الأربعاء ٢ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٦
قراءة تحليليّة ووقفة تأمليّة في

نصوص وفاء ابريوش «بردٌ دافئ»

مريم الناصري

ما إن تشرع سفينة القراءة والغوص التأملي للإبحار في بحرٍ شعري أو نثري، ومحيطٍ من الكلمات بين مدٍّ وجزر لتلك الموسيقى والتناغم الموجي الصادح بخطابٍ نسوي ثوري في رحلته مع الحياة؛ عليك أنْ تتريث قليلاً قبل هذا الترحال فلا بدّ من تآلف مع ربّانها لتصل إلى شاطئ مرفأها محافظاً على سلامة الأرواح العاشقة للترحال الوجودي، الباحثة في الأثيري الشاسع عن مبتغاها، لتسمو بكينونتِها السرمديّة. ولكي يكتمل رسم اللوحة الشعرية لتعرض في متحف الإبداع التأليفي، قائلةً خطابها عبر تراقص أحرفها المتراصّة اللغة بسلاسة وتتابع لفظي غير منقطع الإيقاع بين لفظة وأخرى، ومعنى وآخر، ليس في القصيدة الواحدة فقط، وإنّما في القصائد النثرية والقصص الشعرية التي وصفتها الشاعرة بأنّها((زخات عاطفة... نصوص قصيرة ص153))، بل تجد هذا الترابط كأنّه روحيٌ متعدد الأجساد، و هذا لا يكفي حين ترفع رايتك البيضاء إيذاناً بقراءة البحور النصيّة، فالقراءة وحدها لا ترسي بك إلى شاطئ المعنى ما لم تفكْ شفراتَ لغزها كي تحصل على كنز التأويل التخيّلي(التصوّري)، لتلك العوالم النصيّة بخطابها الروحي الوجود، وكي لا تصبح غريباً حين تشقّ سر النورس(نصوصها)، وإرهاصاته الحسيّة ومشاعر النفس الشاعرة بعاطفتها لما تكتب بخفق الأمومة لحروفها الخلّاقة.. إذ تقول في قصيدتها (رحيل نورس) ص23:

(( الغريب الذي شقَّ سرّ النورس
أصيب بدوار الرحيل..
نسيَ موسيقى البيانو في البحر..
وقف على الشاطئ
ريثما يُشفى النورس من صنيعهُ...
اتخذ الغريب على عاتقه همَّ
المرافئ..
بشارة البحّارة في الوصول.. ))

وموسيقى البيانو في بحرِ القصيد لنصوص الكاتبة (وفاء ابريوش) ونوارسها الأخرى عنوانها (بردٌ دافئ)، بارد اللفظ، بصورته التضاديّة الملفتّة الصياغة، دافئ المعنى، بلوحته الوجودية التي وراءه بفضائها الأزرق المتسع تجسِّد تلك الإشكالية في معنى الحياة وصراعها الطبيعي مع الطبيعة نفسها ومع الآخر المشارك لها الإنسان. حين تقرأ لوحة الغلاف قراءة تأمليّة وتأويليّة ، تجد نفسكَ ناظراً إلى زجاجةٍ مبلَّلة بقطراتِ مطر قد هطل، هذا المشهد بحدِّ ذاتهِ يكفيك مع تلك الأغصان اليابسة الدّالّة على شتاءٍ خريفي شديد البرودة ليعطيك ألف حكايةٍ وحكاية، لكن هذا الشتاء يشتدّ أكثر حين تتساقط بردٌ دافئةٌ، التي توصف بأنّها حبُّ الغمام أو المزن بهيئته اللؤلؤية المضيئة، وقد علقت على تلك الأغصان المتيبّسة كحبات العنب الربيعي، لترتسم لنا لوحة وجودية بسماء صافية شتوية ببَردها الدافئ المتلألئ كضياء النجوم في سماء صيفية، فالدفء آتٍ من هذا الضياء البردي المشع بنوره الداني القطاف ، هذه اللوحة أعطت صورةً تركيبية للوجود، شعرية التمازج مع الحياة بفصولها الأربع.

ونجد تصوير آخر لهذه اللوحة في قصيدة(للقصيدةِ عليكـ َ مأخذ) ، عبر بخار القهوة المتصاعد المشكّل سحابات، تحملُ برداً دافئاً.. تقول:

(( سيّد القهوة لا تشربها على عجلٍ!
مرّر الوقت والأفكار مهرّبة لفسحة سكينة..
قهوتك وسحابات بخارها بردٌ دافئ
يُسلمني لشتات الفصول..
معكَ لم أصل بعد لموسمٍ واحد
فَحُبّك الدّهشة في عجائبها التي تفوق عدد أصابعي
تلجم الأعداد والمظاهر الطبيعية للوقوع أو الارتقاء عشقاً...)) ص143

وفي زخاتها العاطفية نجد(بردٌ دافئ) عنوان صريح لإحدى زخاتها.. تقول:
((سألته ذات دفء: ما هي أحب الموسيقى إليك؟

أجابني: لحن سماويّ معتّق، صوت “ البابور” عندما كانت تشعلهُ أمي الفتيّة صباحاً و أنا أتململُ في فراشي أشتم رائحة خبز الطابون و صحة والدتي الجيدة في شتاء الخليل الصاخب.
سألني وأنتِ ؟

قلت له: رقصة النار على فرقعة الحطب...)) ص164

تشعر وأنت تقرأ بتلك المشاعر المختلطة بين البرودة والحرارة إنصهاراً لفظياً جمالياً ووجودياً، يحاول الدفءُ بموسيقاه أنْ يراقص النار باسم الحب وزاد الحطب، لترتوي صدوراً متجمّدة من ظمأ لهيب الحرمان والفقد المتجدد بفعل الطبيعة.. وهي في حوارها مع الصحفية سجا العبدلي تصفه بأنّه ((حالة عامة أطلقتها على الذّاكرة التي تدرس برد الغياب بدفء حضور الآخر في كافة أشكاله حبيباً و صديقاً و أباً وأمّاً و طفلاً.. وليس هناك تناقض ما بين البرد و الدفء بل هي حالة انسجام و تكامل ففي الشتاء نبحث عن الحرارة و في الصيف نبحث عن البرودة.. فنحن فعليا في محاولة بحث دائم عن الانسجام في كلّ ما هو حولنا حتى تسير الحياة بشكلها الطبيعي الذي يتسع للجليد و النار كما يتسع للأفعى والعصفور)).

وتحت زرقة السماء ونجوم حروف ابريوش تسطع شمس الكلمات بحرارتها وغزارة وابلها ، لتطهر الطرق بخطواتٍ كادحة.. تقول:

((في شتاء الزّرقاء الحنون فتنهال بركات السماء على الأكتاف والشوارع المطهرة بخطوات الكادحين !!

لم تنطفئ !! كنّا نتشارك الاحتراق منذ طفولتنا حتى جمعتنا الأقدار منذ خمس عشرة نار وورد))ص164

ونرى الشاعرة في قصيدة (تراتيل المطر) بصورة إنسانية، تتمنّى أنْ تغرق في هذا البرد القاسي وتضيّع معطفها كي تحس بمعاناة الجياع والمهجّرين بسبب الإنتماء والوطنية:

((أشتاق للمطر
يغرقني في برد الحاجة
فألمس فقدان الآخرين
وأُضيّعُ معطفي
فأذكر المهاجرين
عبر بقاع الكون
المطاردة التي تقهرهم
الجنسية التي تلعنهم
عودتهم القسرية
إلى مقتلِهم!!)) ص36-37

وتصرّح الشاعر في قصيدتها (فِطام) بأنّ بردها الدافئ أشبه بمولدها الأول الذي فطمته مما كانت تغذيّه بين نصوصها لتزجّه يشارك الواقع مع نصوص أخر، فارضاً ذاته التي تدلّ على ذات الشاعرة وكينونتها السرمديّة، فهو روحاً منسلخة منها ومن فيضها الإبداعي، بل من رحم الشعور كما تقول في حوار لها مع (سجا العبدلي)، ((كلّ نصّ لديّ حالة من الانصهار الفكري و العاطفي في بوتقة المعنى الجميل، والفطام لا يكون إلّا لمخلوق نمى في رحم الشّعور، و تغذّى على العمر، و الفطام حالة صعبة لطرفين كما هي جميلة و مثمرة لإنجاب المزيد)). لهذا أعتقت الحروف، وأعطتها الحرية لتصنع تاريخاً ووجوداً في هذه الحياة، التي ستبقى ميناءها الأبدي، والخلف الصالح الداعي لها دائماً وأبدا بالدعاء الجميل لهذا العتق الشعري..، على الرغم من الغصّة التي شعرت بها حين فطمته، أمرٌ قد عدّته نوعاً من الجرأة.. إذ تقول:

((عندما فكّرت بنفخ الصّور وحدي
لأعلن قيام كتابي الأول
أخذتني رجفة..
خفتُ عليه أجواء المكتبة الجديدة
بعيداً عن دفءِ حبري..
وحضن دفتري الفوضوي
أن تُـفطم الأوراق عن الخربشة
التعديل والكتابة..
لتهبها لعابر سبيل
قد يُلقِ به إلى النار
أو المجد..
أمرٌ أجد غصّة في التجرؤ عليه..)) ص45

وحين تبدأ في تصفح النصوص يلاقيك الإهداء العتبة الثانية في البنيات الدالّة لنصوص (وفاء)، بحيث تسعى البنية التركيبة للإهداء بحرفِ الجر(إلى) إلى تهشيم الحواجز النفسية، وتبديد العوائق النصيّة، والعوالق الشعوريّة، والإهداء بوصفه ((نصّاً محيطاً وعتبةً دالةً، تضيء المسار العام للقصيدة، ويقترن في جوهره بمرجعيات تتناص مع أيدلوجية الروح في تعالقها مع الآخر بكلِّ تنوعاته، بما تحمله هذه الأيديولوجية من تراكمات إنسانية وثقافية، وسياسية، وحياتية، أججت الوعي الكتابي في استثمار الفضاء المحيط بالنصِّ، والإهداء بنية لها جانبها النفسي الإيجابي في استمالة القارئ إلى عوالم النصّ، وترغيبه بالغوص في بحرِ دلالاته، والتواشج مع بنية العنوان لإضاءة مداخل النصّ)). -البنيات الدالة في شعر شوقي البغدادي، محمد حمزة الشيباني، ص438-

والشاعرة ليست متكلفة في الإهداء، و لا يختصّ بذكر أحدٍ دون سواه، وإنّما جاء يحمل نوعاً من الفقد والألم، والحب والأمل، الإعتراف بجميل صنع لها، فأهدته إلى فلذة كبدها(عبد الرحمن) الذي توفّى وهو طفلاً.. فالنبرة المأساوية كانت مفتتح الإهداء التي تنبئ عن مشاركة القارئ الجمعي بما هو خاص؛ لأنّ هكذا نوع من الفقد يمسّ الكثيرين عندها تملئ تلك الفجوات..
(( إلى.. عبد الرّحمن الذي لم تمهله الحياة القصيرة شهادة ميلاد باسمه..))

لكن رأت في هذا الفقد شعور اللاتي فقدن أبنائهن، إذ وظفت هذا الشعور المؤلم لتجسّد وتصوّر حالة أم الشهيد الثكلى بأبنها مهما كان عمره ، إذ تقول في قصيدة (وَجْهُكـَ يا عسل):

((أ يتعب قلبي وأنت فيه؟؟
ليس صحيحاً
هو ضغط الغياب
رفع دقات قلبي..
لا يمكن أن تتجلط أوردة
أنت تمشي بها
...
يا فلذة كبدي ومهجة أمومتي
هل أخبار الشهادة التي
يتناولها جسدك صحيحة
أ يتعب قلبي وأنت فيه يا حبيب!)) ص34-35

إنّ إهداء الشاعرة جسّد عمقاً درامياً وعنصراً تشويقياً لتواشج النصوص مع القارئ عبر رمزية الإهداء وخصوصيته، وتركيبته الدالّة على التفكير الواعي والعميق الفكرة لخيال الشاعرة، التي تحاول أن تربط نصوصها ليس فقط بتراصفٍ لغوي(داخل النص)، وإنّما الوعي الفكري(خارج النص)، والترابط الشعوري(عاطفة النص وعلاقتها بمتلقيها)، إذ يمثل الهاجس الكتابي- بمفهومه الدال على خدمة قضية ما- على ثقافة الكاتب ووعيه الجمعي بمحيطه وظروف بيئته وأحداث واقعها، فالأدب وما عرف عنه آتٍ خدمةً للفرد و المجتمع، وبتعبير آخر صورة من صور المجتمع تحت مظلّة المشاعر الوجدانية، على الرغم من أنّ هذا الرؤية متّسعة رقعتها الجغرافية لكنها في الوقت نفسه، بدأت تتّسع أكثر لتشمل العمق الفكري والوجودي والآخر بحضارته وثقافته بأنواعها كلّها ؛ فأصبح الأدب وكأنّه مؤسِّس نظرية حياة منطلقة من منطقة شعورية إلى حالة وجودية وصورة مجتمعية، معطية الآخر أيديولوجيته الخاصة به التي قد ينتقدها(أو يفنِّدها) بعلةٍ ما أو ينقلها كما هي.. فعندما ((نريد فهم مظاهر مجتمع ماضٍ، فإنّنا بالضرورة نهدف إلى ربط علاقات بين فكرات لأنّ مظاهر المجتمع الماضي تنقلب كلها في نظرنا إلى فكرات، سواء تلك التي كانت ذهنية أو تلك التي كانت تنظيمات أو تلك التي كانت علاقات شُغْلية. ليس في مقدورنا سوى ربط تلك الفكرات فيما بينها والبحث عن منطق تقابلها وتعارضها. فنشق طريقنا نحو الإدراك عبر ذلك المنطق الباطني)). -مفهوم الإيديولوجيا، عبد الله العروي، ص133.

وعليه فأنّ الشاعرة فلسطينية الأرض والروح، ومن منّا لا يعرف فلسطين وشعبها الثوري، المناضل، الصامد، المضحي،... وما إلى ذلك من موصوفات الفداء والكرامة التي يستحقها، فكان لهذه البيئة أثرها عليها في تركيب شخصيتها المبدعة، ورسم ملامح وجودها الأدبي، ووعيها الثقافي والتأريخي بثقافة بلدها وشعوب أخرى، من خلال صقل تلك الذائقة الشعرية بالقراءة والمطالعة المستمرة بكلِّ تأكيد.

إذ نجدها تختم إهدائها.. برجوع سريع إلى ماضٍ قديم لها وهي تخربش:

((إلى.. وفاء ابنة الخمسة أعوام التي كانت تخربش كثيراً..))

هنا الشاعرة وفيّة وممتنة إلى هذا العمر أو اللحظة التي كانت تنذر بولادتها كشاعرة مستقبلاً، وختام الإهداء بفرح طفولي قديم، وشعور وجداني لا يستيقن تلك العوالم التخيّلية لكنه يصنعها، ويعيش رحلته البريئة بزهوِ الحياة وألوانها عبر خربشته التي يراها أجمل اللوحات. هكذا هي الشاعرة تأخذ بك وأنت تقرأ ما بين سطورها لفلسفة الحياة ووجودها، الثنائيات الضدية(الفرح/الحزن، اليأس/الأمل، الواقع/الحلم التخيّلي(التصوّري)، الفقد/التعويض، الحنين/الشوق، الغربة/الأغتراب،... وكذا).

وبالعمر الطفولي المهدى إليه هذا الفيض الشاسع التصوير، نجده في صورةٍ أخرى تضاديّة معه، تشيئ بأنّ من وجع الحياة وفقدها وغربتها، يكبر الإنسان دون وعيه بها فلا يحسن التعامل معها، والخلق الإبداعي روح تحتاج إلى جسدٍ يأويها!؛ فتمازجت تلك الأعوام مع هذه الروح اللاجئة لتبنِ صرحاً اسمه قصيدة، لأنثى تعدّ نفسها امرأة عاديّة.. إذ تقول في قصيدتها(يوميّات امرأة عاديّة) :

((أكتب في الربع الأخير مني
في المساحة التي لم يبنِ لامتلاء بها صرحاً
أجلس طفلةً على بقايا بيتٍ مهدم
في برزخ أرضي بين اللجوء والحنين
كبرتُ فجأةً...
ولم أستطع التعامل مع الرّشد بلباقة..)) ص9

وكأنّ الشاعرة تقصّ علينا قصة قصيرة توجز مسيرة حياتها بمراحلها السريعة، في قصيدة نثرية بلغة بسيطة منسابة مع الحدث بإيقاع يشدّ القارئ، بموسيقاها الحزينة وشعورها بغربة داخل وطنها، فهو شعور موجع لهذا ترجو عدم الإطلاع على هذا الربع منها، ربع الضياع والتشتت ما بين أن تكون نازحاً أو مقيماً في بلدك، ربع البحث عن وطنٍ متكامل يحتويك.. تقول:

((كيف يمكنني في هذا الرّبع
قسمةُ نبضة على وطنين
نازح ومقيم
أو على من فوق الأرض وتحتها !!!
أرجوك لا تطّلع على هذا الرّبع منّي)) ص11

وفي قصيدتها(هاتفٌ وطنيّ)، نجد هذا الحنين والشوق المتوقد في نفس الشاعرة للضفة الأخرى من بلادها، عبر تلك الآلة الإلكترونية(الماديّة) توظّف مشاعرها الحسيّة، لتعلن انتمائها لهذا الوطن، عبر هاتف تصرّح بأنّها ((فلسطينية وهم عربيو الجنسية))، وبتهمة وطنية تغربت ونزحت عن عرش والديّها.. إذ تقول:

(( دموعي على الهاتف
خربت اللوحة الإلكترونية
والحرارة صارت بيدي باردة
مات أبي..
وأمّي غداً مفارقة..
آه يا زمن النزوح
صار الهاتف لنا وطن )) ص33

ومن أشدّ أنواع الغربة، الغربة داخل الوطن هو أنْ تقيم في وطنك وفي نظرهم أنّك نازحٌ إليه وفيه!! أنْ تنزح وتتغرب وأنت في وطنك ليجعلوك تعيش أغتراب نفسي آخر سببه هذا الحرمان من الانتماء، وفقدك لمكانك واحتضان وجودك الأول في هذه الحياة، وهو عرش والديك.. فالرابط الوطني لأرض ما مصدرها انتماء أبويك لها، بعدها رابط ولادتك فيها. وهذا النزوح أصبح الآن ظاهرة الشرق العربي بسبب الحروب والتهجير القسري.. فنصّ الشاعرة من النصوص التي تعالج وتخاطب أكثر من مجرد وصف حالة شعب ما، مادام الأمر مشترك فيه الجميع. إذ تتحدث في قصيدة(وترٌ قلِق) عن الشرق الجديد، المتمثل في بغداد السلام، متمنية من العازف الغناء لكلِّ وطن كي تنهي الحروب ويعزف لحن السلام، مؤلفة سمفونية الشرق الجديد.. تقول:

(( أيّها العازف غنِّ لكلِّ وطن
أيقظ العود في السَّحر
وادعُ به إلى قدّاسِ ذكرى
لحناً للجراح شفاء
لليأس أمل
اجمع كلّ الموسيقين
عن قارعة القمر والقهر والقدر
لنؤلف سمفونية
الشرق الجديد )) ص18

وأرى أنّ خيطاً ما له صلة الوصل ما بين العنوان والإهداء، في قصيدتها(العاشقة والعسكري):

((لا شيء هذا المساء
برد وعواصف أحزان..
وأنت تُطلّ من نافذة الماضي
عسكري برتبة وسيم فتان..)) ص90

وتقول في منتصف الإهداء ((إلى.. العسكريّ وعاشقته وسلالتهما المجيدة..))
تهدي نوارسها البيضاء المشكّلة صورة فطريّة من صور(بردٌ دافئ)، إلى والديّها الذين هم أصل الدفء لبردها، إذ تصف والدها العسكري بأنّه معطر بوطن، في قصيدة (وحدك معطر بوطن):

((كلّ العابرين أرضي غرباء
وحدك تطل معطراً بوطن
عسكريٌّ تعلم الجبال خطوك
فتهيم الرايات بلحظك)) ص54

هنا صورة وطنية مصغرة لوطن يعيش في داخلك أو تراه في هيئة إنسان.. الوطن بــ(صورة الأب)، فهي تعطي صورة أخرى لهيبة الوطن وانضباطه بعساكره، لكن جميعهم غرباء عنها إلّا أبيها يطلّ معطراً بوطن، وكأنّه صورة لتفاخر البنت بأبيها على الرغم من استشعار الألم والفقد في شعرية السطور المحاكاة لذاك العسكري الذي يسكن على بعد بلدين ووردة.. تقول:

((يا حبيباً أناجيه
على بعد بلدين ووردة
في مسافة روح الطريق
تصدمها حوادث فلسطين اليومية
ستصلك وإن كانت مهمشة
لتؤدي تحية الوقار
المنسكب هيبة
منضبطة كما تحبها
تحية عشق عربية)) ص54

وقصيدة(رثاء النوايا الطيبة-ص48) من النصوص التي تحدثت عن الوطن والأوطان المزيفة، وبأنّ الشعوب العربية التي تحكمها الحكام، ذو الدول العظام، يعدّون العرب رعاع صعاليك وهم هداة مهديّون لنا؟!! ، وكذلك قصائد أخرى منها(اعترافات لكـ وحدك) التي تصف الحبيب بالوطن في حضوره وغيابه.. تقول:

(الشمس رغم حرارتها
لم تغير داخلي شيء
لكن الوطن الذي أتنفسه
يسرق من أحلامي كلّ شيء)) ص17

لم تقفِ الشاعرة عند موضوع ما، إذا أردت أنْ تقرأ في ( الحبّ، الهجران، الفراق، الخيانة، العتاب، المحبة،...وما إلى ذلك)، تلاحظ ذلك في أغلب نصوصها، مثلاً (صباح القهوة-ص7)، و(أنين الشوك-ص13)، و(ساعدهُ على الفراق ص15)، (قاموس قبلة قديم-ص20)، و(آخر أخبار الغرام-ص29)، و(عُشّاق ولكن-ص92)، و(حلالك-ص154)، إذ تقول في (وانشقَّ يا حبيبي القمر):

(( قمر واحد
اجتمعنا معاً لنكونه
مهما أعتمت حولنا الوجوه والأحداث
نحن قمر أرسل ضوءه
في بعثةٍ سماويّة
ألهم العُشّاق قصائدهم
قُطاع الطرق درب القوافل
دون قصد!!)) ص130

والحب بصوره الحسية من الموضوعات التي هيمنت على نصوص الشاعرة وفاء ابريوش من حبٍّ لــ(الأهل والحبيب والأبناء والوطن،... )، بل وأصبح الحب موضوع سياسي وطني لقضية فلسطينية، إذ تقول في قصيدة (زعتر):

((زعترٌ بريّ أنيق العطر
يغازل زيتونة من بعيد..
نسيم يعزف
على وتر أوراق..
مغارة قديمة
فيها كوّة جدارية لسراج...
قضية فرح
متهم بالأمل والبسمات
هو لاجئ
يستعيد في الذاكرة
فلسطين )) ص104

إنّ من يقرأ للأدبية-الشاعرة والقاصّة-(وفاء ابريوش) سيلاحظ مغزى عنوان كتابها المسمّى(نصوص وفاء ابريوش – بردٌ دافئ)، دون تحديد لجنس النص، يدلّ على وعي الكاتبة بأنّ مؤلفها يحوي أو لا يقتصر على جنس نثري أو شعري محدد، فكتبت في أكثر من صنف أدبي واحد، بما يظهر الموضوع المحاكي في صورته الدّالة ، واللفظ الخطابي المراد إيصاله بما يتناسب مع أكثر من ذائقة قارئة واحدة، فالقراءات متعددة لتعدد قرائها، وكذلك الأجناس الأدبية متعددة لتعدد موضوعتها المختلفة، بحسب ما يرى كلّ مبدع ٍ لموضوعه الذي يريد أن يحاكيه بالصور الأدبية التي يتقنها ومتمكن منها، ومن ثمّ شعوره اتجاه كلّ موضوع؛ ما القالب الأدبي الذي يحتويه وفي أيِّ جنس شعري أم نثري يصل للقارئ؟، والكاتبة ابريوش كتبت في قصيدة النثر(كما في قصيدة - صباح القهوة، دبكة، وتر قلق، قاموس قبلة قديم ، ساعده على الفراق، رحيل النورس، وجهك يا عسل، خطيئة،... وغيرها الكثير )، وبالنفس النثري الشعري نجد قصائد تتخذ منحى آخر، نستطيع تسميتها بــ( القصة الشعرية ، المسرحية الشعرية)، مثل..(حييت شوقاً ص113، اللعبة ليست لي ص115، مع سبق الحب والترصّد ص124، مذاق القهوة الأخير ص132، مذيع ص134، سفر ص138،... وغير ذلك).

وهذا التقارب الأسلوبي المتبع في نصوص ابريوش متأتٍ من ذائقة أدبية تعي بنمطية الأجناس الأدبية، ومدى تقارب الذي تكتب به من بعضهما.. فالقصيدة كما يقال عنها (( مكانٌ وزمان للحدوث الشعري/النثري أي أنَّ لها هويتها الوجودية التي يمكن أن نُشبِّهها من أجل الإيضاح بالمسرحية، إذا كتبت بالشعر كانت مسرحية شعرية، وإذا كتبت بالنثر كانت مسرحية نثرية))، حركة قصيدة الشعر، بسام صالح مهدي، ص69.

وهذا الكلام على الرغم من ردّه وعدم الأخذ به في توصيف قصيدة النثر؛ - لأنّها ((ترتكز في تكوينها على نوع التنظيم الإيقاعي الداخلي، فهي قصيدة من مادة النثر الفني، لأنّ هذا التنظيم هو مكوّن نثري تحاول قصيدة النثر من خلال الألفاظ والجمل، عبر توليد متوازيات وتكرارات متفقة مع الاستطرادات الغير سائبة. محدثة بهذا فرقاً إيقاعياً محسوساً، يختلف عن الانسيابية الطاغية على الخطاب النثري)) حركة قصيدة الشعر، ص68. - فإنّ هذا الإيقاع الشعري وأنت تقرأ في نصوص ابريوش، تتحسس نغمه الموسيقي للحروف المنسابة مع الموضوع، كذلك التكثيف الدلالي ليس بالألفاظ فقط وإنّما في إعادة صياغتها داخل النص، بلغته الخطابية الثائرة والمتمردة على السطور ورقعة البياض، تستشعر بتغير لون الورق حين تقرأ بل هو تغير حقيقي في المدلول العام للحكاية الشعرية المنثورة بدلالتها الوجودية النابعة من فضاء النص الداخلي.. من ذلك ما تقوله في (ملاحقة قصيدة) بلغتها الأنثوية وصوتها الذي يصدح بالتغير والإنصات لها:

((حين تكتب القصيدة أنثى..
يجفل الشرقُ في رقصةٍ قبليّة
لطردِ الأرواح الشرّيرة..
كأنّ العيون القارئة سباع ليل
تُسعُّ ترقّباً وافتراس..)) ص126

وفي نصٍّ آخر نجد الإيقاع السريع، في قوافيه التي تُنبِه إلى التراتب الوزني في القصيدة، والثراء الصوتي عبر حرف القاف الذي يظهر صوتاً فخماً وسريعاً عند الترديد.. تقول في قصيدة (هو حبي):

((سأكتب لكَ غزلاً
أباهي به الخلائق
وأنشد بحبك
مرضاة الخالق..
لا غرابة
فعشقك عبادة
حلال طيب..
ليس به للذنب علائق )) ص102

وفي زخاتها العاطفية تلك النصوص القصيرة، التي توازي الواحدة منها قصيدة قصيرة بما يعرف بـ(الومضة الشعرية) أو (القصة القصيرة جداً)، فقد تعدد موضوعات الزخات بين الحكم والمواعظ والوصايا، مثلاً..(حديث القلب ص157، انسلاخ ص159، وزير ص166، ايلول ص211، تأويل ص168،... وغيرها الكثير). إذ تمثلت موضوعاتها في (الحب، المجتمع، الوطن، فلسفة الوجود، تساؤلات فكرية، ما يخص المرأة والرجل، الألم، الحزن، الموسيقى وأدواتها " ناي – قيثارة – كمنجة – فلامنجو-، القهوة والسكر، الشرق العربي... وغير ذلك). وهناك نوع آخر قريب من التعريف المصطلحي لكن بأسلوبٍ شعري، ولغة موجزة، وعمق فكري ووجودي لها، وكأنّها قصائد قصار (على سبيل المثال لا الحصر- حرق ص161، سيجارة ص165، ناي ص181، قهوة ص214، مسافة ص217،...).

جاءت الزخات الابريوشية مكملة لقصائدها السابقة، بل تجدها وكأنّها تؤكد ما تريده لكن بأسلوب آخر، فهي خطاب مكثف ودال من نوع آخر لمن لا يفهم صورته الوجودية بلوحة شعرية أو قصة مسرحية. حملت النصوص بين طياتها رؤية للحياة والوجود ، وعمق في الرؤية الفلسفية الوجودية للكون والحياة البشرية.. تبحث عنهما الشاعرة والقاصة (وفاء ابريوش) بين الحين والآخر، بصورة حياديّة تترك للقارئ فهم ما يريد وفق ايديولوجيته الخاصة به، وإذا أراد البحث عن التغير ونقد المفاهيم الخاطئة كذلك سيجده، بشرط تغير مسار قِبلته الفكرية المؤدلجة بفضل ما هو سائد ومتّبع.. تقول ابريوش في إحدى زخاتها(حديث القلب):

( حديث القلب مهزلة سياسية بحق العقل.. هكذا يرى الشرق
أنوثة امرأة تهدهد طفلاً حين ينام..امرأة تدير حياة مخلوق
عاجز حتى يتعلّم البسمة والكلمة والهمّة.. بلا عقل.. بلا دين..
شرق لا يؤمن بأنّ المجد في فكر أُنثاه لن ينتصر.. )) ص157

في النصِّ نستقرئ قضيتين، الأولى الفكر الشرقي بحقِّ المرأة، والثانية الشرق المتخنث في سياسته ويسعى للنصر.. فما بين القضيتين امرأة شرقية تبحث عن مجدها فيه لينال المجد هو، عندما تتغير أفكاره المؤدلجة منذ القدم حول المرأة على الرغم من ما تقدّمه لصنع تلك العقول المشرقة، وترك العبارات الساذجة التي (( سلخوا جلد الشرق منها، صارت كومة مائعة من السقوط..))ص182؛ فهي تدعو الشرق أنْ يصحو من هدهدة الأنوثة التي تُنتج شرقيين بلا عقل ولا دين، فهي لم تقل (شرق يؤمن بأنّ المجد في فكر أنثاه ينتصر)، وإنّما نفت إيمان الشرق بالمرأة لتؤكد جازمة ًبـ(لن)، مراوغة في صياغة العبارة، أنّه لن ينتصر دون المرأة وفكرها الأنثوي، الطامحة للسير بلا نعل يعيق الحرية والسطوع في شروقها الفكري داخل الشرق.. تقول في زختّها المتصوّفة.. (تصوّف):

((... أريدُ مشياً حافياً لقامة فكري.. يُبلّغني أرض العِظة..
كأن أصير حِرز قارئ أو تعويذة لعابر سبيل من
الآه..)) ص173

ونحن كنّا نمشي في نصوصكِ بخطى دافئة ، محاولين الإضاءة لهذه القراءة بالبرَدِ الفكريّة العابرة السبيل في فضاء الإبداع الأدبي، التي صنعت من فلسفة نصّها ما يدهش القارئ ، ليعلق حرزاً أو تعويذةً لمن نفخت الروح في تلك النصوص وأطلقت العنان لفكرة وجودها، ولخيال القارئ معها، عندما لفتت إنتباهه بعنوانها(بردٌ دافئ) فضلاً عن العناوين الداخلية للنصوص التي تنبئ عن الكثير..

في الختام دعائي ومُناياي للأدبية(وفاء ابريوش) كلّ التوفيق والسداد في نتاجها المقبل، و أنْ تُبصر بحكمة حرفها ووعيها الثقافي وخيالها الإبداعي هذا الوجود والفضاء الرحيب.. لتثري المكتبة بمؤلفاتها القيّمة، وتدهش القارئ أكثر لتذيب صقيع بعض العقول لتُعاد عملية انصهارها الخاطئة، كي تتخلص من كلِّ ما هو شائب وإنْ كانت مستحيلة هذه التنقية التامة.

مريم الناصري

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى