الاثنين ١٢ أيلول (سبتمبر) ٢٠١٦
علي الوردي: (75) أول كتاب عن الخارقيّة
بقلم حسين سرمك حسن

(الباراسيكولوجي ) في الوطن العربي

إجتراح مصطلح "الخارقيّة" كمقابل للباراسيكولوجي

ومن الأدوار الريادية الأخرى للدكتور علي الوردي على مستوى العراق والوطن العربي، هو أنه صاحب أول كتاب يتناول موضوع علم القوى الخارقة أو الباراسيكولوجي – parapsychology في الثقافة العراقية والعربية، وهو كتاب "خوارق اللاشعور" الذي صدر عام 1952.

والملاحظة الأولى الهامة تتمثل في المصطلح العربي الذي اجترحه لمصطلح الباراسيكولوجي الإنكليزي ، وهو مصطلح "الخارقية". وأعتقد أنه مصطلح موفّق كثيرا في التعبير عن المعنى الأصلي من ناحية سيرورته وديناميته الحاضرة والمستمرة والتي لم تُحسم نهائيا بعد. ومثل ذلك يقال عن استخدام مصطلح (العائنية) للتعبير عن الحسد أو الإصابة بالعين.

أوّل كتاب عن الخارقية في الوطن العربي

ومن الأمور الغريبة التي تلفت انتباه أي باحث هو ما الذي دفع باحثا مختصا بعلم الاجتماع إلى الاهتمام بموضوع علمي صرف . والوردي نفسه يتساءل عن ذلك حيث يقول:

(في عام 1952 صدر لي كتاب بعنوان (خوارق اللاشعور) يبحث في علم الباراسايكولوجي الذي أسميه (علم الخارقية)، وهو أول كتاب يصدر في اللغة العربية حول هذا العلم الجديد . والسؤال الذي يواجهنا هو : ما علاقة هذا العلم بعلم الاجتماع الذي هو موضوع اختصاصي ؟ وما الذي دعاني إلى الاهتمام به قبل غيري من المؤلفين العرب؟) (535).

يبرّر الوردي ذلك بالقول أن فهم هذه القوى الخارقة المختلف عليها يساعد الباحث في شؤون المجتمع في فهم ظواهر اجتماعية كثيرة كانت حتى ذلك الحين ملغزة ومستغلقة وعصية على الفهم مثل موضوعة الحظ والتخاطر وحتى الجن. ومن المفارقات التي ذكرها الصحفي سلام الشماع هو أن نقاشا حاميا دار بين الوردي والشيخ جلال الحنفي حول معضلة الجن وهل هو موجود أم لا، كان فيه الوردي وهو العلّامة المتنور يرى أن الجن موجود، في حين أن الشيخ جلال الحنفي وهو رجل دين والمفترض أن جزءا من قناعاته الدينية يقوم على أساس أن الجن موجود كان يرفض هذه الفكرة جملة وتفصيلا. وليس رجل الدين فقط هو الذي واجه الوردي وأنكر وجود قوى خارقة لدى الإنسان، بل انتقد اطروحاته الشيوعيون أيضا . فبعد أن أصدر الوردي كتابه: "الأحلام بين العلم والعقيدة " قامت مجادلة بينه وبين أحد الماركسيين العراقيين حول موضوع الباراسايكولوجي حيث اعتبر الأخير أن موضوعة التنبؤ في الأحلام هو موضوع من المواضيع الميتافيزيقية التي لم يتوصل العلم ، ولن يتوصل، إلى النتيجة فيها، وأن أُسُس هذه المسألة خرافية وأسطورية . ولكن الغريب هو أن الحكومة السوفيتية بدأت تهتم بدراسة هذا العلم وتؤسس له المراكز البحثية المتخصصة ، ومن المتوقع أن الماركسي العراقي سيتراجع عن رأيه المناقض - كما يقول الوردي - كما حصل في قضايا أخرى معروفة تغيّرت فيها مواقف الشيوعيين العراقيين بحكم التبعية للموقف السوفيتي!!.

توظيف مفهوم الخارقية للدعوة إلى الثورة

ومن الملاحظات الأخرى التي أشرنا إليها هو أن الوردي استخدم هذه المسألة العلمية الصرف كمدخل للدعوة إلى الثورة على الجلاوزة كما سمّاهم . فهو لا يترك شاردة أو واردة في موضوع الخارقية دون أن يجعلها منطلقا للتصدي للظالمين ووعاظ السلاطين والتشهير بهم وفضح ألاعيبهم ودعوة الجماهير المسحوقة إلى النهوض والثورة عليهم كما بينا ذلك . وخلاف الوردي مع الماركسية في هذا المجال أوسع من الخلاف على ظواهر إشكالية مازالت موضع تجاذبات شديدة التناقض، إنه خلاف حول المباديء الجوهرية في الماركسية التي لخّصها لينين بقوله إن كل حقيقة جاء بها العلم الآن لا يمكن أن ينسخها العلم في المستقبل نسخا تاما بحيث يجعلها خطأ بحتا . ولابد للعلم من أن يصل في النهاية إلى الحقيقة الموضوعية المطلقة . في حين أن الوردي هو من مؤيدي مذهب " اللاأدريين " الذين تزدريهم الماركسية حيث قال لينين كلمته المأثورة: (إمسح وجه اللاأدري تجده مثاليا). واللاأدريون يردّون على كلام لينين السابق حول ثبات حقائق العلم بأنه لا يستطيع أن يصدر حكما قاطعا حول المستقبل وحول الوصول إلى الحقائق المطلقة ، علما أن العلم في تطور مستمر . أي أننا سنجد أنفسنا من جديد أمام خلاف منهجي يرتبط برفض الوردي للفلسفة المادية وثقتها بالعقل ثقة مطلقة وبقدرته على استكشاف أسرار الكون والحياة (536) .

ويرى الوردي أنه قد وصل في بحثه ذاك ويقصد به كتابه (خوارق اللاشعور) إلى نتيجة هي في الواقع معاكسة لجميع ما دأب المعلمون والكتاب والخطباء في العراق أن يلقنوه للناس . فهم قد وعظوا الناس وعلموهم على أن (من جد وجد) وأن ( كل من سار على الدرب وصل ) وأن مستقبل الفرد بيده إذ هو يستطيع أن يصنع نفسه حسبما يشاء بحزمه وإرادته وسعيه واجتهاده. وهذه نصيحة - كما يرى الوردي - يمكن أن نلقيها على الأطفال والتلاميذ الصغار لكي نحرّضهم على العمل والدأب ومواصلة الدراسة. ولكن التطرف فيها وتلقين الكبار والبالغين إياها قد يؤديان إلى عكس النتيجة التي نتوخاها. ويرى الوردي أن بحثه هذا يختلف عن الكتب الأخرى التي أُلّفت في موضوع الخارقية في جانبين:

أولهما: إنه حاول أن يجعل بحثه موضوعا لا صلة له بالاتجاهات الدينية والروحية . فلقد استند فيه على أحدث التطورات في الفلسفة وفي المباحث النفسية وعلم الفيزياء . وقد قدم الوردي فعلا تبسيطا لنظريات معقدة طرحها أينشتاين وبلانك وغيرهما .

ثانيهما: وأعتقد أنه الأكثر أهمية وفرادة، هو أنه لم يعرض على القاريء موضوع القوى النفسية ويكتفي به كما فعل غيره، إنما طبق نتائج هذا الموضوع على وقائع الحياة اليومية واستخدامها لكشف أفكار الفرد وأعماله التي تعين مصيره وتؤدي به إلى النجاح أو الفشل .

تأثير العقليّة الشعريّة

ويحاول الوردي تقديم تفسير لخلو المكتبة العربية تقريبا من البحوث المتعلقة بالقوى النفسية الخارقة وهو تفسير ريادي يضع فيه إصبعه على معضلة الثقافة الشعرية الطاغية على العقل العربي ونظرته إلى الحياة فيقول:

(عيب العرب الأكبر أنهم مولعون بالحذلقات اللغوية والشعرية في زمن نحن أحوج الناس فيه إلى ما ينير لنا سبيل الحياة ويشجع النبوغ والإبداع في الأفراد . همُّ أحدنا أن يكتب بحثا عن أحد الشعراء البائدين أو يؤلف كتابا عن رفع الفاعل ونصب المفعول أو يلقي خطابا رنانا عن مجد الأجداد ثم يهتف منشدا: حسبنا أننا عرب) (537) .

ومن الأدلة التي تؤيد التخطيط المسبق المقصود والريادي للوردي في توظيف هذا الموضوع العلمي الجديد آنذاك في دراسة المجتمع وهزّ ثوابته هو أنه سمّى كتابه (خوارق اللاشعور) أو (أسرار الشخصية الناجحة) لأنه كان يريد بذلك أن يلفت نظر القاريء العربي إلى ناحية من الشخصية البشرية ربما كان غافلا عنها : هي ناحية اللاشعور أو ما يُسمى أحيانا بالعقل الباطن . يقول الوردي:

(إننا يمكننا تشبيه العقل البشري بجبل الجليد الطافي في البحار القطبية لا يظهر منه إلا جزء صغير فوق سطح الماء أما الجزء الأكبر فقد انغمس في الماء لا يرى منه شيئا . إن أغلب حركات الإنسان وسكناته يسيرها ذلك الجزء المنغمس من العقل. وليس العقل الظاهر إذن إلا إخدوعة ، الغرض منها التضليل والتمويه ووضع الطلاء والزخرفة على حقائق الأشياء. إني أشتهي أن أجعل من هذا الكتاب الذي أقدّمه بين يدي القاريء صرخة مدوية ضد هذا الدين السائد بين شبابنا المتعلم هذه الأيام والذي جعلهم يؤمنون بالعقل ويتخذون منه إلها يُعبد) (538) .

أوّل من اقترح تأسيس جمعية للقوى الخارقة

وكمبادرة ريادية تُحسب للوردي هو أنه أول من اقترح تأسيس جمعية للقوى النفسية الخارقة (الخارقية) في العراق. هذا المقترح الذي لم يُنفّذ إلّا في التسعينات من القرن الماضي وبصورة لم تحقق جدواها العلمية الأصيلة. فبعد أن يتحدث الوردي عن تأسيس جمعيات للقوى النفسية في بريطانيا وفرنسا وأمريكا وهولندا والدنمارك والنرويج وبولندا وغيرها يقول:

(ونحن نتمنى أن يؤسس فرع للجمعية في العراق . ففي هذا البلد نسمع عن كثير من الخوارق ، طالما استهزأنا بها. ونحن نريد أن نضع حدا لهذا النزاع العقيم بين من يصدّق بها ويكذبها . فمن السهل جدا أن نؤلف لجنة علمية محايدة تبحث في صحة الأخبار التي يتناقلها الناس هنا عن كرامات الأولياء والمتصوفة أو غرائب العرّافين والسحرة أو ما أشبه. ولعلنا نعثر من بين هذه الأكوام المليئة بالكذب على قسط صغير من الحقيقة قد يكون له شأن كبير في تفكيرنا العلمي) (539) .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى