السبت ٢١ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٧
بقلم رامز محيي الدين علي

رحيل العظماء والطيبين دون وداع

المنية غيبوبة أبدية تختطف جميع الأرواح دون استثناء.. قد تنذر بعضها ببطاقات حمراء، وقد تكون صاعقة كالبرق دون إنذار، ولكنها في النهاية لا تنسى اسما من الأسماء ولا تؤخر نفسا إذا جاء أجلها، وقد عبر القرآن الكريم عن ذلك في آيات كثيرة، فقال عز وجل:

كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185) (آل عمران)

أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَا لِهَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78) (النساء)

وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70) (النحل)

إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31) (الزمر)

اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42) (الزمر)

وقد عبر الشاعر الجاهلي الكبير زهير بن أبي سلمى عن حتمية الموت واختطافه المفاجئ للأرواح في قوله:

رَأَيتُ المَنايا خَبطَ عَشواءَ مَن تُصِب
تُمِتهُ وَمَن تُخطِئ يُعَمَّر فَيَهــــــــــــــرَمِ
وَأَعلَـــــــــمُ عِلــــــــــــمَ اليَـــــــــــومِ وَالأَمسِ قَبلَهُ
وَلَكِنَّني عَن عِلــــــــــــمِ ما في غَدٍ عَم

الموت سيف مسلط على جميع الرقاب.. يقهر الكبير والصغير، الغني والفقير..

الموت قبضة من فولاذ تكسر جميع الرؤوس متوَّجة تحكم العالم.. وحاسرة ليس ثمة ما يقيها حرارة الشمس..

الموت بحر هائج تبتلع أمواجه العاتية أرواح البشر جميعا دون رحمة وبلا شفقة ودون سابق إنذار..

الموت لغز عظيم عجزت عباقرة وجهابذة العالم منذ الأزل عن فك حرف واحد من ماهية طلاسمه..

الموت أسطورة الأساطير التي يهرب من روايتها فلاسفة الأرض وعباقرة الفكر.. ويطأطئ مستبدو وطغاة العالم رؤوسهم حينما تلامس أسماعهم..

الكائنات جميعها تهوى الحياة وتعشق أنفاسها وتهيم في ملذاتها.. وتتراقص فرحا بميلاد يوم سعيد.. وتتباهى بحللها المتجددة مع الأيام.. لكنها تنسى أو تتناسى نهايتها المأساوية التي تتربص بها بين مهاوي الردى..

كل القصص والروايات والأساطير تنتهي عندما يتوج أبطالها بأكاليل الغار وتنتشي نفوسهم برياحين النصر وهم يتأملون خصومهم وأعداءهم أثرا بعد عين.. لكن قصص الحياة ورواياتها وأساطيرها الحقيقية تنتهي فيها حياة جميع الأبطال ولو اعتلوا عرش فرعون..

المأساة الأكثر ألما في الحياة هي نهاية الأبطال الذين قدموا للبشرية حياة جديدة على اختلاف مشاربهم وأفكارهم وإبداعاتهم واختراعاتهم واكتشافاتهم في شتى ميادين الأخلاق والفضائل والعلوم والفكر والسياسة والاجتماع والاقتصاد والأدب والفن.. كنهاية عصفور جميل حلق في الفضاء، ثم اختفى فجاءة.. كنهاية حلم رائع هبط إلى المخيلة مبشرا بعالم مثالي جميل..

رحماك أيها القدر المتربص بأرواحنا.. رحماك يا خالق الحياة والموت.. كلنا راحلون إلى الميرفانا يا بوذا! وجميعنا مرتحلون إلى ملكوت الله يا بن مريم! وكل نفس ذائقة الموت على آلة حدباء محمول إلى عالم الخلود إما نعيم أو جحيم يا خاتم الأنبياء يا بن عبد الله.. عليك وعلى جميع الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه..

لكن الرحيل من الحياة الدنيا قاس وصعب لا رجعة بعده.. وأصعب منه رحيل من صنعوا للحياة بهاء وجلالا وجمالا ومجدا وسؤددا وإنسانية جديدة!

إن الكارثة الكبرى في مآسي الحياة رحيل العظماء دون أن ينالوا أوسمة المجد
والشرف.. واستمرار طغاة الأرض وحثالتها في الحياة لكي يشوهوا جمالها.. رحيل الأشرار والطغاة والمستبدين والمجرمين راحة للحياة وسعادة للبشر.. لكن بقاءهم يطول ويطول، وتقصر حياة الأبرياء والأتقياء والأنقياء والأصفياء.. وكأن ناموس الحياة يخط على ذاكرة التاريخ: البقاء للأقوى من الوحوش الآدمية والموت والفناء للفقراء والضعفاء وأصحاب الفكر..

عظماء العالم الذين رفعوا البشرية إلى سؤدد المجد وعليائه وكنه الأفلاك.. يقضون نحبهم في غفلة من الزمان دون أن تنتشي أرواحهم بنشوة المجد الذي صنعوه من عصارة إبداعهم، ودون أن تثمل عبقريتهم من خمرة ما أنتجته قرائحهم من تقدم وإبداع في شتى ميادين الحياة..

أما الطغاة والمستبدون وتجار البشرية والإنسانية.. فلا يدعون دماً إلا ويتلذذون سكراً في احتسائه.. ولا يرقدون هنيهة دون أن تثمل أجسادهم عهراً وعربدة وسكراً بملذات الحياة.. لكن يد الحياة تمدهم بما يشتهون.. والأيام تعطيهم ما يتمنون من العمر.. وكأن كل ما في الحياة مسخر لهم لا لغيرهم من عبيد البشر..

وتظل ذاكرة التلقين متسعاً يحلم به الفقراء والمساكين وأوباش الفكر المسطح.. وتستمر الحياة بكل ما فيها من بشاعة وقبح وتفاهة وغباء وبلاهة.. كما استمرت منذ ملايين السنين على سنن الغاب التي يحكمها كبار الوحوش الذين استباحوا الكرة الأرضية بمسميات وأغراض وأهداف تبرر نواياهم القذرة.. تارة باسم التعليم، وتارة باسم التنوير.. وتارة باسم التطوير.. وتارة باسم التثليث.. وتارة باسم التربيع والتدوير.. وتارة باسم التخميس والتسديس.. وتارة باسم التعميم لا التخصيص.. وتارة باسم التمكين والتوطيد.. وتارة باسم التسمين لا التجويع.. وتارة باسم التجميع لا التقيسم.. وتارة باسم القبيلة لا العشيرة ولا التفخيذ.. وتارة باسم كؤوس البطولة والفحولة والرجولة..

وإنني إذ تسطر قريحتي هذه الكلمات البركانية الثائرة لا يسعني إلا أن أقدمها عربون محبة وتقدير لذكرى المفكرين والعلماء والأدباء والفلاسفة ولكل فكر خط عبارة أيقظت الملايين من غفوتهم وسباتهم..

فتحية إجلال وتقدير وتقديس لكم أيها الكواكب المنيرة في السماء والباهتة في الأرض..

وعدمتم أيها الطغاة والمتستبدون.. فإن استطعتم أن تطفئوا شموع الفكر في الأرض.. فلن تستطيع عواصفكم المجرمة أن تطفئ نور الكواكب في السماء.. ولن تتمكن سحائب قبحكم وبشاعتكم أن تحجب أشعة الشمس ولا ضوء القمر..


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى