الثلاثاء ١٥ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٦
بقلم فاروق مواسي

جولة أدبية:

من القائل:

قومٌ إذا الشرُّ أبدى ناجِذَيه لهم
طاروا إليه زَرافاتٍ ووُحدانا
لا يسألون أخاهم حينَ يندُبُهم
في النائبات على ما قال برهانا

هذان البيتان هما من القصيدة الأولى في (الحماسة) لأبي تمّام، وهي في باب الحماسة.
الشاعر هو قُرَيط بن أُنَـيف.

البيتان من قصيدة مطلعها:

لو كنتُ من مازنٍ لم تستبِحْ إبِلي
بنو اللقيطة من ذُهْلِ بنِ شَيبانا

مناسبة القصيدة:

أغار بنو شَيبان على الشاعر، وهو من بَـلْعنبر (بني العنبر) من تميم، فأخذوا منه ثلاثين بعيرًا، فاستنجد بقومه فلم ينجدوه، فأتى بني مازن، فنصروه، ويقال إنهم أعادوا له مائة.
انظر حماسة أبي تمام (مختصر شرح التبريزي)، ج1، ص 13.

بنو مازن -في نظر الشاعر- هم أهل للمديح، فهو يفاخر بهم، لأنهم ينجدون المستغيث، أو يجيرون المستجير قبل أن يقدّم أية علّة، فهم لا يسألون عن سبب، ولا يتعللون كما يتعلل الجبان.
الشاعر هنا يبالغ في إظهار نخوتهم، فهم يتسارعون (طاروا إليه- بمعنى أسرعوا إلى دفع الشر)، فهم لا يتثاقلون عندما يتوجهون إلى القتال مجتمعين ومتفرقين، ولا يتّكل بعضهم على بعض.

المفارقة هنا أن الشاعر يسخر من قومه المتخاذل عن نجدته:

لكن قومي وإن كانوا ذوي عدد
ليسوا من الشر في شيءٍ وإن هانا
يَجزُون من ظلم أهل الظلم مغفرةً
ومن إساءةِ أهل السوء إحسانا

فقومه وإن كان عددهم كثير ولهم عُدّة ليسوا من الشر في شيء- وإن كان فيه خفّة وقلّة، وهنا مطابقة أو مقابلة، حيث قابل الشرط بالشرط في الصدر والعجز، والعدد والكثرة من قِبلهم بالهون والخفة في الشر.

إنهم يؤثرون السلامة ما أمكن، ولو أرادوا الانتقام لقدَروا بعددهم.

أما البيت التالي (يجزون ....) فيرى البغدادي أن هذا من (إخراج الذم مُخرج المدح).

يسخر الشاعر من احتمالهم المكروه بدعوى احتساب الأجر، وكأن الله لم يخلق غيرهم ليخافوه:

كأن ربك لم يخلق لخشيته
سواهم في جميع الناس إنسانا

إذن فالشاعر يرى أن ليس الأمر خشية وورعًا، بل هو الذل والعجز.

هناك من روى البيت الأول:

لو كنت من مازن لم تستبح إبلي
بنو الشقيقةِ من ذُهْلِ بن شيبانا

لأن بني الشقيقة هم من بني ذهل بن شيبان، بينما بنو اللقيطة هم من بني فزارة.
وفي رأي البغدادي أن الشقيقة أصوب.

انظر: البغدادي- (خزانة الأدب)، ج 7، ص 442.

يرى المرزوقي في شرحه لـ (الحماسة)، ص 23 رأيًا آخر، فالشاعر لا يذم قومه، ولا يهجوهم، بل هو يحفّزهم:

"قصد الشاعر في هذه الأبيات إلى بعث قومه على الانتقام له من أعدائه، لا إلى ذمهم، وكيف يذمهم ووبال الذم راجع إليه؟ لكنه سلك طريقة كبشة أخت عمرو بن معديكرِب في قولها:

ودع عنك عمْرًا إن عمرًا مسالم
وهل بطن عمرو غيرُ شبر لمَطعم؟

فإنها لا تهجو أخاها الذي كان يُعدّ بألف فارس، ولكن مرادها تهييجه".

وهذا رأي لم يُتفق عليه، مع أن البيت الأخير في القصيدة ينحو -في رأيي- إلى هذا التصور، إذ يقول:

فليت لي بهم قومًا إذا ركبوا
شنّوا الإغارة فرسانًا وركبانا
فهو هنا يأمل فيهم خيرًا، ويكونون كما يحب.

من الذين يرون أنه الذم:

ابن عبد ربه في (العقد الفريد)، ج 3، ص 16 يقول إنه "يذم قومه".

وهناك آخرون عرضوا القصيدة في معرض الهجاء.

أما عن الشاعر فقد ذكر لنا البغدادي أنه إسلامي، وفي نفس الخبر يذكر لنا قولاً للخطيب التبريزي أنه تتبع كتب الشعراء وتراجمهم فلم يظفر له بترجمة. (ن.م).
أما الزِّرِكْلي في (الأعلام)، ج5، ص 194 فيقول إنه شاعر جاهلي.

ضمّن صَفيّ الدين الحلي بيتًا له من القصيدة:

لا تجسُر الأسْد أن تَغشى منازلَهم
قومٌ إذا الشر أبدى ناجذيه لهمْ

ونتساءل هنا:

إذا قبلنا الرأي أن الشاعر يهجو قومه،
ألسنا نسلك هذا السلوك في أيامنا، أو لسنا ذوي عدد ولسنا من الشر (إلا على بعضنا البعض)؟

أو لسنا نغفر لمن يظلمنا؟

أو لسنا نجزي الإساءة بالنسيان، بل بالإحسان؟

ملاحظات لغوية:

ثمة خطأ شائع في لفظ (زرافات)، حيث يضمّون الزاي، والصواب هو فتحها: زَرافات أي جماعات.
الناجِذ هو الضِّـرْس، والكناية (أبدى ناجذيه) تعنى ظهر لهم شديدًا، ومثل ذلك: "كشّر عن أنيابه".
بَلعنبر – حذفت النون من "بني" لاجتماعها مع اللام وبسبب تقارب المخرج، فيمكن أن نقول بلعابد، بلحارث، ولكننا لا نحذف النون في مثل "بني عباد".


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى