الثلاثاء ١٥ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٦
بقلم محمد غاني

تحديث الدين: أي طريق سيار؟

لولا السراب لما واصل السير بحثا عن الماء هذا السحاب.
(محمود درويش)

قد يستغرب القارئ من ربط الدين بمفاهيم قد يجدها غريبة عنه، وعن ما ألفه من المجال التداولي الذي يتداوله المتكلمون باسم الدين، فيعجب من استخدامنا لمصطلح التحديث وهو مصطلح يحيل عقله مباشرة على مصطلح البدعة وما أدراك ما البدعة في المخيلة الاسلامية وتمثل أغلب المسلمين؟ كما قد يثير استغرابه أيضا اعتمادنا لمفهوم الطريق السيار في تشبيهنا للتقدم قدما في التحديث المرغوب؟

يزول هذا الاستغراب شيئا فشيئا لدى كل متدبر في مصطلحات المجال التداولي لمفهوم السير الديني أو الطريق الروحي أو سبيل الحق أو المحجة البيضاء أو غير ذلك من التسميات التي تحيلنا على معاني ذات نفس المغزى وذات الهدف المنشود "

فليس أروع ولا أمتع من رؤية بلد جديد،‏ من معرفة شيء جديد،‏ من الخوف من جديد، والقلق من جديد، والاطمئنان من جديد"1.

هرولة الإله

قد يقف القارئ ليس فقط مستغربا أمام هذا العنوان الذي يجده جريئا أو قد يبدو له، أكثر من ذلك، تجرؤا على ذات الاله، بوصفه مهرولا، ويزول كما قلنا هذا التعجب والاستغراب لدى كل من فقه النصوص الدينية و خبر معانيها، ليتذكر توا ولحظيا قول النبي الأعظم رسول الله صلوات الله وسلامه عليه: (أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ خير منهم، وإن تقرب إلي بشبر تقربت إليه ذراعا، وإن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة،2.

وهكذا فهرولة الإله ليست زعما جديدا ولا طرحا نيتشويا،3، كما قد يظنه البعض، بل هو تعبير نبوي عن مضمون وحي الهي من صميم الدين، والسير الديني بسرعة حثيثة حسب الاستطاعة طبعا هو من مقاصد الدين.

إن كانت الأمة الوسط خير من خبر الدين في أوج سطوتها الحضارية فإنها اليوم في أشد الحاجة إلى استعادة الأمجاد على الأقل في فهم روح الدين، لأن الفهم الديني هو الأساس الذي بنيت عليه الحضارة الإسلامية، وكذلك يمكن القول، بدون حرج، إن الهبوط والانحدار في فهم الدين الذي نعيشه اليوم، هو أهم أسباب الانتكاس الحضاري الذي تعاني منه أمة الاسلام.

توسعة الطريق الروحي السيار في الاسلام.

وهل هناك طريق روحي سيار في الاسلام أصلا حتى نجرؤ على عنونة هذا المبحث بذلك؟ هو تساؤل مشروع قد يطرأ لدى كل مستغرب، ألف التقليد في الخطاب الديني، لكن يزول التعجب ويرتفع اللبس بمجرد تذكر قول الاله العظيم في محكم التنزيل" فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء" 3، وهل هناك غير توسعة الصدر مفهوما مبينا لمصطلح شرح الصدر في القرآن الكريم؟ بدليل أن الذي أضله الله استخدم له التعبير القرآني مصطلح تضييق الصدر، و بذلك ينجلي مفهوم التوسعة مرادا مقصودا لدى الشارع الحكيم كما هو مفهوم الهرولة السابق.

استخدم الانسان منذ القديم عدة وسائل من أجل تسريع وثيرة سير جسده لنيل مبتغاه في أسفاره من ركوب للدواب و اختراع للعجلات و السيارات فالطائرات و السفن و أثنى الحق على ذلك في قرآنه من أجل أن ينبه ذوي الأبصار الى أن ذلك مقصد شرعي أيضا " و الخيل و البغال و الحمير لتركبوها و زينة و يخلق ما لا تعلمون"4.

إن التوسعة التي نرومها توسعة في استيعابنا للجديد في طريق الدين، حيث نرى أن الرسول الأكرم صلى الله عليه و سلم حين أوصى أمته بوصيته المشهورة لفظا و التي يبدو لأول وهلة استيعابنا لمضامينها في حين أن مغزاها أعمق بكثير مما يشتهر في المجال التداولي للمحدثين.
روى ابن ماجه عن العرباض بن سارية قال: وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب، فقلنا يا رسول الله إن هذه لموعظة مودع فماذا تعهد إلينا؟ قال: " قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك، من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ، وعليكم بالطاعة وإن عبدا حبشيا، فإنما المؤمن كالجمل الأنف حيثما قيد انقاد" .5.
شمس النبوة و قمر العقل الاجتهادي.

أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم في غرس بذور مختلف علوم الاسلام في قلوب الصحابة الكرام وتعهدها خلال حياته في موازاة رائعة مع تلقين القرآن الكريم طيلة ثلاث وعشرين سنة - وهي نفس العلوم التي ستنمو فيما بعد مع تلاحق علماء الاسلام وتوالي اجتهاداتهم العقلية - فلما أحس صلى الله عليه وسلم بدنو أجله أخبر صحبه الكرام ومن ثم كل الأمم اللاحقة بمبدأ إسلامي عميق قلما تدبره المسلمون قائلا: " قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك". رواه ابن ماجة. قال الشيخ الألباني : صحيح وفي شرح هذا الحديث يرى المناوي في فتح القدير أن المقصود بالمحجة جادة الطريق من حج بمعنى قصد وجاء في تذكرة المؤتسي شرح عقـيدة الحافـظ عبـد الغني المقـدسي المحجة البيضاء" يعني الطريقة الواضحة البينة الظاهرة".

وبتدبر بسيط لمحاولة تفكيك التشبيه النبوي للشريعة المحمدية – أو بتعبير آخر طريق الاسلام أو سبيل الهدى أوسمه ما شئت من التسميات الدالة على الطريق النبوي الواضح الواجب اتباعه من طرف المسلمين تقفيا لآثار النبي الكريم تلمسا لتزكية النفس وتعلما من نور الحكمة التي تركها الرسول الأكرم الذي كانت مهمته بالأساس تعليم أمته الكتاب والحكمة وتزكيتهم "ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم –بالمحجة البيضاء" يمكننا أن نقول:

لقد كان الصحابة منعمين بصحبتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم من حيث ايجاد الحلول لكل المشكلات التي تطرأ عليهم والنوازل المستجدة بين ظهرانيهم، يلجؤون في كل ذلك لسيد الخلق ليجتهد بعقله أي ينتظر صدور الوحي من العلي القدير.

لا غرو أن حديث المحجة البيضاء المذكور آنفا يشير بما لا يدع مجالا للشك لنورين يمكن للمسلم الاستضاءة بهما الا إن هو أبى، فإن استضاء بهما صار ليله كنهاره بمعنى أن طريق الاسلام في نظرنا سيضيئ سالكه بنوري الشمس والقمر في نفس الآن وما الشمس في نظرنا الا نور الوحي بشقيه القرآن الكريم والسنة النبوية، وما القمر من زاوية نظرنا إلا نور العقل متمثلا في الاجتهاد العقلي والضمير الأخلاقي الحي.

إن الاخلاق الانسانية مفطورة في الانسان بل مغروسة في لب عقله مصداقا لقوله تعالى "وعلم آدم الاسماء كلها، 6، حيث إذا رجعنا إلى كتب التفسير ستحيلنا المصادر الى أن المقصود من مصطلح الأسماء في الآية الكريمة أسماء الأشياء كالحمامة والغراب والسماء والأرض والصحفة والقدر إلا أننا نرى أنه إذا رجعنا لسياق الآية الكريمة حتى نفهم المراد سنجد أن السياق كان هو الجواب على إنكار الملائكة على الحق سبحانه خلق آدم الذي سيفسد في الأرض، وهو سياق أخلاقي بالدرجة الأولى مما ساقنا الى استنتاج نجده في غاية الأهمية وهو أن الله سبحانه وتعالى لكي يبرهن على أفضلية آدم على الملائكة علمه أسماء الاشياء كلها وحاشاه عز وجل أن ينسى أسماء الأشياء المعنوية، فإن كان علمه أسماء الأشياء الحسية كالسماء والأرض والحمامة والغراب وغيرها فقد علمه أيضا نسق القيم الأخلاقية من كرم وعدل وإيثار وحلم وأناة وغيرها.

إن نور القرآن والسنة شمس تسطع في القلب ليظهر ظل حقيقتك أيها الإنسان من خلال أفعالك في هذا الوجود فإن رأيت في نفسك مسارعة لفعل الخيرات كلما سمعت الخطاب الإلهي فاعلم أن حقيقتك القلبية أميل الى الخير وإن رأيت في نفسك مشقة شعورية كبيرة لفعل الخيرات عندما تصغي للنص القدسي فاعلم أن حقيقتك القلبية أنزع الى الشر وعليك المسارعة لإصلاحها.

قد يعترض معترض على هذا الكلام بأن من غير المؤمنين من يسارع لفعل الخيرات ولهذا ففعل الخير ليس بالضرورة دافعه ايماني وجوابه على ذلك أن أولئك دافعهم في ذلك أن قلوبهم أشرق فيها نور الضمير فانعكس ذلك على ظل حقيقتهم وهي أفعالهم في هذا الوجود وهذا مستوى معين من الأخلاق الانسانية والتي هي في حقيقة أمرها الهية أيضا وإن صدرت عن ملحدين، ذلك أن الله عز وجل بقوله "وعلم آدم الأسماء كلها" إنما أراد التنبيه الى حقيقة مفادها أن للإنسان قدرة كبيرة على تمييز الأشياء الحسية كالسماء والأرض والعلو والدنو والكل والجزء كما فطره على تمييز الأشياء المعنوية والقيم الكونية كالكرم والبخل والشهامة والخبث والنبل....الخ.
وإنما اتى الوحي والرسالة الإسلامية لتتميم هاته الأخلاق التي زرعت أصلا من طرف الحق في قلب كل انسان وإنما المطلوب منه إعادة إحيائها والحفاظ على هذا الزرع بالصحبة الصالحة للعلماء الذين هم بمثابة راعين للزراعة النبوية في هذا الوجود حتى تثمر في كل وقت وحين كما أثمرت صحبة الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم لورود سقيت بماء التوحيد فأزهرت علما وفكرا شق الآفاق فإن قرب المسلمون آوانيهم للعلماء الصادقين لملئت بماء التوحيد الذي لا يمكن أن يثمر الا ورودا مزهرة كما أزهرت ورود الصحابة والتابعين والصادقين على مر العصور.
وهكذا اذا ما استضاء المسلم بنوري النبوة والعقل "الاجتهاد العقلي والضمير الأخلاقي"سيتأتى به السير قدما على طريق الاسلام واضحا ليس يلتبسه غبش مقتفيا في ذلك أثر الرسول الأكرم واجدا حلولا سهلة لكل الحوادث والأقضية المستجدة وإن كانت النصوص متناهية، فإن هو فعل ذلك طلع عليه نهار الأخلاق المحمدية فألبسته حلل الرضا منه عز وجل ظللته سحب عنايته عز وجل.

خاتمة.

لا غرو أن التحديث في الدين ليس تجديدا في أسس الدين بقدر ما هو تجديد في فهم روح الدين.

لا شك أن السير في الطريق يقتضي خطوات جديدة لم يخطها أحد من قبل حتى و لو كان الرسول، إذ النبي و الرسول مهمته التوجيه للطريق الصحيح لا مرافقة كل تابع له، و الا لما قضى الإله بأخذ روحه الا بعد الوصول بجميع المسلمين الى مبتغاهم الروحي.

اتضح جليا أن الهداية انشراح و توسعة في صدر المقبل على طريق الاسلام.

إن التطوير في سبل السير و المسير الروحي في طريق الحق أمر مطلوب شرعا كما هو مطلوب إبداع أساليب جديدة في السفر الحسي.

أن الطريق الروحي محجة بيضاء ليلها مضاء بقمر العقل كما هو نهارها مشمس بنوري وحي النبوة من قرآن و سنة.

الهوامش

1، حكمة لأنيس منصور(18 أغسطس 1924 - 21 أكتوبر 2011) و هو كاتب صحفي وفيلسوف وأديب مصري. اشتهر بالكتابة الفلسفية عبر ما ألفه من إصدارت، جمع فيها إلى جانب الأسلوب الفلسفي الأسلوب الأدبي الحديث

2، أخرج البخاري و مسلم.

3، نسبة الى الفيلسوف الألماني فريدريش نيتشه 15) أكتوبر 1844 - 25 أغسطس 1900 (الذي ادعى موت الإله.

4، النحل 8.

5، قال الشيخ الألباني : صحيح.

6، البقرة، 31


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى