الثلاثاء ٧ شباط (فبراير) ٢٠١٧
تتجاوز مُدن الأحَيْاء فى (سائق الموتى)؟

مسرح الغرباوى اغتراب وغُربة

سلوى العبد الله

لاشىء يَهمّ.. حَيْث الأزمنة هى الأزمنة.. والأمِكنة هى الأمِكنة.. فلاشيء يَهم.. لأنّه لن يَحدث شيْئاً..!

لن يَحدث غيْر الموت ـ إنْ اعتبرناه حَدثا ًـ فما السكون غير مَوْتٍ.. والفرق بين أحيْاء شخوص الغرباوى وأموات قاطرته.. هو الفرق بين الفعل واللا فعل.. فعل يُمْكن مُمْارسته باختيْارنا فيحيينا..!
وحيث.. أنا وأنت.. أو أىّ آخر مِثلنا.. يَعيش حَيْاة لايرغبها.. ويمارس أفعالا مُجبر عَليْها.. فلسنا غَيْر أموات..!

وإن كُنّا ـ لحظة أو بُرهة ـ فى عام واحد فقط أو فى حيْوات عُمرنا ـ سنفعل ما يَجعلنا من الأحَيْاء.. فأيْضا ً بهذه الخدمة نحن من الأمَوات..!

فالغرباوى فى مَجموعته المسرحيّة (سائق الموتى) .. أقصد بين سطوره الفِكريّة يحوّلنا إلى (أجساد سَائرة على أقدام.. فقط أجساد وأقدام..!) كما يذكر على لسان أحد أبطاله.. ويحوّلنا إلى أصنام قدريّة المَصير..؟

حواديت.. وأفَعال.. وأفكار.. مَلضومة بخيْط حَرير فى نِهايْته وجود واحد.. تجسّده رؤيته فى لوحته:
( لاشيء يَهمّ.. لايكدرنّكم شيء.. فكلّنا مسافرون.. راحلون فى قِطار الموت.. كُلّنا عَربات..
كُلّنا مَوتى..!

كُلّنا فى العَربات.. والموت..

الموت يَقود..!)

استسلام لمصير مَعروف لكلّ من يُولد.. أو مَن يركب قطاره..!

فبيْن أدب المَسرح وإبداع الفِكر.. تأتى عَوالم مَسرح المونودراما للغرباوى فى مَجموعته المسرحيّة (سائق الموتى).. التى ضمّت مسرحيات (سائق الموتى) و(ثورة المراهق) و(سأقتلها).. ثلاث مسرحيات هى بمثابة أطروحات فِكريّة.. وأوراق فلسفيّة.. زاخرة بحيْرة تساؤلات أبديّة حَول الموت.. جَدليّة القصر والاختيْار.. واعتلال النفس وتأرجحها بَيْن الهَوى والعَقل.. والرغبة وتدوير الفِعل.. وركوب فارس على صهوة جَواد برّى بلا سرج.. يحاول ترويضه.. وهو لايَملك أبجديّات مَهارة ركوب الخيْل.. ولايَعرف الفرق بين مِضمار الخيْل وملعب الكورة.. اجتهاد وتمنّع؟
مَسرحيّات مونودراميّة الشكل.. تضرب العقل بمعاول فِكر.. من خلال حركات مضطربة لشخصيّات تتلاءم مرحلتها العُمريّة.. ودوام بَحثها عن إجابات أزليّة فى النفس البشريّة..!

مَسرحيّات يضفّرها حُلم وخيْال.. واقع وشاذ.. عبث ومنطق..!

وتلصّ من النفس البشريّة سوادها.. وأرقها.. وعَذابات الحِيرة.. بين اختيْارات الذّات، وسوط الشعور بالذنب، ولذّة الخطيئة..!

خطيئة دفينة فى الأعماق..!

مونودراما تعرّينا بقسوة.. رغم محاولتنا سَتر عوراتنا..!

وتلطم خدودنا بصفعات متتاليْة.. رَغْم إنّه قد أُغمىّ عليْنا من شِدّة الصَفْعة الأولى..!
إنه كعادته.. وسمات خريطة إبداع الغرباوى يضغط.. ويضغط بعنف على (الجَرح).. رغم صراخ الألم قبيْل النزف..؟

إبْداع أدبى يصرّ على فضح (الجُرم ).. ويلبسنا عِنوة ثوب الفضح.. رغم ستر الربّ لنا..!
مَشرط قدر يسرى دون حَاجة إلى يدّ.. تدفع وتُسرع به فى أرواحنا..!

ما كُلّ هذه القَسوة التى تَحملها شَخصيّات القطار.. أقصد الحيْاة.. بالعمل الأدبى الذى ينضح بمُتعة إثارة الفِكر.. ولوحات نَثره الفنّى.. وجَدليّاته الفكريّة.. وتماوج حَركات شخوصه.. ويحوّلنا كقراء.. وكأننا لاعب سيرك.. يسير على حبل.. وحَتى آخر جملة فى مسرحه نسقط ونتهاوى مع غلق ستار نصوصه الإبداعيّة..!

وهى أعمال فنيّة كثيراً ما يتركها بلاغلق نهايتها دائما.. امتزاجاً بالحيْاة وتواصلا والجمهور، فى وعاء مكانى وزمانى وفكرى واحد..!

وكأنه يدخل قبضته فى أحشائنا.. وتتحوّل خشبة المسرح لمرآة حَيْواتنا صراعاً.. وضجيجاً.. وطحناً لمشاعرنا وأفكارنا.. ويخلفنا نثرات دقيق.. دون خبز نافع يسدّ جوع اضطرابنا.. أو حتى يتقاسم رغيف خبزه معنا..؟

بل يهيل به عليْنا.. ويعفّر به بصيرة أحاسيسنا.. وما كَفاه غيْم بَصرنا..!

عمل أدبى يجيش بتساؤلات حَائرة فى أغلب أعمال الكاتب المصرى (أحمد الغرباوى).. ويبعد عن تجاريّة البيع.. ولا ينظر إلى إغراءات جذب القارئ.. ويخلف لنا شجنا ً.. شجنا ً مؤرقا ً.. ويبعثرنا نثرات روح.. وجزيئات فِكْر هنا بلا هوادة ودون استقرار..!

ويرمينا بكرات رَمل (عَجز ).. مملّحة بـ (عذابات حِرمان).. وتهدّها ريح عاصف شعوراً جارفاً بــ (الحزن والافتقاد).. ويفتقر للحُبّ.. الذى يجعل الكاتب يركن للهدوء والسكينة.. ويدنو للخنوع فى ملامح وسلوكيات شخوصه قولاً وفعلاً..!

وكثيراً ما يلهث المؤلف أسلوبا ً.. والغامض فكرا ً فى كثيرمن الأحايين.. حيث تشدّ قوّة كلماته القارئ لمناطق شديدة الرماديّة.. ينشد سواداً.. قد تصل أحيانا ً إلى حِدود مُحرّمة من الفِكر.. ولكن بحسن نيّة دَهشة طفل يبحث عن إجابة..!

ولا أحد يستطيع.. أن يُنكر أنّها فى الأخير تضيف، ويؤخذ منها ثراءا ً وإثراءا ً للعمل الفنى..
وفى المجموعة المسرحيّة.. التى بين أيدينا تدفعنا الشخصيّات لإعمال الفِكر.. وتدور بِنا فى عَالم واحد.. تسلسلنا بأغلال (الموت) و(القتل) و (العجز) و(الخيانة) و(الغدر).. وغيْرها من المعانى.. التى يَحاول أن يغربلها بيْن أنامل (الهذيْان) و(الحقيقة).. يطرحها على مائدة النقاش تارة بــ (وعى) وأخرى بــ (لاوعى)..؟

وتهتز بنا جيئةً ورواحا ً.. وتتحاور الشخصيّات بلغة مكثفة جداً.. قليلة المُفردات قاسيّة الشجن.. خشنة فى ظاهرها ومؤلمة المعانى.. ورحيمة فى لطمتها.. بقصد وبغير قصد فى كثير من المواقف.. وتعبيراً عن أحَداث مُفجعة..!

وهى نصوص تحتاج للقراءة أكثر من مَرّة..

ومثل ذاك (الإبداع الأدبى) فى حَاجة لمخرج مُبدع خلّاق.. يبتكر فى رؤيْته الحركة.. التى لاتهدأ منذ بدايْة المسرحيّة.. حركة تمتزج وفعل؛ يتنقل بيْن وضعيْة لغة سريعة؛ ومَعانى تندفع وتندفع وتندفع.. حتى آخر مَحطة فى مسار قطار دراما (سائق الموتى) للساخر البائس أحمد الغرباوى..
و بعدما فرغت من قراءة النصّ الأدبى.. أتأمّل سقف حُجرتى.. ويمنع نومى تسارع نهجان قلبى وتساؤلات شتى..

فما كُلّ ذاك الحُزن الدفين فى الأعماق.. نسيج مغزول بين رقّة جدائل شِعر، ورَحْابة خيْال نثر فنّى.. قماشة أدبيّة مُمتعة على جميع المستويْات الحسّية والمّعنويّة.. حتى تكاد تلامس تلوّثات واقع حَيْاتى نعيشه آنيّا..؟

وما أقسى غِلوّ فِعل مُنحرفاً عن المألوف.. حتى الوصول لحافة موت..؟

وأعود بالذاكرة إلى مَجموعته المسرحيّة الأولى (المتحزّمون).. فأجد الغرباوى ساخراً بائساً.. وأيضا يائساً..!

ويصفع القارئ وجعا ً وألما ً فى مجموعته الثانيْة (السقوط إلى أعلى)..!

بدايْة من إمعان الفِكر فى العناوين التى يختارها لأعماله كما نرى..؟

وبلا هَوادة.. يَصرعنا مواطنه المقهور جَبراً فى أحلامه.. ومُغتصبا ً فى شَرفه فى (سائق الموتى)..!

وتتركنى دنيْا (خلقه الفنى) فى ترنّح فكر..؟

فمن هم موتاه..؟

أهو السائق..؟

أم الراكب..؟

عربات قطار تحمل نعوش ذواتنا من (أحاسيس) و(فكر).. و.. و..؟

عمل أدبى لايمنح أملا ً (لكل ما يجب أن يكون) بناءا ً درامياً، أو لغة واقعية، أو وضوحا ً فكرياً، أو مهادنة وإنسيابية شعورية..!

اغتراب يَضرب جذوره فى أعماق نفس تغور وتغور.. وثورة عَاشق مايزال يَحلم بمثاليّة عروس قطار.. ينتظرها لى أمل ما لايجىء سكون مقاعد المحطة الخالية.. دون حياة..!

وأحيانا ًيَهرول خلفها.. ثور هائج يغتالها بفروسيّة ميتادور عاشق..!

ويجلس مُتْرنّحا وباكيْا.. يرثى روحه.. ويعزّى بطولته دون جدوى..!

الجميع لدى (الغرباوى) أموات.. والمحطات خاويّة.. بلا قيْم ولا أخلاق..!

بانوراما عَوالم مِشوّهة من شدّة بؤس مُرّ خواء.. ورغبات عَارمة تنشد (اللامنطق) بمبرّرات (سلوكيّات منحرفة) و (أفعال مُراهقة)..!

ولكن يظلّ بطل الإبداع يركن فى منطقة بعيدة.. يثير الفكر..ويقلق النفس.. ويوقظ فينا مشاعر وأحاسيس.. تكاد تندثر.. وتنسحب من أعماقنا فى نعومة خدر.. وغفلة خمر.. وسُبات روح..!
إنها دراما الحيْاة.. دراما الإنسان منذ بدء الخلق.. ستحيْا كثيراً على أرفف النفس البشريّة.. قبل أن تركن وعَفرة غبار المكتبة العربيّة..!

تشكيل جمالى يَدبّ فيه حيْاة قلمٌ ساخر يائس.. يحمّل قطاره (عِشق فن) و(إبداع متميْز) لأحياء الأرض.. حتى لو شحنه فى عَربات (سائق الموتى..!)

وتأكّد سيّدى المُبْدع الشارد.. مَهما اختلفنا فى الرأى.. أيّها الكاتب المصرى المتميز (أحمد الغرباوى).. فإننا على محطة الأدب نتلهّف لوصول إبداعك الفائق.. والقادم مهما.. تأخّر أو تجاوز القطار مُدننا.. أوحتى تجاوز انتظارنا غضباً أو شططاً..؟

شكر واجب..

شكرى وتقديرى للزميلة الناقدة سلوى العبد الله.. وأقل تقدير نشر رؤيتها النقدية الإبداعية.. فى اصدارى الأدبى.. ومقتطفات منه على ظهر الغلاف..
أ.غ

سلوى العبد الله

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى