرطاسية في سوق السراي ) (490).
وهذا المشهد تكرّر تفصيليا في المدن العراقية وكأنه شريط فيلم مسجل أعيد عرضه في أحداث عام 1991. ثم وقع من جديد وبتفاصيله المشؤومة في بغداد بعد دخول القوات الأمريكية الغازية سنة 2003. والوردي بخلاف كل من أرّخوا وحلّلوا وقائع ثورة العشرين يرى أن هذه الظاهرة ؛ ظاهرة السلب والنهب التي حصلت في تلك الثورة ، يجب أن تُكشف ونقر بها ثم نبدأ بتشريحها بالطريقة نفسها التي نتعامل فيها مع الجوانب الإيجابية للثورة. يقول الوردي إنه كان ذات يوم في مجلس وجرى الحديث عن ثورة العشرين والنهب الذي حصل في بعقوبة ، وكان أحد الحاضرين قد شاهد السلب بنفسه لكنه أنكره ، ولكن حين ألحّ عليه الآخرون قال إن النهب حصل في بعقوبة فعلا ولكني لا أحب أن أذكره مخافة أن يُنشر فيسيء إلى سمعة الثورة !!.

ولأن الثقافة الشعرية الحماسية والنظرة الانفعالية إلى الأمور هي المسيطرة على تفكير وسلوك ولاة الأمور فإن لا أحد قد استمع للوردي ، ولُدغ المجتمع العراقي من الجحر ذاته أكثر من مرّة كان آخرها وليس أخيرها السلب والنهب المُدمر لمؤسسات الدولة الذي حصل بعد الإحتلال الأمريكي القذر في 9/ نيسان / 2009 بمباركة وتسهيلات من القوات الأمريكية نفسها. وقد سرت بين المواطنين آنذاك إشاعات – وما أكثر الشاعات آنذاك في ذلك الجحيم الرهيب - تقول أن الناس كانوا يشاهدون عصابات مسلّحة ملثّمة باليشاميغ تعطي المواطنين السالبين وقتاً محدّداً للسلب ثم يبدأون بحرق الدائرة أو الوزارة ، ثم يُكتب على مدخلها "يا لثارات الكويت".

ومما يؤكد المخطط الأمريكي المسبق في تدمير بنى الدولة العراقية عن طريق تشجيع وتسهيل سلب ممتلكاتها ثم حرقها هو رد وزير الدفاع الأمريكي آنذاك "رامسفيلد" عندما سأله الصحفيون: لماذا لا تتدخل القوات الأمريكية وتمنع حرق مؤسسات الدولة ببغداد ، فقال باستهتار وبابتسامة متشفّية: إن لكل شعب طريقته في الإحتفال بالحرية !!!.

وبطبيعة الحال فقد أثّرت عوامل مرحلية كثيرة ومعقّدة في سلوك المواطنين آنذاك ، وشجعت الناس على الإنفلات والفوضى بعد أن غابت الدولة واختفت الأجهزة الأمنية وصارت المؤسسات مشرعة الأبواب للنهب والسلب الذي جاء بعد حصار مدمّر جعل المواطنين يعانون الجوع والفاقة ويبيعون أغلب مقتنياتهم ومفردات أثاثهم المنزلي – والبعض باع حتى شبابيك وأبواب المنزل الداخلية – مع تنامي وانتفاخ الثروات غير المشروعة للطبقة الحاكمة والقطاعات المترفة والسارقة من المجتمع، واتساع الفجوة بين المواطن والدولة التي لم تعد تمثله ولا يهمه الحرص على ممتلكاتها لأنه يشعر بأنها ليست له مدعوماً بانفصال تأريخي مديد بين المواطن والدولة في العراق.

سيكولوجية "النهّاب الوهّاب"

لكن ما يهمنا هنا هو تأكيد الوردي على أن نزعة السلب والنهب كانت نزعة واضحة في مختلف مراحل حياة المجتمع العراقي. فهي من المظاهر السلوكية المتأصلة في البداوة ، فالبدوي " نهّاب وهّاب " حسب وصف الوردي ، وقد امتدت خصال البداوة في شخصية المواطن العراقي بسبب الصراع الدائم بين قيم الحضارة وقيم البداوة ، وما ترتب عليه من تناشز اجتماعي عاشه المجتمع العراقي وخصوصا بعد صدمة الحضارة الأولى ممثلة بالحرب العالمية الأولى ودخول القوات البريطانية بغداد في عام 1917.

ومن المهم الإشارة إلى أن حوادث للسلب والنهب قد حصلت في بداية القرن الحادي والعشرين ومنتصف عقده الأول في بلدان عديدة منها دول متطورة قطعت أشواطا هائلة على طريق التقدم الحضاري مثل فرنسا والولايات المتحدة وغيرها ، ولكنها لم تكن بالسعة والخراب الذي شهده المجتمع العراقي ، ولا بالتكرار الذي يحصل في كل مرحلة اختلال وتحوّل وضياع لسيطرة الدولة. إنّها ظاهرة تستحق الإهتمام والدرس واستخلاص الدروس ، وليس مستبعداً – حسب الوردي – أن تتكرّر مادامت العوامل النفسية والإجتماعية والفجوة بين المواطن والدولة قائمة ، ومادام "الجلاوزة" يتناهبون ثروات البلاد أمام أعين العباد.

أين الوردي ليرى "الفرهود الجديد":

وفي ظلّ الفساد الراهن ، فإننا نقف أمام ظاهرة "فرهود" جديدة تجري في الدولة العراقية على قدم وساق أمام عيون المواطنين.. وللأسف بمشاركتهم أحياناً.

وقد أعطى السيّد "موسى فرج" رئيس هيئة النزاهة الأسبق في العراق ، وفي كتابه الخطير "قصة الفساد في العراق" (دار الشجرة – دمشق – الطبعة الأولى – 2013) صورة لا تُصدّق ولا يتقبّلها العقل عن "الفرهود الجديد" الذي يشهده العراق ، من خلال مقارنة راتب رؤساء بعض الدول براتب الرئيس العراقي:

(( مقارنة براتب الرئيس الفلبيني البالغ 2000 دولار شهريا فان الراتب الشهري لرئيس العراق وأيضا رئيس برلمان العراق يعادل رواتب رئيس الفلبين لمدة ثلاث سنوات ( ربّك إذا يلتفت يغير الأحوال..الفلبين يطلعها من حكم ماركوس وقنادر اميلدا إلى هذا أبو الألفين دولار..والعراق يطلع من حكم صدام وسجوده يحطه بحلك هذه الديناصورات..!).. ـ أما الرئيس الصيني فراتبه: 333 دولار شهرياً، أي 4 آلاف دولار سنوياً، يعني راتب فخامتنا الشهري يعادل رواتب الرئيس الصيني الذي يدير شؤون مليار ونصف من البشر لمدة 16 سنه.. ! – ص24).

إن الجانب الإحصائي المدمّر والدقيق هو واحد من أخطر الجوانب الإيجابية في جهد موسى فرج الموسوعي (كتابه في الواقع موسوعة الفساد في العراق) عن الفساد كفيل بتمزيق الأنفس قبل الضمائر.. وتأليب نفوس البشر على سارقهم الكبير والأول والأشطر والمحصّن قانونيا وهو الدولة وتوسيع الهوّة بين المواطن والدولة. وتواصلا مع موضوع راتب الرئيس ، يعود موسى فرج ليطرق من جديد على هذه الموضوعة التي لا تصدّق. فراتب رئيس الجمهورية ورئيس البرلمان في العراق هو 75 مليون دينار أي 64103 دولاراً لكل منهما ، وهذا يعني كمقارنة أن راتب شهر واحد للرئيس أو رئيس مجلس النواب يعادل راتب الرئيس الفيتنامي (1650 دولارا) لمدة 4 سنوات ، والرئيس الأندونيسي (1900 دولاراً) لمدة 4 سنوات ،وثلاثة أمثال راتب الرئيس الأمريكي (23750 يورو).. ثلاثة أمثال راتب ميركل (22711 يورو) شهريا.. وأربعة أمثال راتب ديفيد كاميرون (16100 يورو).. ثلاثة أمثال راتب ساركوزي (19300 يورو).

راتب نائب رئيس الجمهورية (طبعا لا يوجد مثل هذا المنصب في الدستور) 60 مليون دينار شهريا (51283 دولار) مع مليون دولار مخصصات !! كل شهر (يقول السيد عادل عبد المهدي في لقاء على السومرية يتاريخ 3/2/2010 إنه صرف 11 مليون دولار منها في عام 2010 للحالات الطارئة ؟؟.. وراتب مسعود البارزاني (400) ألأف دولار شهريا وهو ما يتقاضاه أوباما خلال سنة.. وراتب مسعود البارزاني في المرتبة الثانية في أعلى الرواتب بين رؤساء العالم بعد الطالباني.
وراتب رئيس الوزراء هو 35 مليون دينار أي (29915 دولار) ، وراتب نائبا رئيس الوزراء هو 17 مليون دولار شهريا (14530 دولارا) ومليون دولار شهريا مصاريف لكل من هذه الرئاسات الثلاث. وبهذا يزيد رواتب هؤلاء على 200 مليون دولار شهريا.

وإذا ضربنا 200 في 12 شهراً يكون المجموع خيالياً وهو:

2400000000 دولار !!!! – ص 183 و184).
(( إنتهى حديث السيّد موسى فرج رئيس هيئة النزاهة السابق في العراق)).


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى