الجمعة ١٦ أيلول (سبتمبر) ٢٠١٦
بقلم حسين سرمك حسن

(115) افريقيا تواجه أسوأ أزمة صحية في تاريخ البشرية

ملاحظة

هذه الحلقات مترجمة ومُعدّة عن مقالات ودراسات وكتب لمجموعة من الكتاب والمحللين الأمريكيين والبريطانيين.

(ذكر بيان مشترك صادر عن منظمة الصحة العالمية في أبريل 2001 أن عدد حالات الإصابة بمرض (التدرن الرئوي) السُّل في أفريقيا سيصل إلى 3.3 مليون إصابة سنويا بحلول عام 2005، وأن ما يقرب من 3000 شخص من الأفارقة يموت كل يوم بسبب مرض الملاريا. كل عام في أفريقيا، يودي المرض بحياة أكثر من 000،500 طفل دون سن الخامسة. وكان الأكثر تدميرا من كل شيء هو وباء فيروس نقص المناعة البشرية/الإيدز. وقد تمّ تسهيل انتشار الفيروس في أفريقيا من خلال تفاقم الفقر وظروف عدم المساواة التي ضاعفتها سياسات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي)
الباحثة

"آن لويس كولغان"

(إن سياسات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي قد تسبّبت في تآكل أنظمة الرعاية الصحية في أفريقيا واشتداد الفقر بين سكان أفريقيا. يجب أن تكون هذه المؤسسات مسؤولة عن دورها في التسبّب في أسوأ أزمة صحية في تاريخ البشرية، التي تواجه أفريقيا الآن).
المدير التنفيذي لمنظمة عمل أفريقيا

المحتوى

(تمهيد: أسوأ أزمة صحية في تاريخ البشرية سببها البنك والصندوق- البنك الدولي وصندوق النقد الدولي في أفريقيا- ما هو برنامج التكيف الهيكلي؟- برامج البنك في أفريقيا هدفها الإفقار واستنزاف الموارد وليس التنمية- برامج البنك تسبّبت في الفقر وخفض النفقات على الرعاية الصحية- الصندوق والبنك أشاعا الفقر والأوبئة المميتة- برامج البنك تسبّبت في انهيار أنظمة الرعاية الصحية- الحكومات الأفريقية تدفع فوائد ديون البنك ولا يتبقى ليدها ما تنفقه على الصحة !- الخصخصة ورسوم المستخدم Privatization and User Fees سبب تدهور الخدمات الصحية- برنامج مدمّر آخر: التأمين الصحي الذي يديره القطاع الخاص !- التطورات الأخيرة التي أعلن عنها البنك: إصلاح أم إعادة تغليف؟- تلفيقات برامج "الحد من الفقر" الجديدة- مراوغة حول رسوم المستخدم- خصخصة المياه، برنامج آخر يهدد الصحة وينشر الأوبئة- (6). الخاتمة: تدمير القطاع الصحي والموت بسبب الأوبئة هو ما حصدته أفريقيا من برامج البنك الدولي- ملاحظة ختامية خطيرة- مصادر هذه الحلقات)

تمهيد: أسوأ أزمة صحية في تاريخ البشرية سببها البنك والصندوق

في مؤتمر صحفي يدعو إلى مقاطعة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ، قال المدير التنفيذي لمنظمة عمل أفريقيا صالح بوكر: "إن سياسات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي قد تسبّبت في تآكل أنظمة الرعاية الصحية في أفريقيا واشتداد الفقر بين سكان أفريقيا. يجب أن تكون هذه المؤسسات مسؤولة عن دورها في التسبّب في أسوأ أزمة صحية في تاريخ البشرية، التي تواجه أفريقيا الآن".

الصحة حق أساسي من حقوق الإنسان، معترف بها في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948)، ودستور منظمة الصحة العالمية (1946). الصحة هي أيضا عنصر أساسي في التنمية، وحيوي لنمو البلاد والاستقرار الداخلي. ولكن على مدى العقدين الماضيين، قوّض صندوق النقد الدولي (ص ن د) والبنك الدولي الصحة في أفريقيا من خلال السياسات التي فرضاها. وقد منح اعتماد البلدان الأفريقية الفقيرة المثقلة بالديون على قروض البنك الدولي وصندوق النقد الدولي هذه المؤسسات النفوذ والسلطة للسيطرة على صنع السياسات الاقتصادية في هذه البلدان. وقد أجبرت سياسات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي هذه الحكومات الأفريقية على توجيه اقتصاداتها نحو مزيد من التكامل في الأسواق الدولية على حساب الخدمات الاجتماعية وأولويات التنمية على المدى الطويل، وقلّصت دور الدولة في الحياة الاجتماعية وخفضت الإنفاق الحكومي.

في حين نجحت العديد من البلدان الأفريقية في تحسين نظم الرعاية الصحية في العقود الأولى بعد حصولها وانتزاعها للاستقلال من الاستعمار الغربي ، فإن تدخل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي عكس هذا التقدم وقلبه نحو الأسوأ. لقد حققت الاستثمارات في الرعاية الصحية من قبل الحكومات الأفريقية في السبعينات تحسينات واسعة في المؤشرات الصحية الرئيسية. في كينيا، على سبيل المثال، تم تخفيض معدل وفيات الأطفال بنحو 50٪ في العقدين الأولين بعد الاستقلال في عام 1963. في جميع أنحاء أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، وخلال العقود الأولى بعد الاستقلال ، شهدت زيادات كبيرة في متوسط العمر المتوقع، من متوسط قدره 44 عاما إلى متوسط أكثر من 50 عاما. ومع ذلك ، ففي الثمانينات والتسعينات ، كان على الحكومات الإفريقية التخلي عن سيطرتها على عملية صنع القرار الاقتصادي، من أجل التأهل للحصول على قروض البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. الشروط المصاحبة لهذه القروض قوّضت الكثير من التقدم الذي تم إحرازه في مجال الصحة العامة في تلك البلدان. . السياسات التي يفرضها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي تفاقم الفقر، وتوفر أرضية خصبة لانتشار فيروس نقص المناعة البشرية / الإيدز وغيره من الأمراض المعدية. التخفيضات في ميزانيات الصحة وخصخصة الخدمات الصحية نهشت التقدم السابق في مجال الرعاية الصحية وأضعفت قدرة الحكومات الأفريقية على التعامل مع الأزمة الصحية المتزايدة. ونتيجة لذلك، وخلال العقدين الماضيين انخفض متوسط العمر المتوقع بين الأفارقة بنسبة 15 سنة.

دعت منظمة عمل أفريقيا إلى وضع حد لسياسات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي التي تقوّض صحة. وهذا يتطلب إلغاء الديون التي تمنع الحكومات الأفريقية من أداء مساهمتها الكاملة في التصدي للأزمة صحية. كما يتطلب إنهاء فرض سياسات اقتصادية ضارة كشرط للحصول على القروض أو المنح المستقبلية.

البنك الدولي وصندوق النقد الدولي في أفريقيا

لقد تم إنشاء البنك الدولي وصندوق النقد الدولي في مؤتمر بريتون وودز في نيو هامبشاير، في الولايات المتحدة الأمريكية في عام 1944. وقد صُمّما على أنهما ركنا النظام الاقتصادي العالمي بعد الحرب العالمية (الغربية) الثانية. تركيز البنك الدولي هو على تقديم قروض طويلة الأجل لدعم مشاريع وبرامج التنمية. في حين ركز صندوق النقد الدولي على تقديم قروض لتحقيق الاستقرار في البلدان ذات الأزمات المالية على المدى القصير.

أصبح البنك الدولي وصندوق النقد الدولي قويين على نحو متزايد في أفريقيا مع اشتعال الأزمة الاقتصادية في أوائل الثمانينات. في أواخر السبعينات ، ومع ارتفاع أسعار النفط وارتفاع أسعار الفائدة، وانخفاض أسعار السلع الأولية الأخرى ، صارت العديد من البلدان الأفريقية الفقيرة غير قادرة على سداد الديون الخارجية المتصاعدة. في بداية الثمانينات ، تفاقمت أزمة الديون في افريقيا. ارتفعت نسبة الديون الخارجية إلى دخل صادراتها إلى 500٪ . صارت الدول الافريقية في حاجة لكميات متزايدة من "العملة الصعبة" لسداد ديونها الخارجية (أي العملات الأجنبية القابلة للتحويل مثل الدولار والمارك الألماني). لكن نصيب هذه الدول من التجارة العالمية انخفض وانخفضت عائدات صادراتها مع انخفاض الأسعار العالمية للسلع الأولية. الاعتماد في كثير من البلدان الأفريقية على الواردات من السلع المصنعة، والتي كانت هي نفسها لا تنتجها، جعل الكثير منها يستورد أكثر في حين أنها تصدر أقل. مشاكل التوازن في ميزان المدفوعات تفاقمت وأصبحت أعباء الديون الخارجية قاصمة ولا يمكن تحملها.

الحكومات الافريقية في حاجة لقروض جديدة لسداد الديون المستحقة عليها، ولتلبية الاحتياجات المحلية الملحة. أصبح البنك الدولي وصندوق النقد الدولي مصدرين رئيسيين للقروض إلى البلدان التي لم تتمكن من الاقتراض من أماكن أخرى. يأخذون الأموال من الحكومات الغنية والمصارف الخاصة كمصدر رئيسي من القروض للدول الفقيرة. هذه المؤسسات قدمت قروض بـ "العملة الصعبة" للبلدان الأفريقية لضمان سداد ديونها الخارجية واستعادة الاستقرار الاقتصادي.
كان البنك الدولي وصندوق النقد الدولي أدوات هامة بيد القوى الغربية خلال الحرب الباردة من الناحيتين الاقتصادية والسياسية. أدّوا وظيفة سياسية متمثلة في إخضاع أهداف التنمية للمصالح الجيوستراتيجية. كما أنها شجعت أجندة اقتصادية تسعى إلى الحفاظ على الهيمنة الغربية في الاقتصاد العالمي. ليس من المستغرب أن يتم توجيه البنك الدولي وصندوق النقد الدولي من قبل أغنى الحكومات من دول العالم. وسوية، فإن "مجموعة السبعة" (الولايات المتحدة، بريطانيا، كندا، فرنسا، ألمانيا، إيطاليا واليابان) تمتلك أكثر من 40٪ من الأصوات في مجالس إدارة هذه المؤسسات. الولايات المتحدة تمتلك وحدها ما يقرب من 20٪ من مجموع الأصوات.

كانت سياسة الولايات المتحدة خلال إدارة الرئيس ريغان في بداية الثمانينات ، هي توسيع دور البنك الدولي وصندوق النقد الدولي في إدارة اقتصادات البلدان النامية. أعطى اعتماد البلدان الأفريقية على قروض جديدة من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي المزيد من النفوذ لهما. الشروط المصاحبة لهذه القروض المطلوبة من قبل البلدان الأفريقية هو أن تُقدم هذه البلدان على التغييرات الاقتصادية التي تحبذ "الأسواق الحرة".

كان يطلق على هذه الحزمة القياسية السياسية التي فرضها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي اسم "التكيف الهيكلي structural adjustment". وزعمت المؤسستان أن الغرض من هذه السياسات هو تصحيح الخلل في الميزان التجاري والعجز الحكومي. كانت هذه السياسات تنطوي على تقليص دور الدولة وتعزيز دور القطاع الخاص. الأيديولوجية التي كانت تكمن وراء هذه السياسات في كثير من الأحيان هي التي تُسمى "الليبرالية الجديدة"، أو "أصولية السوق الحرة"، أو "إجماع واشنطن". من السبعينات فصاعدا، أصبح هذا التوجه هو النموذج الاقتصادي المهيمن على حكومات البلدان الغنية والمؤسسات المالية الدولية.

كان الافتراض الأساسي وراء برامج التكيف الهيكلي هو أن دورا متزايدا للسوق في الحياة الاقتصادية والاجتماعية سوف يعود بالفائدة على الفقراء والأغنياء على حدّ سواء. في العالم الدارويني في الأسواق الدولية، فإن القوي هو الذي يفوز بها ويبقى فيها. وهذا من شأنه تشجيع الآخرين على أن يحذوا حذوه أي حذو هذا القوي. لذا كان يُنظر إلى تطوير اقتصاد السوق مع دور أكبر للقطاع الخاص باعتباره المفتاح لتحفيز النمو الاقتصادي.

الأزمة التي عانت منها البلدان الأفريقية في بداية الثمانينات كشفت حاجة هذه البلدان إلى إجراء تعديلات اقتصادية. مع انخفاض الدخل وارتفاع النفقات، أصبحت الاقتصادات الأفريقية مشوّهة بشدّة. أصبحت هناك حاجة لإصلاحات تصحيحية حقيقية على نحو متزايد. ومع ذلك، فإن القضية الرئيسية مع تعديلات من هذا النوع، هو ما إذا كانت قادرة على بناء القدرة على التعافي وعما إذا كان بمقدورها أن تعزز التنمية على المدى الطويل. التعديلات التي يمليها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي فشلت في تحقيق الهدفين.

تحتاج البلدان الأفريقية لاستثمارات أساسية في مجالات الصحة والتعليم والبنية التحتية قبل أن تتمكن من المنافسة على الصعيد الدولي. البنك الدولي وصندوق النقد الدولي يفرض على هذه الدول بدلا من ذلك تقليص دعم الدولة في حماية القطاعات الاجتماعية والاقتصادية، ويصر على دفع الاقتصادات الأفريقية الضعيفة في جحيم الأسواق حيث أنها غير قادرة على منافسة قوة القطاع الخاص الدولي الكاسحة. هذه السياسات قامت بتقويض التنمية الاقتصادية للبلدان الأفريقية.

ما هو برنامج التكيف الهيكلي؟

يشير برنامج التكيف الهيكلي للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي إلى مجموعة من التغييرات في السياسات الاقتصادية الرامية إلى إصلاح الخلل في الميزانيات التجارية والحكومية. في التجارة، يكون الهدف من ذلك هو تحسين ميزان مدفوعات البلد، من خلال زيادة الصادرات والحد من الواردات. وفي الميزانيات، يكون الهدف من ذلك هو زيادة دخل الحكومة وتقليل النفقات. من الناحية النظرية، فإن تحقيق هذه الأهداف سوف يمكّن البلد من استعادة الاستقرار الاقتصادي الكلي في الأجل القصير. كما إنه سيتم أيضا تمهيد الطريق لتحقيق النمو والتنمية طويلة الأجل.

وكان من المفترض أن برامج التكيف الهيكلي منذ بداية الثمانينات تقوم بتوفير تمويل مؤقت للبلدان المقترضة لتحقيق الاستقرار في اقتصاداتها. وتهدف هذه القروض إلى تمكين الحكومات من سداد ديونها ، وخفض العجز في الإنفاق، وإغلاق الفجوة بين الواردات والصادرات. وتدريجيا، تطورت هذه القروض إلى مجموعة أساسية من التغييرات في السياسة الاقتصادية المطلوبة من قبل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. وهي مصممة لمواصلة إدماج البلدان الأفريقية في الاقتصاد العالمي، لتعزيز دور القطاع الخاص الدولي، وتشجيع النمو من خلال التجارة.

وتشمل المكونات النموذجية لبرامج التكيف الهيكلي التخفيضات في الإنفاق الحكومي، وخصخصة المؤسسات والخدمات التي تسيطر عليها الحكومة، وتخفيض الحماية للصناعة المحلية. وتتضمن الأنواع الأخرى من التعديل الهيكلي تخفيض قيمة العملة، وزيادة أسعار الفائدة، والقضاء على الإعانات الغذائية. كانت النية الأساسية لهذه البرامج هو تقليص وتحجيم دور الدولة.

برامج التكيف لهيكلي للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي تختلف وفقا لدور كل مؤسسة. بشكل عام، تركز شروط قروض صندوق النقد الدولي على القضايا النقدية والمالية. وهو يشدّد على برامج لمعالجة التضخم ومشكلات ميزان المدفوعات ، والتي تتطلب في كثير من الأحيان مستويات محددة من التخفيضات في إجمالي الإنفاق الحكومي. برامج التكيف الخاصة بالبنك الدولي هي أوسع نطاقا، حيث تركز أكثر على التنمية على المدى الطويل. إنها تسلط الضوء على تحرير السوق وإصلاح القطاع العام التي ينظر اليها كأداة لتعزيز النمو من خلال زيادة الصادرات، وخاصة من المحاصيل النقدية (المحاصيل المنتجة للتصدير كالكاكاو والبن والقطن وغيرها).

وعلى الرغم من هذه الاختلافات في برامج التكيف الخاصة بالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي يعزز كلّ منهما الآخر. وإحدى طرق التعزيز تُسمى طريقة "تقاطع المشروطية - cross-conditionality" وهذا يعني أن أي حكومة يجب أولا أن يصادق عليها صندوق النقد الدولي، قبل أن تصبح مهيّئة للحصول على قرض تعديل هيكلي من البنك الدولي. وتتداخل خططهما أيضا في مجال القطاع المالي بشكل خاص. فهما يعملان على حد سواء لفرض التقشف المالي والقضاء على إعانات العمال، على سبيل المثال. وجهة نظرهما الموجهة نحو حرّية السوق تجعل سياسات كلتا المؤسستين مكملة لبعضها الآخر. يشكل الإقراض لأغراض التكييف 100٪ من قروض صندوق النقد الدولي. في عام 2001، كان ما يقرب من 27٪ من قروض البنك الدولي للدول الافريقية مخصّصة لـ "التكيّف الهيكلي". في إجمالي محفظة القروض للبنك الدولي، كانت قروض التعديل الهيكلي ما بين الثلث والنصف. ويصرف ما تبقى من قروض البنك الدولي لمشاريع وبرامج التنمية. محفظة المشاريع للبنك الدولي تغطي مجالات مثل البنية التحتية والتنمية الزراعية والبيئية، وتنمية الموارد البشرية. في بعض الحالات، المشاريع التي تدعمها قروض البنك الدولي تحقّق إسهامات مفيدة في التنمية. ولكن هذه النجاحات التي تحصل في بعض الأحيان يجب أن توزن مقابل الآثار السلبية لزيادة الديون والسياسات الاقتصادية التي يفرضها البنك وعواقبها الخطيرة.

برامج البنك في أفريقيا هدفها الإفقار واستنزاف الموارد وليس التنمية

خلال العقدين الماضيين أدت برامج التعديل الهيكلي المفروضة من قبل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي في أفريقيا إلى مزيد من الحرمان الاجتماعي والاقتصادي، وزيادة اعتماد البلدان الأفريقية على القروض الخارجية. وقد فشل التكيف الهيكلي بصورة ماساوية لدرجة أنها جعلت بعض منتقدي البنك الدولي وصندوق النقد الدولي يرون أن السياسات المفروضة على البلدان الأفريقية لم تكن تهدف إلى تحقيق التنمية بل الإفقار واستنزاف الموارد، وزعموا أن هدف هذه البرامج ​​كان الإبقاء على هذه الدول ضعيفة اقتصاديا وتابعة.

معظم الدول الصناعية في العالم تطوّرت في الواقع في ظل ظروف مناقضة لتلك المفروضة من قبل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي على الحكومات الأفريقية. فحكومات الولايات المتحدة وبلدان أوروبا الغربية منحت دورا مركزيا للدولة في النشاط الاقتصادي، ومارست حمائية قوية للنشاط الاقتصادي، مع دعم مالي وتسهيلات للصناعات المحلية. في إطار برامج البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، أُجبرت البلدان الأفريقية على أن تتخلى عن الشروط والأحكام ذاتها التي ساعدت الدول الغنية على أن تنمو وتزدهر في الماضي.

والأهم من ذلك ، أعاقت سياسات البنك الدولي وصندوق النقد التنمية في أفريقيا من خلال تقويض الصحة في هذه القارة. فقد فشل منظور السوق الحرة الذي فرضه الصندوق والبنك في النظر إلى الصحة كجزء لا يتجزأ من النمو الاقتصادي واستراتيجية التنمية البشرية. بدلا من ذلك، تسببت سياسات هذه المؤسسات بتدهور في الصحة وخدمات الرعاية الصحية في جميع أنحاء القارة الأفريقية.

برامج البنك تسبّبت في الفقر وخفض النفقات على الرعاية الصحية

يتأثر الوضع الصحي بعوامل اجتماعية واقتصادية عديدة، وكذلك بنظام تقديم الرعاية الصحية من قبل الدولة. وزادت السياسات التي فرضها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي من معدلات الفقر في البلدان الأفريقية ، وقوضت التخفيضات في قطاع الصحة. وسويّةً، تسبّب هذا في تدهور هائل في الوضع الصحي في القارة بأكملها.

نظم الرعاية الصحية التي ورثها معظم الدول الأفريقية بعد الحقبة الاستعمارية ركزت بشكل غير متساو على تقديم الرعاية للنخب المتميزة والمراكز الحضرية. في الستينات والسبعينات تم إحراز تقدم كبير في تحسين الحصول على خدمات الرعاية الصحية في العديد من البلدان الأفريقية. زادت معظم الحكومات الأفريقية من الإنفاق على القطاع الصحي خلال هذه الفترة. وسعت إلى توسيع الرعاية الصحية الأولية والتأكيد على تطوير نظام الصحة العامة لمعالجة عدم المساواة الموروثة من الحقبة الاستعمارية. وقد أكدت منظمة الصحة العالمية (WHO) على أهمية الرعاية الصحية الأولية في أغلب مؤتمراتها خصوصا مؤتمر ألما آتا التاريخي في عام 1978. وقد ركّز إعلان ألما آتا على النهج المجتمعي في الرعاية الصحية وأكّد على أن الرعاية الصحية الشاملة هي حق أساسي ومسؤولية على الحكومة.

كانت هذه الجهود التي قامت بها الحكومات الأفريقية بعد الاستقلال ناجحة تماما. كانت هناك زيادات في أعداد المهنيين الصحيين العاملين في القطاع العام، وتحسين كبير في البنية التحتية للرعاية الصحية في العديد من البلدان. كان هناك أيضا بعض النجاح في تقديم الرعاية إلى المناطق والسكان غير المخدومين سابقا . وفي جميع أنحاء القارة، كان هناك تحسن في مؤشرات الرعاية الصحية الأساسية، مثل معدلات وفيات الرضع ومتوسط ​​العمر المتوقع.

في زامبيا، وسّعت الحكومة بعد الاستقلال خدمات الرعاية الصحية العامة في جميع أنحاء البلاد. كما تم زيادة عدد الأطباء والممرضات بشكل كبير خلال هذه الفترة. وانخفض معدل وفيات الرضع من 123 لكل 1000 ولادة حية في عام 1965 إلى 85 في عام 1984.

في تنزانيا، خلال العقدين الأولين من الاستقلال، نجحت الحكومة في توسيع فرص الحصول على الرعاية الصحية على الصعيد الوطني. بحلول عام 1977، صار أكثر من ثلاثة أرباع سكان تنزانيا يعيشون على بعد 5 كم من مرافق الرعاية الصحية.

بينما كان التقدم في جميع أنحاء القارة الأفريقية متفاوتا، إلّأ أنه كان كبيرا جدا، ليس فقط لما له من آثار إيجابية على صحة السكان الأفارقة، بل لأنه كشف أيضا التزام القادة الأفارقة بمبدأ بناء وتطوير نظم الرعاية الصحية.

مع الأزمة الاقتصادية الكبيرة في الثمانينات، بدأ الكثير من التقدم الاقتصادي والاجتماعي في أفريقيا على مدى العقدين الماضيين بالتراجع. ومع تحوّل الحكومات الأفريقية إلى عملاء للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، فإنها خسرت السيطرة على أولويات الإنفاق المحلية. شروط الإقراض لهذه المؤسسات فرضت الانكماش في الإنفاق الحكومي على الخدمات الصحية والخدمات الاجتماعية الأخرى.

الصندوق والبنك أشاعا الفقر والأوبئة المميتة

العلاقة بين الفقر واعتلال الصحة راسخة وواضحة. أدّت سياسات التقشف الاقتصادية التي تُعلق على قروض البنك الدولي وصندوق النقد الدولي إلى ازدياد حدة الفقر في العديد من البلدان الأفريقية في الثمانينات والتسعينات. هذا ما زاد من معاناة السكان الأفارقة وإلى انتشار الأمراض والمشاكل الصحية الأخرى.

خسائر الوظائف في القطاع العام وخفض الأجور المرتبطة ببرامج البنك الدولي وصندوق النقد الدولي زادت الصعوبات في العديد من البلدان الأفريقية. وخلال الثمانينات ، عندما أصبحت معظم البلدان الأفريقية تحت وصاية البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وسيطرتهما، انخفض نصيب الفرد من الدخل بنسبة 25٪ في معظم بلدان أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى. إزالة الدعم عن المواد الغذائية وإلغاء الإعانات الزراعية تسببت في ارتفاع الاسعار وخلقت زيادة في انعدام الأمن الغذائي. وأدى ذلك إلى تدهور ملحوظ في الحالة التغذوية، خاصة بين النساء والأطفال.

في زامبيا، على سبيل المثال، وفي أعقاب إلغاء دعم المواد الغذائية، اضطر العديد من الأسر الفقيرة إلى تقليل عدد الوجبات في اليوم الواحد من وجبتين إلى وجبة واحدة. . أدى سوء التغذية إلى انخفاض وزن المواليد الرضع وعرقلة النمو بين الأطفال في العديد من البلدان. ويُقدر حاليا أن واحدا من كل ثلاثة أطفال في أفريقيا يعاني من نقص الوزن. بشكل عام، بين ربع وثلث سكان أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى يعانون من سوء التغذية المزمن.

وقد أدى ازدياد الفقر في جميع أنحاء القارة إلى خلق أرض خصبة لانتشار الأمراض المعدية. تراجع ظروف المعيشة وانخفاض فرص الحصول على الخدمات الأساسية أدى إلى تدهور الحالة الصحية. في أفريقيا اليوم، يفتقر ما يقرب من نصف السكان إلى الحصول على المياه المأمونة وخدمات الصرف الصحي الكافية. كما أصبح ضعف جهاز المناعة سببا في ارتفاع قابلية الشعوب الأفريقية على الإصابة بالأمراض المعدية بدرجة كبيرة.

ذكر بيان مشترك صادر عن منظمة الصحة العالمية وبرنامج الأمم المتحدة المشترك المعني بفيروس نقص المناعة البشرية / الإيدز في أبريل 2001 أن عدد حالات الإصابة بمرض (التدرن الرئوي) السُّل في أفريقيا سيصل إلى 3.3 مليون إصابة سنويا بحلول عام 2005 . كما ذكرت منظمة الصحة العالمية في عام 2001 أن ما يقرب من 3000 شخص من الأفارقة يموت كل يوم بسبب مرض الملاريا. كل عام في أفريقيا، يودي المرض بحياة أكثر من 000،500 طفل دون سن الخامسة.
وكان الأكثر تدميرا من كل شيء هو وباء فيروس نقص المناعة البشرية / الإيدز. وقد تمّ تسهيل انتشار فيروس نقص المناعة البشرية / الإيدز في أفريقيا من خلال تفاقم الفقر وظروف عدم المساواة التي ضاعفتها سياسات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. وقد عزز انعدام الأمن الاقتصادي أنماط هجرة الأيدي العاملة ، والتي بدورها زادت من خطر العدوى. كما أن تقلّص فرص الحصول على خدمات الرعاية الصحية وزيادة انتشار الأمراض التي تنتقل عن طريق الاتصال الجنسي زاد من فرص التعرض والإصابة بفيروس نقص المناعة البشرية.

قُتل أكثر من 17 مليون أفريقي من فيروس نقص المناعة البشرية / الإيدز. ويقدر حاليا أن أكثر من 28 مليون من 40 مليون شخص يعيشون مع هذا المرض في جميع أنحاء العالم هم في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى. هناك أكثر من 12 مليون يتيم في أفريقيا فقدوا أمهاتهم أو كلا الوالدين بسبب الإيدز. الآثار الاجتماعية والاقتصادية لكارثة الإيدز قلبت التقدم الذي حصل في مرحلة ما بعد الاستقلال وفاقمت ظروف التخلف. ضاعفت السياسات المفروضة من قبل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي من انتشار المرض وكانت السبب في إعاقة الاستجابة لهذه الحالة الصحية الطارئة.

برامج البنك تسبّبت في انهيار أنظمة الرعاية الصحية

مثلما أن الفقر قد زاد من المشاكل الصحية في أفريقيا، فقد أدى تدخل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي أيضا إلى انهيار أنظمة تقديم الرعاية الصحية. تم تخفيض دور الدولة في تقديم خدمات الرعاية الصحية إلى حد كبير. تخفيضات الأموال المخصصة للقطاع الصحي قوضت بشدة الخدمات القائمة. والتزامات أفريقيا بسداد الديون إلى الدائنين الأجانب حوّل الأموال مباشرة من الإنفاق على الصحة إلى دفع فوائد القروض.

التخفيضات في الإنفاق الحكومي تمثل عنصرا رئيسيا من عناصر برامج التكيف الهيكلي للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي. في الثمانينات، انخفضت المصروفات الحقيقية للشخص الواحد في الإنفاق الحكومي في العديد من البلدان الأفريقية:
في مدغشقر، بين عامي 1977 و 1985، انخفضت النفقات الحكومية بنسبة 24٪ . أدّت التخفيضات في الميزانيات الحكومية إلى تخفيضات كبيرة في القطاع الصحي. في أفقر 42 بلدا في أفريقيا، انخفض الإنفاق على الرعاية الصحية بنسبة 50٪ خلال الثمانينات. في نيجيريا، انخفض نصيب الفرد من الإنفاق على الصحة بنسبة 75٪ بين عامي 1980 و 1987. ونتج عن الانخفاض الكبير في الإنفاق على الرعاية الصحية في الثمانينات والتسعينات إغلاق مئات العيادات والمستشفيات والمرافق الطبية في جميع أنحاء القارة. أما تلك التي بقيت مفتوحة فقد تُركت تعاني الفقر إلى الإمدادات الطبية الأساسية. كانت غير قادرة على توفير اللقاحات الأساسية. في 14 بلدا من البلدان الأفريقية الواقعة جنوب الصحراء الكبرى بين 1990-1992، انخفض مستوى التطعيم ضد شلل الأطفال بنسبة أكثر من 10٪ نتيجة للتخفيضات في خدمات الرعاية الصحية.

فقد الآلاف من العاملين في مجال الرعاية الصحية في جميع أنحاء القارة وظائفهم نتيجة لتخفيضات تخصيصات القطاع العام. في غانا، بين عامي 1982 و 1992، انخفض عدد الأطباء في نظام الرعاية الصحية الحكومية من 1700 إلى 665. في السنغال، بين عامي 1980 و 1993، ارتفع عدد الأشخاص لكل ممرض ستة أضعاف.

الحكومات الأفريقية تدفع فوائد ديون البنك ولا يتبقى لديها ما تنفقه على الصحة !

مع تصاعد نقص الإنفاق الحكومي على قطاع الصحة، زادت المبالغ التي تُدفع من قبل الحكومات الأفريقية للدائنين الأجانب . وفي التسعينات ، كانت معظم الدول الأفريقية تنفق لسداد الديون الخارجية أكثر من انفاقها على الصحة أو التعليم لشعوبها. خدمات الرعاية الصحية في البلدان الأفريقية تفكّكت، في حين تم امتصاص الموارد الضرورية من قبل الدائنين الأجانب.
في عام 1997 دفعت الحكومات الأفريقية الواقعة جنوب الصحراء الكبرى إلى الدائنين الشماليين أربعة أضعاف ما أنفقته على صحة شعوبها . في عام 1998، صرفت السنغال على سداد الديون الخارجية خمسة أضعاف أكثرمما صرفته على الصحة. وفي جميع أنحاء أفريقيا، كان تسديد الديون الخارجية يفوق بدرجة هائلة الإنفاق على خدمات الرعاية الصحية في افريقيا.

لقد ترك تآكل البنية التحتية للرعاية الصحية في أفريقيا العديد من البلدان غير قادرة على التعامل مع الآثار الناجمة عن فيروس نقص المناعة البشرية / الإيدز وغيرها من الأمراض. وقد تم تقويض الجهود الرامية إلى معالجة الأزمة الصحية بسبب نقص الموارد المتاحة وانهيار أنظمة تقديم الرعاية الصحية. وخصخصة الرعاية الصحية الأساسية أعاقت بدورها الاستجابة للأزمة الصحية المتفاقمة.

الخصخصة ورسوم المستخدم Privatization and User Fees سبب تدهور الخدمات الصحية

الخصخصة تشكل ركيزة أساسية في جدول أعمال البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. تقليل حجم ونطاق الحكومة، وخصخصة الشركات والخدمات المملوكة للدولة، عنصرا رئيسيا في برامج البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. تحت إشراف البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، تمّ - وعلى نحو متزايد - نقل السيطرة على خدمات الرعاية الصحية من الحكومات الأفريقية إلى القطاع الخاص. كان التبرير لذلك هو أن خدمات الرعاية الصحية تُموّل بشكل أفضل وأكثر كفاءة من قبل القطاع الخاص. لقد أوصى البنك الدولي بعدة أشكال من الخصخصة في القطاع الصحي. وهذه تشمل: فرض طريقة "رسوم المستخدم user fees" التي تُدفع من المواطن مقابل الخدمات الصحية التي كانت تُقدّم له سابقا بالمجان، تعزيز خطط التأمين الصحي، زيادة الاستثمارات في الرعاية الصحية الخاصة من أجل جذب المرضى إلى المرافق الخاصة.
في جميع أنحاء أفريقيا، قلّلت خصخصة الرعاية الصحية من فرص الحصول على الخدمات الضرورية. حوّل إدخال مبادئ السوق في تقديم الرعاية الصحية، الرعاية الصحية من الخدمة العامة إلى سلعة خاصة. وكانت النتيجة حرمان الفقراء الذين لا يستطيعون دفع التكاليف من الرعاية الخاصة. على سبيل المثال، تبيّن أن فرض رسوم على المستفيدين من الخدمات والرعاية الصحية حدّ بشدّة من وصول غير القادرين على الدفع. عزّز البنك الدولي وصندوق النقد الدولي "رسوم المستخدم" كوسيلة لتوليد الإيرادات للقطاع الصحي. هم يجادلون بأنّ هذه الرسوم سوف تفرض الضرائب على الأغنياء وأن من الممكن وضع نظام إعفاءات وحماية للفقراء من التكاليف. ومع ذلك، تشير كل الأدلة إلى أن رسوم المستخدم قد نجحت بالفعل في حرمان الفقراء من خدمات الرعاية الصحية.

كانت غانا وسوازيلاند وزائير السابقة بين البلدان الأفريقية الأولى التي حلت فيها رسوم الاستخدام محل الخدمات المجانية، أو شبه المجانية. وفي كل هذه، أظهرت الدراسات أن فرض رسوم المستخدم أدى إلى انخفاض استخدام هذه الخدمات.
في ساحل العاج أظهرت الدراسات أن ذوي الدخل فوق المتوسط ​​استفادوا من الخدمات الطبية عند فرض رسوم المستخدم، ولكن أولئك الذين يقل دخلهم عن الحد المتوسط ​​لم يستطيعوا استخدامها. وعبر أفريقيا، تشير التقارير إلى أن مراجعة المستشفيات والعيادات انخفضت بشكل ملحوظ بعد فرض الرسوم على المستخدم. وقد تبين أن الخطط الرامية إلى إعفاء الفقراء من رسوم المستخدم لم تكن فعالة. وكشفت دراسة شاملة لليونيسيف أن هذه الخطط نادرة. وتزعم الدراسة أن الفقراء عموما ليسوا على علم بهذه الإعفاءات، والتي غالبا ما تكون هناك حواجز إدارية معقدة أمام الحصول عليها. ويخلص التقرير إلى أن تنفيذ خطط الإعفاء نادر ويُطبق بطرق عشوائية. ولذلك فإنه لا يبدو أن رسوم المستخدم قد وُضعت من اجل تحصيل الإيرادات من الأغنياء فقط. بدلا من ذلك، كان لها تأثير كبير في منع من لا يستطيع الدفع من الحصول على الخدمات الطبية. كما خلصت دراسة أخيرة، فإن رسوم المستخدم "تزيد من العقبات التي يواجهها الفقراء على نحو غير متناسب عند التماس الرعاية الصحية". فشلهم في توليد الإيرادات قوّض أيضا الأساس المنطقي من الناحية الاقتصادية، كما طُرح من قبل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي.

# برنامج مدمّر آخر: التأمين الصحي الذي يديره القطاع الخاص !

شكل آخر من أشكال الخصخصة ينطوي على فرض خطط التأمين كوسيلة لتغطية تكاليف الرعاية الصحية الخاصة. هذا الإجراء يمثل صدعاً في السياق الأفريقي. يعمل أقل من 10٪ من القوى العاملة في أفريقيا في مجال العمل الرسمي. ولذلك، فإن الغالبية العظمى من الناس ليست مؤهلة للحصول على التأمين من خلال صاحب العمل. مستويات الدخل في أفريقيا منخفضة للغاية، وقد خفضت من جديد بسبب خفض الأجور والتسريحات العشوائية المرتبطة بسياسات التقشف التي فرضها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. ولهذا معظم الأفارقة لا يستطيعون تحمل تكاليف التأمين الخاص. ونظرا لهذه الظروف، يمكن القول أن خطط التأمين لا يمكن أن تحل مسألة الحصول على الرعاية الصحية الخاصة في البلدان الأفريقية. وإلى جانب قضية القدرة على تحمل التكاليف، فإن الرعاية الصحية الخاصة هي أيضا غير مناسبة في الاستجابة للاحتياجات الصحية الخاصة بالواقع الأفريقي. عندما تشكل الأمراض المعدية التحدي الأكبر للصحة في أفريقيا، فإن خدمات الصحة العامة ستكون هي الأساسية. الرعاية الصحية الخاصة لا يمكن أن توفر التدخلات اللازمة على مستوى المجتمع المحلي. الرعاية الخاصة هي أقل فعالية في الوقاية، وأقل قدرة على التعامل مع الحالات الوبائية. الاستجابة بنجاح لانتشار فيروس نقص المناعة البشرية / الإيدز وغيرها من الأمراض في أفريقيا يتطلب خدمات رعاية صحية عامة قوية. أنشأت خصخصة الرعاية الصحية في أفريقيا نظاما من مستويين مما يعزز عدم المساواة الاقتصادية والاجتماعية. لقد أصبحت الرعاية الصحية امتيازا باهظ الثمن، وصار الفقراء غير قادرين على دفع تكاليف الخدمات الأساسية. تم تخفيض الحصول على الخدمات وزادت معدلات المرض والوفيات. على الرغم من هذه النتائج المدمرة، فقد استمر البنك الدولي وصندوق النقد الدولي بالضغط من أجل خصخصة الخدمات الصحية العامة.

التطورات الأخيرة التي أعلن عنها البنك: إصلاح أم إعادة تغليف؟

في السنوات الأخيرة، كانت هناك انتقادات متزايدة لآثار برامج البنك الدولي وصندوق النقد الدولي في البلدان النامية. ونتيجة لذلك، اتخذت هذه المؤسسات موقفا ظاهرياً لصالح "الحد من الفقر". لقد حاولوا إعادة تغليف حزمة التكيف الهيكلي لتشمل مزيدا من التركيز على برامج التنمية الاجتماعية كما زعموا.

تلفيقات برامج "الحد من الفقر" الجديدة

وقد أعلن كل من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي عزمهما على التزام أكبر بـ "الحد من الفقر" في السنوات الأخيرة. وقد بيّنا للبلدان استراتيجية "جديدة" من أجل إعداد مشروعات استراتيجية للحد من الفقر كشرط لتلقي قروض جديدة أو تخفيف عبء الديون القديمة. وتوضع هذه المشروعات من قبل الحكومات الوطنية بالتشاور مع "أصحاب المصلحة" في المجتمع المدني بإشراف "ذئاب" البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. كانوا يريدون تحديد الخطوط العريضة لأولويات واستراتيجيات الحكومات الأفريقية في جهودها الإنمائية. ولكي يعكسا قلقهما على التنمية الاجتماعية، أعاد البنك الدولي وصندوق النقد الدولي أيضا تسمية الإقراض لأغراض التكييف الهيكلي بتسميات جديدة خادعة. فصندوق النقد الدولي يستخدم الآن مصطلح "الحد من الفقر وتسهيل النمو". أما البنك الدولي فيستخدم مصطلحا جديدا خادعا هو "تخفيض الفقر ودعم القروض".
لقد زاد البنك الدولي التمويل على الصحة، ولبرامج فيروس نقص المناعة البشرية / الإيدز على وجه الخصوص. وفي حين أن التحول في التركيز نحو تحديد أولويات التنمية الاجتماعية والقضاء على الفقر هو موضع ترحيب، لا تزال المشاكل الأساسية نفسها . منح قروض جديدة للصحة والتعليم لا يمكن أن يحقق سوى الشيء القليل عندما يكون عبء الديون في معظم البلدان الأفريقية عبئاً ثقيلا لا يمكن تحمله. ينبغي أن يكون إلغاء الديون هو الخطوة الأولى في تمكين البلدان الأفريقية من مواجهة تحديات التنمية الاجتماعية. وينبغي النظر إلى توفير موارد إضافية لدعم برامج الصحة والتعليم من خلال الاستثمارات العامة وليس من خلال القروض الجديدة. الدوران حول أولويات جديدة للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي فشل في تغيير جدول الأعمال والعمليات الأساسية لهذه المؤسسات. في الواقع، يبدو هذا إلى حد كبير وكأنه تمرين في الدعاية والعلاقات العامة. الشروط المصاحبة لقروض البنك الدولي وصندوق النقد الدولي لا تزال تعبّر عن نفس التوجه السابق المقرر على مدى العقدين الماضيين. التحركات الأخيرة نحو تعزيز الحد من الفقر سمحت في الواقع لهذه المؤسسات لزيادة نطاق شروط الإقراض لتشمل إصلاحات القطاع الاجتماعي وجوانب الحكم والسيادة. وهذا يسمح بتدخل أكبر في السياسات الداخلية للدول الأفريقية. ومن غير المناسب أن يكون للدائنين الخارجيين مثل هذه السيطرة على أولويات الحكومات الأفريقية. ومن الخداع والمكر أن يعلن هؤلاء الدائنون قلقهم على الحد من الفقر وهم مستمرون في استنزاف الموارد الضرورية من أشد البلدان فقرا.

مراوغة حول رسوم المستخدم

في عام 1998، ذكرت إدارة تقييم العمليات في البنك الدولي أن ما يقرب من 75٪ من المشاريع في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى شملت إنشاء أو توسيع رسوم المستخدم. ومع تلقّي الآثار السلبية لرسوم المستخدم المزيد من الاهتمام العام، سعى البنك للنأى بنفسه عن الترويج لهذه الرسوم.

وفي بيان سياسي في نهاية عام 2000، أعلن البنك الدولي أنه تم التراجع عن فرض رسوم على المستفيدين من الخدمات الاجتماعية الأساسية في العالم النامي. وذكر أنه يدعم توفير الرعاية الصحية مجانا. ومع ذلك، فقد أضاف أن رسوماً مصممة تصميما جيدا يمكن لو نُفّذت بشكل جيد أن تكون مفيدة في تعبئة موارد إضافية لهذه الخدمات في البلدان الفقيرة. وأكّد على أن بعض خطط الإعفاء يمكن أن تكون قادرة على العمل في بعض البلدان. وعموما، فالبنك لا يزال مقتنعا بأن رسوم المستخدم يمكنها تحسين جودة خدمات الرعاية الصحية المقدمة!! وأن كل ما بشّر به كان أكاذيب في أكاذيب.
ومن الصعب التأكد مما إذا كان البنك الدولي لا يزال يدفع باتجاه فرض رسوم المستخدم في الممارسة العملية. في الواقع، ليس من السهل مراقبة محتوى برامج التكيف للبنك على الإطلاق بسبب عدم الكشف عن المعلومات المطلوبة المتعلقة بهذا النموذج من الإقراض فالبنك يعتمد "السرّية" في عقد اتفاقاته وتبيت شروطه ومنعها عن أعين الناس والصحافة والرأي العام (حول السرّية في عمل الصندوق والبنك راجع الحلقتين (102) البنك الدولي يملأ جيوب الشركات عبر تعطيش البشر وتدمير صحتهم؛ رفع أسعار مياه الشرب من أهم شروط قروض البنك الدولي؛ الكوليرا عادت إلى أفريقيا وأمريكا اللاتينية بسبب خصخصة المياه من قبل الصندوق والبنك الدولي و(110) صندوق النقد الدولي منظمة اقتصادية كما يدّعي، فلماذا تكون اتفاقاته سرّية ولا تُعرض على البرلمانات ولا على الرأي العام؟).

لقد صدر قرار من الكونغرس الأمريكي يطالب بإلغاء هذه الرسوم وعدم ربطها بالقروض ، ولكن البنك استمر في إدراج هذه الرسوم المستخدمة في حزمة القروض، على الرغم من ذلك. هذا يشكك في التزام البنك الدولي ومدراؤه الأمريكيون بإنهاء رسوم المستخدم كجزء من وصفات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. في صندوق النقد الدولي، لم يتم ظهور أي تحرك للإشارة إلى سياسة جديدة بشأن فرض رسوم المستخدم في البلدان المقترضة.

خصخصة المياه، برنامج آخر يهدّد الصحة وينشر الأوبئة

خصخصة شبكات المياه العامة هي استراتيجية يجري الترويج لها من قبل البنك الدولي في عدد متزايد من البلدان الأفريقية. وهذا ينطوي على تخفيض الإعانات الحكومية العامة للمياه النظيفة. وهو ينطوي أيضا على إدخال تدابير استرداد التكاليف من أجل حصول المواطنين على إمدادات المياه.

هذا المشروع يمثل سببا رئيسيا للقلق. الحصول على مياه نظيفة هو ضرورة حيوية للصحة العامة وحق من حقوق الإنسان الأساسية. خصخصة المياه يمكن أن تؤدي إلى انخفاض فرص الحصول على المياه الصالحة للشرب في المجتمعات الفقيرة. في غانا، جرت معارضة كبيرة ضد خصخصة قطاع المياه من قبل منظمات المجتمع المدني لهذا السبب. بالفعل، ووفقا لوزارة الصحة الغانية، فإن نصف عدد المراجعين للعيادات الطبية في غانا هو بسبب الأمراض التي تنقلها المياه. مجموعات معارضة الخصخصة قلقة من أن هذه الخطوة ستزيد من تقليل فرص الحصول على مياه آمنة وبأسعار معقولة في المناطق الحضرية.

أكثر من مليوني شخص في البلدان النامية يموتون كل عام بسبب الأمراض المتعلقة بنقص المياه النظيفة. كثير من هؤلاء هم من الأطفال. زيادة خصخصة المياه في البلدان الأفريقية يمكن أن يؤدي إلى زيادة مخاطر اعتلال الصحة بين الفقراء (حول مخطط البنك الشرير في خصخصة المياه راجع الحلقة (106) هدف البنك الدولي هو تحويل الماء إلى مال لصالح الشركات الغربية- تعطيش الناس في بوليفيا أثار ثورة شعبية- جرائم شركة نستله بحق نعمة الله الأعظم: الماء، بقسميها الأول والثاني).

(6). الخاتمة: تدمير القطاع الصحي والموت بسبب الأوبئة هو ما حصدته أفريقيا من برامج البنك الدولي

كان لأصولية حرّية السوق التي فرضها وروّج لها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي الأثر المدمّر على الصحة في أفريقيا. لم تجني الدول الأفريقية الفقيرة من هذه الأصولية غير تقويض الصحة والرعاية الصحية في البلدان الأفريقية. وقد اضطرت الحكومات للتضحية بالاحتياجات الاجتماعية لتحقيق أهداف البنك الدولي وصندوق النقد الدولي.

هذا النهج في التنمية خاطئ من أساسه. عدم إعطاء الأولوية للصحة العامة ينفي أهميتها في تعزيز النمو الاقتصادي على المدى الطويل. وكما خلصت لجنة منظمة الصحة العالمية المعنية بالاقتصاد الكلي والصحة في الآونة الأخيرة، فإن الصحة هي أكثر من مجرد نتيجة للتنمية، بل هي وسيلة حاسمة لتحقيق التنمية. لذا يجب أن تشكّل الاستثمارات في الصحة في أفريقيا جزءا أساسيا من أي استراتيجية شاملة للتنمية.

التقدم الاقتصادي والاجتماعي في أفريقيا لا يمكن أن ينجح في سياق الأزمة الصحية الحالية. ومن أجل التصدي لهذه الأزمة، لا بد من معالجة العوامل الهيكلية التي تدعمه. يجب على البنك الدولي وصندوق النقد الدولي تحمّل المسؤولية عن الأثر المدمر الذي خلفته سياساتهما في مجال الصحة في أفريقيا. إذا كانت الولايات المتحدة جادة في الاستجابة للأزمة الصحية في أفريقيا، فإنه يجب استخدام قوتها في البنك الدولي وصندوق النقد الدولي لوضع حد للسياسات الضارة لهذه المؤسسات.

ملاحظة ختامية خطيرة

أحيل ذهن السيّد القارىء إلى ملاحظة ختامية خطيرة وهي أننا لو تأملنا إصرار البنك الدولي وصندوق الدولي على تدمير القطاع الصحي في أفريقيا ، فسوف نكون مجبرين على ربط هذا الإصرار التدميري بمخطط الولايات المتحدة في الإبادة البشرية لأفريقيا والذي تسربت مؤخرا وثائق كبيرة وكثيرة عنه ، وهو ما سنطرحه في حلقات مقبلة مستقلة ضمن ملف "الولايات المتحدة وستراتيجية الإبادة البشرية والجرائم التي ترتبت عليها".

مصادر هذه الحلقات

مصادر هذه السلسلة من الحلقات عن صندوق النقد الدولي والبنك الدولي سوف تُذكر في الحلقة الأخيرة من السلسلة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى