السبت ٢٥ شباط (فبراير) ٢٠١٧
بقلم وديع العبيدي

موقف من العالم..

"الانسان يوجد بلا ارادته، ولكنه مسؤول عن كل ما يصدر عنه!"

[1]

الموت هو الموقف الأول الذي واجه الوعي الإنساني وقاده إلى فكرة عبثية الحياة. موت انكيدو هو الذي فجّر أسئلة الوجود لدى جلجامش التي تطورت بالتدريج الى فكرة الدين والحياة الأخرى.

الإنسان الاول كان أكثر جدية وعقلانية في التعامل مع أمور حياته، بينما اكتفت الأجيال اللاحقة في اجترار الإرث القديم. الإضافة الوحيدة في هذا المجال جاءت من الحضارة الأوربية المعاصرة التي راحت تستقصي أسباب الموت وتعزيها إلى عوامل فسلجية وتحديد معايير كفاءة الجسد الإنساني كأجهزة ديناميكية، وبالتالي فالعمل على معالجة تلف الخلايا وعطب الأعضاء يمكن أن يقود إلى............................. تحدي الموت!.

ونعرف اليوم قدرة الأطباء على تشغيل الجسد الإنساني حتى بعد حصول ما يسمى الموت السريري، وبالتالي فأن فكرة عشبة الخلود في الفلسفة السومرية أو إكسير الحياة في القرون الوسطى لم تولد من فراغ. حتى الآن يعتقد الطب الغربي أن كفاءة الجسد البشري تكفي الإنسان للعيش قرنا او يزيد من السنين، وهو معدل العمر في اليابان وبعض أوربا الغربية. وما يعيشه المرء بعد ذلك ليس سوى وقت ضائع، وربما يتغير هذا الاعتقاد بتطور العلوم الطبية. وهناك أفكار وطروحات فلسفية مختلفة في هذا المجال.

سؤال الموت هو سؤال الحياة. الحياة التي تتكون من (نطفة) في (قرار مهين) وتنتهي حفنة من تراب (مهين). وقد قال الشاعر الفيلسوف المعري:

خفّف الوطء ما أظنّ أديم هذه الأرض إلا من تلكم الأجساد

ان العلاقة بين آلام الولادة ومعاناة النمو والتعلم وصعوبات المعيشة والحياة التي زادت مع اضطراد التطور العلمي والتكنولوجي، ليست متكافئة أو عادلة مع سهولة الموت وتفاهة طرائقه.

الانسان يولد بدون إرادته ويموت بدون إرادته. وعندما يفتقد حريته في أعظم موقفين يخصان وجوده، فأية قيمة للحرية بين ذلك. هل هي حرية الطعام أو المنام أو الاعتقاد، كل ذلك سيكون تافها أمام الأسئلة الأساسية.

الحقيقة المذهلة أن سؤال الجدوى معدوم وممنوع ومغلق أمام الحياة. الإنسان يجوع ولا يعرف لماذا يتوجب عليه أن يأكل، وهو يسرق ويؤذي ويقتل لكي يأكل ويعيش بينما يرضى بموت غيره. وهو يتساوى في ذلك مع الحيوان. ونحن جميعاً نفعل ذلك مهما أضافت الحضارة من الرتوش على أنماط الحياة.

البشر يتغذون على البشر والحيوان والنبات، والحيوان يتغذى على الحيوان وعلى النبات. والحيوات التي تتغذى على دماء ولحوم بعضها ستعود وتموت. لا أحد يسأل نفسه لماذا فعل ذلك إن كان سيموت آجلاً أو عاجلاً.

أن الجواب الوحيد هو العبث. العبث وليس البعث. حتماً.. ثمة إجابة ما غير العبث ممكنة، ولكن العقل البشري حتى الآن لم يقدم شيئاً ولا يبدو أنه يقدم شيئاً، لأن الصراع البشري يتركز في الأمور الجانبية التافهة، والعالم البشري لا يختلف في جوهره وفلسفته عن عالم الحيوان.

فلسفة القوة والعنف. أقوياء وضعفاء. سادة ومماليك، مالكون ومعدمون. كبار وصغار. فلا غرابة أن تلجأ الفلسفة والأديان والعلوم إلى ترسيخ فكرة العبودية للقوى الخارجية مسجلة الهروب أمام الأسئلة الإنسانية الحقة!.

ان مصطلح (الموت الطبيعي) الذي تسوغه المجتمعات المعاصرة هو خلاصة العجز الفكري لقتل السؤال. بينما يتم التعامل مع أي موت خلاف ذلك على أنه أمر غير طبيعي وجريمة تقتضي المحاسبة.

ويتراوح التأويل هنا في فضاء شاسع من التكهنات. لعلّها أطرفها ما تفتق عنه العقل العربي. حيث يتسع مفهوم المصطلح إلى آفاق رحبة طالما أن الموت يحدث بفعل عامل خارجي. وفي هذا العامل الخارجي يدخل المجتمع والحكومة والعشيرة والطائفة والدين والحزب وادعاءات كثيرة، بينما يجري تجريم ما عدا ذلك.

معيارية شرعية الموت من عدمها تتعلق بالمبرر أو جهة الارادة. أما اتباع الارادة الشخصية في الموت فلا تجوز. بل أن المرضى العجزة والمعوقين لا يحق لهم التخلص من الحياة أو الاستعانة بطرف آخر.

حاجة النظام الحاكم الى الرعية والجيوش وحاجة التراتب الاجتماعي إلى الخدمات وإشباع الحاجات هو الذي يبرر منع ظاهرة الانتحار ومحاصرتها، ولولا ذلك لتغيرت صورة الحياة على الأرض.

سؤال الانتحار، إذن، هو سؤال الإرادة. سلطان الارادة. وسؤال الارادة هو سؤال الحرية. ايمان الكائن بنفسه وتحقيق كيانه من خلال امتلاك الكلمة الأولى والأخيرة. فأين نحن من الحرية، وأين نحن من كل ذلك.

الذين قاموا بالانتحار هم أولئك الذين امتلكوا إرادتهم وحققوا حرية كياناتهم خارج نظام القطيع. الانتحار صرخة وفعل احتجاج وإدانة وتأكيد سيادة الذات. انتحر همنغواي عندما بلغ الستين وعاش ويلات الحروب وتذوق لذائذ الحياة، مطلقاً صرخته المعروفة، لم يعد في الحياة ما يستحق الانتظار.

انتحار خليل حاوي كان إدانة لقذارة اللعبة السياسية التي ما زالت مستمرة في لبنان. عبد المحسن السعدون رئيس وزراء العراق انتحر في ثلاثينيات القرن الماضي احتجاجاً على عدم استيعاب حاشية الحكم لمنظوره السياسي المتقدم لأوضاع بلده.

لا يوجد انتحار عشوائي أو ترفي، كل انتحار هو تعبير عن موقف فلسفي أو فكري أو سياسي أو اجتماعي. وللأسف يدين المجتمع الانتحار وصاحبه دون الاهتمام بدوافع الانتحار وتعاسة الواقع.
معظم المنتحرين يتركون رسائل يبسطون فيها أفكارهم، فكم من تلك الرسائل والأحداث حظت بالدراسة والتحليل والمعالجة من قبل المجتمع والدولة. التقاليد اليابانية هي الوحيدة التي تعتبر المنتحر بطلاً وتقام لذلك طقوس ومقابر خاصة. وأشهرها انتحار قادة الجيش في الحرب العالمية الثانية بعد وثيقة استسلام الإمبراطور أو انتحار ميشيما ردا على سياسة حكومته المهينة.

بقية الثقافات تستهجن ذلك. علينا أن نخفض أصواتنا كثيراً عندما نتحدث في ذلك فليس في حياتنا وحياة بلداننا ما يستحق الحياة.

شخصياً حاولت الانتحار ثلاثة مرات فاشلة. واعتزّ بصديق من أيام الجامعة انتحر في شط العرب وهو في السنة الأخيرة قبل التخرج بسبب الظروف السياسية.

قاسيت مع ملايين الشباب العراقيين حروب الخليج الأولى والثانية وسنوات الحصار الدولي وقرصنة الطائرات الاميركية والبريطانية في سمائنا قبل أن تنزل على الأرض... وصولاً الى حياة المنفى العدمي وضياع الوطن والأهل وكل شيء جميل.

جيلنا الثمانيني هو أكبر الخاسرين في القرن العشرين أو كل القرون، وتقدر أعداد الجيل بخمسة ملايين. لقد مات نصف مليون عراقي في تلك الحرب وتوزع النصف الثاني بين العوق والأسر، ومن تبقى منهم اصيب بالعوق النفسي والاجتماعي والنفي. الشيء المؤسف له أننا لم نمت.

شخصياً كنت طيلة الحرب في المواقع الأمامية وكان عملي يتطلب التنقل المستمر بين سرايا الجنود. رأينا الموت والقصف والهمجية بعيوننا ولكنه تراجع عنا.

الشظايا والقنابل تساقطت على مقربة منا وقتلت أصدقاءنا ولكنها أغفلتنا. البعض كان يطلق النار على يده أو ساقه ليصاب بعوق يتيح له التخلص من قذارة الحرب.

مواجهة الموت كانت تبعث على المتعة. متعة التحدي. بينما الخوف والهروب يثير شهية الموت فيه. عندما أتذكر ذلك اليوم، يبدو كل شيء مثل فيلم، بينما يعيش الموتى في مكان ما هناك. مقبرة اسمها الوطن.

الخروج من الحرب حياً كان مأساة حقيقية، لي ولجميع أقراني. خرجنا لنجد الخراب، الخراب الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والنفسي في انتظارنا. الحرب افرزت طبقات من تجار الحرب ومصاصي الدماء. انهيار في الاقتصاد والقيم الاجتماعية والثقافية.

وعندما فشلت انتفاضة الواحد والتسعين اكتشفنا ضياع الوطن وضياع المستقبل. وها هو الوطن يضيع أكثر كلما تقدم الزمن واعتقدنا بالنجاة.

صعب على الحالم أن يجد أحلامه تضيع إلى غير رجعة. صعب على الجندي الذي يضيع سنوات من عمره من أجل الوطن والناس أن يخرج من الحرب ليكشف ضياع كل شيء، ذلك يعني خسارة مضاعفة، أو خسارات متلاحقة.

حياتنا ليست سوى رصيد خسائر متراكمة، يتزعمها الموت والدمار. مات جدي عندما كنت في الثانية عشرة، وماتت جدتي وأنا في السابعة عشرة ومات عمي وأنا في العشرين وبعد عامين مات خالي وبعد اربعة سنوات مات أخي الأصغر في معارك الفاو (1986).

وعندما تركت العراق كان عمري واحد وثلاثون عاماً. في العالم التالي ماتت أمي وبعد ثلاث سنوات مات والدي. وفي 17 يناير 2005م مات صديقي الوحيد منذ الطفولة بعد خمسة وعشرين عاماً من الصداقة.

كل هؤلاء يعيشون معي وأتحدث معهم وأراهم في المنام وقد وثقت الكثير من ذلك في قصصي. أي شيء يغري في الحياة. أعتبر دائماً أن حياتي الحقيقية قد انتهت. لأن الحياة هي الأمل، هي الرغبة بعمل شيء والسعي لتحقيقه.

منذ إكمال دراستي الجامعية، كانت حياتي ملكاً لغيري، وما جرى فيها لا يمثل إرادتي. الحياة هي الارادة. أن تعيش كما تريد وتموت كما تريد. نحن مجرد أجهزة مسيرة مثل الروبوتات. في أي لحظة يمكن قطع السلك وقتل الروبوت. كما يجري في العراق وجرى لصديقي الذي قتل أمام باب داره.

طبعاً أنا أتحدث عن نفسي وعلاقتي بالوطن الذي أخذ كل شيء وما انتهى إليه من مصير. ما الذي يمكن أن يحدث لتعويض ما ضاع. لإعادة من ماتوا. لأستعادة الأمل والرغبة والحلم. كل ما قدمه لنا الوطن هما الضياع والخسارة. نحن أرقام مشطوبة من سجلات العصر.

ونحن اليوم في أوربا نخدم الماكنة الرأسمالية والأمبريالية كأيدي عاملة رخيصة. لا أحد يعترف بمؤهلاتنا العلمية والوظيفية أو الأدبية. علاقتنا بالمواطنة تكمن في دفع الضرائب. عدا ذلك علينا العمل حتى الخامسة والستين او السبعين. لكننا لن نعمر كما يريدون.

ان العجز عن الموت، إذا صحّ هكذا تعبير، والعجز عن استعادة الحياة المضاعة، دفعني إلى فلسفة الكثير من الأمور، ومنها الموت. منتهياً الى فكرة أن الموت ليس سوى عملية فيزيائية مجردة، شهادة إعلان وفاة ونفي من هذا العالم. بينما يكون الشخص قد مات روحيا وعاطفيا قبل ذلك.

لقد متنا عدة مرات، مرة عندما طالت الحرب واكتشفنا أنها لعبة. مرة عندما خرجنا منها أحياء. مرة عندما خرجنا من الوطن وانقطعنا عن عالمه الداخلي لنجتر غربة مرة ولغة غريبة يابسة. ومرة عندما نزل الاحتلال وتحول العراق الى مستعمرة للجميع على حساب أبنائه وتضحياتهم المضاعة.

باللغة العراقية الدارجة نقول أننا نموت كل يوم، كلما تفتح عينيك وتنظر من النافذة ولا ترى وطنك، تشعر بالموت. فقدت أعزّ أهلي وأنا هنا. وليس لي أمل بالعودة أو تحسن الأوضاع كما ينبغي. ولا أعرف لماذا أعيش.

لم يعد غير شيء واحد أؤمن به، حلم طفولة وشعر قديم، أنني سأموت يوماً وحيداً، على رصيف مدينة غريبة، وما أزال أبحث عن ذلك الرصيف!. وحتى ذلك التاريخ، سوف أكتب وأكتب، مسجلاً إدانتي للعالم، ورسالتي لاجيال عاطلة عن الحياة.

ملاحظة: اقرءوا كتاباتنا جيداً، نحن الموتى على قيد الحياة، فثمة أشياء كثيرة، لا يعرفها الأحياء في هذا العالم.!

[2]

من سرق الفردوس..؟

(1)

الفردوس الاوربي، من صنعه؟..

هل صنعه السياسيون، العسكريون، رجال المال، رجال الدين، ام العلماء ومخترعو التكنولوجيا المتقدمة؟..

لا.. صنعه الفلاسفة!!.. الفلاسفة الاخلاقيون أو الانسانيون بالتحديد..

لماذا.. لأن جوهر العالم هو الاخلاق!.. ولا حضارة بغير اخلاق.. لا حياة بغير اخلاق.. لا معنى لوجود بغير اخلاق.. وهذا ابسط درس يتعلمه المرء من قراءة الواقع، في ابسط مفصلياته، او قراءة التاريخ في أي مرحلة او مكان..

البشاعة او الجمال، الرقي او الانحطاط، وغيرها، ما يعجبك ويزعجك.. كلها معايير اخلاقية..
ولكنني لا اقصد المعيار الفردي.. وانما القيم الخلقية الاصيلة غير الانتقائية والبراغماتية والعنصرية.. وهاته هي المسودة العالمية للفلسفة الانسانية..

الفلسفة تعنى بمعنى الحياة.. ومعنى الحياة هو القيم الخلقية!..

من هنا.. نجد ان الفردوس الحديث ظهر في غرب اوربا دون بقية انحاء القارات والثقافات.. بسبب وجود الفلاسفة الاخلاقيين ومكانة الفلسفة المرموقة في الكيان الغربي..

فكل ما يزهو به العالم من علوم وافكار وتقدم تكنولوجي ورفاه اجتماعي وحرية سياسية وانتعاش ديني وتقدم صحي، مدين للاصول والمبادئ الاخلاقية التي بلورتها فلسفة التنوير الغربية الحديثة، التي مثلت جوهر الحضارة والمدنية الغربية.

ولكن تنامي دور العسكر والسياسيين في الغرب في القرن العشرين، ادى الى تأكيد الاهتمام بعلماء التكنولوجيا العسكرية [الاسلحة والذرة]، وتسخير كل قطاعات الحياة ومفرداتها في خدمة القوة العسكرية؛ وكل ذلك على حساب الفلسفة التي أخذت تشهد تراجعا واضحا وكبيرا سيما في النصف الثاني من القرن العشرين.

والنصف الثاني من القرن العشرين، هو عصر انتقال الهيمنة والزعامة الدولية من اوربا الى قارة اميركا الشمالية. وقد عنيت الولايات المتحدة الاميركية باستقطاب افضل الخبرات والامكانيات العلمية والاقتصادية لخدمة ماكنة زعامتها الدولية وامبراطوريتها الامبريالية.

المرحلة الاولى من الصعود الاميركي هو ما تعورف بالحرب الباردة، مرحلة التنافس العالمي في مجال تكنولوجيا الذرة [موسكو- واشنطن]. والعمل في الاختبارات الذرية العسكرية والبيولوجية [تكنولوجيا الذرة، تكنولوجيا الوراثة]، هو بحدّ ذاته كان عملا منافيا للاخلاق والمبادئ الانسانية.

لذلك عمدت الولايات المتحدة الاميركية، ضمن سرقتها مشروع الزعامة الاوربية، الاستحواذ على لائحة الميثاق الدولي لحقوق الانسان، ووضعت نفسها والقضاء الاميركي في مركز السيادة والحكم على المعايير الاخلاقية وتصنيف البلدان والهيئات المختلفة فيها تحت معيار منظورها الخاص للحقوق والقيم الاخلاقية.

اشتهرت الولايات المتحدة – والاتحاد السوفيتي- بالعناية البالغة بعلماء التكنولوجيا وفيزياء الذرة والالكترون والجينات والكيمياء الحيوية في المرتبة الاولى، وغيبت بشكل كبير دور الفلسفة والثقافة الانسانية – بما فيها الانتاج الادبي في الشعر والقصة والرواية-.

هذا التشوه القطاعي الذي قام عليه مشروع الزعامة الامبريالية، وعلى مدى عقود، اسفر بالتدريج على صعيد العلاقات العامة، تراجع القيم الخلقية والمبادئ الانسانية، من ميادين الحياة الغربية، العامة والخاصة.

ولعلنا نحن، الذين بلغنا الغرب اواخر القرن العشرين، ادركنا اواخر ثمرات القيم الانسانية للحضارة الغربية، وعانينا خلال ذلك، حياتيا او فكريا، من مظاهر [الجفاف، الخواء] الاخلاقي، بشكل او اخر، بحسب نوع ومستوى مماحكاتنا مع الحياة الغربية.

ولعلنا، عموما، تقبلنا – بأريحية- مقولة معينة، مع فهم وتمعن مختلف، لابعادها، وهي ان الغرب، يعنى بمصالحه الستراتيجية والاقتصادية في المقام الاول. وهذا يعني ان مضامين المبادئ الخلقية لميثاق حقوق الانسان، بوصفه – دالة اخلاقية عصرية-، تخضع للمنظور الستراتيجي الاقتصادي والسياسي للدولة، على حساب الاخلاق نفسها.

وهذا جعل من الدولة العصرية دولة غير اخلاقية. الدولة ومؤسساتها وسياساتها الداخلية والخارجية غير معنية ولا خاضعة للمبادئ الاخلاقية العامة، بقدر عنايتها بالستراتيج السياقتصادي والتنافس العالمي حول المصالح واقتناص افضل الفرص المتاحة.

بنفس السرعة واقل التمعن، تداول الاعلام والرأي العام (البراغماتية الغربية) بوصفها ديانة معاصرة، ونظاما جديدا للحياة الراقية. ولكن البراغماتية- بالمنظور الفلسفي- هي مبدا غير اخلاقي، بل منافية للاخلاق، شأنها شأن الميكافيللية والانتهازية، التي تحولت جميعا، الى مبدأ واطار، للعلاقات الفردية والعامة، داخل العائلة وفي العمل وكل مستويات الاجتماع البشري.

في هذا النظام الجديد، من البراغماتية والسياسات الامبريالية المشوهة، ظهرت منتجات تكنولوجيا الالكترون الخلوية، المسماة – خطأ ونكاية- باجهزة اتصال وادوات تواصل اجتماعي، وهي في حقيقتها وأصلها، اجهزة قطيعة وتنافر واعتزال اجتماعي، مدمرة لمبادئ الاجتماع والنسيج الاجتماعي الصحي.

(2)

تعيش البشرية الغربية واتباعها على شفا مرحلة تاريخية من الموت الاخلاقي، واستشراء مظاهر مرضية للانانية والفردية والعزلة والعدوانية وانتشار العنف اللفظي والجسدي والنفسي وجفاف العواطف على كل صعيد.

وقد سجلت دوائر البوليس البريطاني حوالي عشرة ملايين جريمة الكترونية – اجهزة التواصل الالكترونية- خلال العام الماضي فقط، وهي نسبة مضطردة من عام للتالي. وفي بلد كالعربية السعودية، تحتل الجرائم الاقتصادية المرتبة الاكبر في سجلات القضاء، والسبب الرئيس في اكثر الجرائم والدعاوي هو الغش والتزوير. ولاشك ان الحياة الداخلية في بلدان اخرى اكثر مأساوية وكارثية، حتى لو غابت عنها الاحصائيات.

القاسم المشترك للنسبة الاعظم من الجرائم والخلافات وحالات سوء الفهم هو اقتصادي، ممثلا في الابتزاز والنصب والتزوير واستغلال المظاهر الاجتماعية والعلاقات الشخصية والعامة للحصول على المال.

في البيت، في الباص والقطار، في الشارع والمقهى، في العمل والمدرسة والجامعة، صار من المعتاد، رؤية روبوتات تندلق اسلاك من اذانها، وياما مرات اصعد فيها الباص مسافات تتجاوز نصف الساعة وفي الباص شخص/[امرأة او رجل] يتكلم في التلفون باستمرار وصوت مسموع مزعج، واغادر الباص ولما يزل يتكلم دون انقطاع.

ترى ما هي الضرورة التي تستدعي هذا الحديث الطويل. في الاجتماعات الرسمية بين ممثلي البلدان، لا يتجاوز الاجتماع الساعة او اجزاءها، او الساعتين في افضل الاحوال. فما الضرورة في مخابرات امرأة – فتاة او عجوز- او شاب احيانا؟..

[اذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب!]، [ضحك بلا سبب من قلة الادب]،
ما مصير هاته الاقوال التي تعلمناها بمثابة حِكَم، ولم يكن أحدنا يجرؤ على الكلام في محضر كبار السن، او الضحك الصائت في العموم، واين كان صوت المرأة؟!!..

لا.. لم تفقد معناها، ولكن نوعية البشر انحطت، ووازعها الاخلاقي تراجع. فالحضارة يصنعها الانسان، والسلام والاحترام يصنعهما الانسان، وجماليات الحياة وبشاعاتها هي من انتاج افراد ذلك المكان والزمن. وعند الحديث عن الانحطاط – حضاري او سياسي او اخلاقي- فالمقصود به والمسؤول عنه هو الانسان الفرد، والافراد كمجموعات وهيئات وهويات.

صحيح ان الولايات المتحدة الاميركية روجت نظاما معينا للعبة الهيمنة الدولية، ولكن.. ما الذي يجعل الحكومات والمجتمعات تسايرها وتروج قيمها البراغماتية؟.

ما الذي يجعل الافراد يتسابقون لترويج بضائعها التجارية والاعلامية، بحيث تحولت قطاعات واسعة من المجتمعات الى روبوتات، وصارت العائلة في الغرب والشرق على شفا الانهيار، او مجرد ديكور، يلتئم شكليا في مناسبات دورية.

عشت في اكثر من بلد، وتعايشت مع قطاعات ومستويات متنوعة من الناس، افرادا ومجموعات، وانا اعتمد مباشرة على اختباراتي الشخصية واليومية في الكتابة والرصد. وأتساءل مع نفسي: اين هو الانسان؟!..

ان ثلاثة ارباع المجتمع البريطاني البالغ سبعين مليونا، هم من زبائن قطاع التأمين الصحي، وان نسبة معتبرة منهم زبائن دائميون او دوريون.. والمقصود من الفقرة الاخيرة هي نسبة الامراض النفسية التي توصف في سجلات الصحة البريطانية تحت عنوان [منتال].

أمراض المنتال ليست فسلجية ولا طبيعية، كما يفهم ويراد لها ان تكون، انما هي امراض اجتماعية تفرزها مظاهر الحياة الاجتماعية في العائلة والمدرسة والعمل. وتعود المظاهر الاجتماعية المرضية الى سبب رئيس هو طبيعة النظام الاقتصادي السائد في البلاد، وجملة نظام الحياة القائم على المال.

قد يبدو هذا الكلام عاديا في اطاره العام. ولكن الواقع ليس في العموميات وانما في التفاصيل. وهاته تتمثل في معدل الايجارات العالية جدا، نسبة الى الدخل/ أجر العمل، ومعدل اجور المواصلات التي تقرض خمس الراتب، وهكذا مع بقية معدلات الاجور وانظمتها الاستثنائية، لدى التحليل، مقارنة ببلدان أوربية اخرى.

من يتحمل تبعات الاجور والفواتير هو الفرد/ المستهلك. وعلى الاخير موازنة مصاريفه الشهرية تبعا لدخله الشهري، هذا في المنظور التقليدي الذي تعلمناه، والذي يراه الجيل الجديد متخلفا. ان المصاريف عند كثيرين، سيما مستهلكي الصرعات الحديثة – سياسة النزعة الاستهلاكية-، هي اضعاف دخولهم الشخصية.

وفي نكتة مصرية قريبة من هذا المجال، ان معدل الدخل الشهري للمواطن المصري هو خمسمائة جنيه، ومصروفه الشهري يتجاوز الالفين جنيه!.. أما كيف يتم ملء الفجوة المالية بين الوارد والصادر، فلا يعلم بها غير الله – اجتهاد كل شخص على طريقته. وهاته هي الحال في الحياة البريطانية. واكبر قطاع مستهلكين هم النساء والاطفال. وهنا يظهر دور الابتزاز والتزوير ومختلف القيم الاخلاقية السلبية.

عندما كنت في النمسا، استوقفني البوليس ذات مرة، وسألني عن اوراق السيارة، وعندما تاكد من الشخصية، سالني عن عملي، ثم سأل عن قيمة السيارة. وعاد يشكك في كفاية راتبي لدفع قيمة السيارة، ثم طلب مني الخروج عن الطريق وعرض السيارة للتفتيش.

جرى تفتيش دقيق بما فيه داخل المحرك ومحاولة اخراج وفتح المقاعد، في عملية استفزازية استمرت اكثر من ساعة. ففي بلد كالنمسا، تعتمد المقارنة بين مستوى الدخل الشهري والمصاريف، معيارا لمدى السلوك النظيف للشخص.

ومرة اخرى، عندما كنت اصدر مجلتي -ضفاف- الثقافية الدورية، سألني مدير الدائرة الثقافية الذي التقيه من وقت لاخر، عن مصدر تمويل المجلة. فقلت له من راتبي الشخصي، وأريته شهادات راتبي الاخيرة. وعاد يسألني، هل يكفي راتبك للمجلة ولمصاريفك الشخصية.

فالشك كان واردا، على الصعيد الرسمي والعام. وهذا يعني ان دوائر البوليس السري في دأب لتقصي موارد الافراد سيما الاجانب. ولا يجوز في اوربا الاحتفاظ بمبالغ مالية كبيرة خارج البنوك. كل المبادلات والتحويلات المالية تتم من خلال البنوك. ولا توجد مكاتب صرافة او تحويل اهلية في النمسا. والقانون يسمح للحكومة بمراقبة حسابات الافراد الشخصية.

(3)

[fraud as usual, crime as normal]

الفساد المالي والاداري يعشش في ظل المرونة والتساهل الرسمي والتغاضي الحكومي عن مظاهره وممارسيه حالة عادية. لا أدري اذا كانت مقولة ادم سمث المطبوعة صورته على احد وجهي الجنيه السترليني اسوة بصورة الملكة: [دعه يمرّ، دعه يعمل!]، تعني السماح والتغاضي عن مرور أي شيء طالما ينتهي لخدمة الاقتصاد وحركة راس المال.

علما ان الفيلسوف الانجليزي كان استاذ مادة الاخلاق في جامعة اسكتلنده ومن الشخصيات المتزمتة دينيا، ولا اعتقد انه كان نبيا للبرغماتية قبل عصرها؟..

الاخلاق والمال نقيضان لا يلتقيان.

وكلما ساد احدهما، كانت سيادته على حساب الثاني. وعندما يكون المال هو سيد عصرنا الحالي، ومحور كل العلاقات والتبادلات والاتصالات، فالنتيجة واضحة. واليات انتاج الفساد المعاصر واضحة بايدينا وامام عيوننا.

يغيب عن كثيرين، في زمن الهواتتف الخلوية واطباق التلفزة الفضائية، ان هذا هو عصر الراسمالية الامبريالية [لامبريالية اعلى مراتب الراسمالية]. وان كثيرين كانوا ضد الرأسمالية، بل ضد الغرب، وباجتماع الاثنين كان الاستعمار الذي احتل بلداننا وما زال يستعمرها ويسودها ويدير امورها بالتحكم عن بعد. وان كثير من بلادنا وبحارنا قواعد عسكرية واقتصادية يستخدمها ضدنا!.
قماصل الجلد وبناطيل الكاوبوي وهواتف الخلوي والمفردات الانجليزية هي رمز الترف والرفاه والجاه لدى كثيرين اليوم. فاذا اضيف اليها فيزا غربية او امريكية، كان ذلك منتهى الحلم الفردي.
هل تفكرنا جيدا في حقيقة جدوى/ مغزى هذا الترف الرأسمالي!..

واقع الحال ان قيمتها في تكاليفها العالية، والمستفيد هو التاجر، بينما المستفيد الرئيس هو الهيمنة الاميركانية الداخلة في الثياب والطعام والرغبات والامزجة والاهواء والميول الشخصية.

ما يزال المعنى ضبابيا.

ان الغزو او الاحتلال او التبعية وغيرها من الاصطلاحات لا تنحصر في مجال عسكري او سياسي او اقتصادي فحسب، وانما تتعداها الى الثقافة وانماط التفكير والسلوك والعلاقات العامة والخاصة.
وفي بدايات دخول الحداثة الى مجتمعاتنا، وقفت التيارات المحافظة ضد تعاطي الثياب الفرنجية والتشبه بهم. وفي بريطانيا وغيرها من بلاد الغرب يستمر الهنود وبعض الاخرين في ارتداء ثيابهم التقليدية، ولكنهم يتقمصون طرز التفكير والعلاقات والتجارة والاستهلاك الغربية، بل الاميركية حسب اخر تقليعاتها، والخلوي والنت والتلفزة الفضائية اليوم ابجديات مشتركة عند الجميع. فالثقافات والهويات المحلية، غير الاوربية، تتعرض لحالة تذويب وتفريغ- ليس في مشروع التنوير والحداثة- وانما في مشروع الترويض والتطهير الامبريالي.

اين ستكون الوطنية والوطن -كقيمة عليا واساسية في حياة الانسان- لدى الجيل الثاني والثالث؟!! اين تذهب قيم النضال و المقاومة والتحرير والتنمية المحلية والهوية الثقافية؟؟..

(4)

في ادبيات السياسة القديمة، كان يقال ان الاستعمار يخرج من الباب ويعود من الشباك!!.. ما هو الشباك، واين مكانه..؟؟..

لم يكن معروفا اننا نحن الذين سنفتح له شبابيكنا.. بل نجعل انفسنا شبابيك وابواب لمرور ريح الغرب وعملها في دواخلنا..

معظمنا وقف ضد سياسة السادات، وبعده تحولت سياسته الى ممارسات عادية ومنهاج عمل لاكثر بلدان الشرق الاوسط والعالم الثالث. فلا مؤتمر باندونغ ولا منظمة الاوبك ولا شعارات الاستقلال والنضال والرجعية والاستعمار والامبريالية والفاشية، كل هذا انتهى، وصار ذكره مخجلا ومحرجا!.

كيف حصل كل ذلك خلال اقل من ربع قرن. كيف دارت البوصلة ستين دورة.. كيف لعبت اميركا بالعالم، بل بنا، نحن سكان شرق المتوسط؟؟!..

كيف انتهينا الى قتل الاب بهاته السهولة، ونحن نفتخر بالتقاليد والمرجعيات التاريخية..
سؤال نحتاج للتوقف عنده والوصول الى حالة اجابة منطقية ومصالحة مع الذات!!.
هل هي صدمة وعي، ام ردة فكر.. ام مجرد وهم!.

[3]

مكانزما الشخصية.. مكانزما الواقع..

(1) مكانزما الشخصية..

من يصيغ شخصية الفرد؟.. متى تبدأ صياغة الفرد؟..

الشخصية: تعبير يقصد به كيان الانسان الفرد. والكيان ليس الشكل والمظهر الخارجي، وانما يشمل جميع أنواع وجوانب نشاط الفرد ومعاملاته السلوكية الصادرة منه والمنعكسة من خلاله في كل موقف ولحظة، تجاه ما يواجهه ويصادفه.

فطريقة تعاطي الشخص مع أي شيء وفي أي لحظة وموقف ترسم جانبا من شخصيته وتشي/ (تكشفها)، بها للخارج. والمفترض منطقيا وجود الانسجام في كل كيان مادي اومعنوي.
وهذا يعني ان تصرفات وكلام الشخص لابد انه منسجم مع طبيعته ومبادئه. وكما يعني المرء/ المجتمع بالانسجام في الثياب او الطعام او مظاهر العمارة، فالانسجام مطلوب واساسي في مظاهر نشاط الشخصية وتفكيره وسلوكه. وبانعدام الانسجام يكون الاضطراب والانفصام والفوضى، وكلها مظاهر مرضية على صعيد نفسي او اجتماعي.

ثمة شبه اتفاق اليوم على ان تكوّن كيان الفرد يبدأ في رحم امّه، وان الجنين يشعر ويتفاعل ويستجيب لكل مشاعر وانفعالات والدته وافعالها وكلامها وافكارها، حيث يجري تخزين دوال ومؤشرات تلك المعاملات في أرشيف الوعي/ العقل الباطن، وسوف تبقى هناك عشرات السنين – والقرون!- لتنعكس في نشاط الفرد ومنظومة استجابته النفسية والفكرية والاجتماعية عند الحاجة، وسيما في حالات الانفعال واللاوعي.

فالام.. ليست فقط المدرسة، وانما هي البيئـة والطينة التي تتشكل منها مادة كيان الفرد جسديا ونفسيا واجتماعيا. اما نسبة نصيب الام في تشكيل الفرد فيختلف بحسب البيئة الجغرافية والاجتماعية والظروف الخاصة. وفي العموم، لا تقل تلك النسبة عن ثلاثة ارباع كيان الفرد في الحالات العادية.

أما دور الأب/ الوالد فيتركز – عند تهيؤ الظروف له- في الجانب السوسيوثقافي، والذي يتشارك فيه مع المجتمع والبيئة. وهذا يعني عدة امور:

دور الاب في كيان الطفل هو دور خارجي ومتاخر، عقب وعي الطفل بذاته.

الطفل ازاء الأب، ليس مادة خام، وانما يكون قد تلقن واكتسب خصائص امومية وهو في المرحلة الرحمية الطويلة.

تعليم الاب وتأثيره – في الغالب- يمثل ثقافة البيئة والتعليم الاجتماعي السائد، ولا يكاد يحمل/ يمثل خصائص ذاتية خاصة، - كما هو مع هيمنة الام الفسلجية والسوسيولوجية-، لذلك تبهت صورة الاب لدى الفرد، بينما ترسخ صورة الام واثرها مع النمو والتقدم في السن.

وعي الطفل خلال تلقيه، تعليم/ تربية الاب، يكون مشخصنا بحيث يتيح له –واعيا او دون وعي- انتقاء ما يناسبه وينسجم مع طبيعة تشكيله التي سبق اكتسبها من امه. فالطفل من جهة، وتأثير الام، عاملان في فرزنة وتصفية المقبول وغير المقبول من التأثيرات اللاحقة.
الانسان هو مولود المرأة، وليس مولود ابيه.

(الاب): ليس غير عامل مساعد في مختبر/ ماكنة الام، ينتهي دوره الاساسي في نصف عدد الكروموسومات التي تتفاعل خصائصها الجينية، مع عدد مقابل من كروموسومات الام، لانتاج اللوحة الاساسية لكروموسومات المولود الناتج.

وبينما تنعدم الخصائص الحسية والنفسية لصاحب النصف الاول من الكروموسومات، تدعم الام الحاضنة خصائصها الجينية بخصائصها النفسية وقاعدة انفعالاتها وتفاعلاتها مدة تتجاوز العامين في اقل تقدير.

في دورة حياة النحل، ظاهرة غريبة، ناهيك عن التقسيم الاجتماعي الوظيفي لاصناف النحل. فالنحلة الولادة هي العنصر الاساسي/ الملكة في ذلك العالم، اما دور النحل/ الذكر، فينتهي مع حصول التلقيح، حيث يموت الذكر وينحل، فيما تستمر الانثى في نشاطها الانجابي والاجتماعي والاقتصادي. ودور ذكر النحل يقتصر على تلقيح واحد ويموت. فيكون للنخلة اكثر من ذكر، واحد لكل تلقيح، يموتون جميعا، بعد تأدية دورهم، وتعيش الانثى مدة اطول، وتسود عالم النحل.
مبدأ الانسجام في تكوين العالم والمخلوقات، لابد له صلة بقصة التكوين والتوليد لدى الانواع الاخرى، بشكل أو أخر. تقول الروائية احلام مستغانمي ان -رجالها- ينتهون مع نهايات قصصها. ومع نهاية كل قصة يموت الرجل وينتهي من الذكر/ الذاكرة، ويبتدئ رجل جديد مع قصة جديدة يموت في نهايتها، بينما تستمر الانثى خالقة القصص والاطفال، سيدة الطبيعة.

كلنا.. رجالا ونساء.. ابناء امهاتنا بالدرجة الاساس، وليس هذا بارادتنا، وانما بمحض رغبة الام وارادتها. وسامتنا ولون بشرتنا وطبيعة مزاجنا ومستوى ذكائنا ودرجة انفتاحنا الاجتماعي ومرونتنا -اريحيتنا- النفسية، من صياغة الام، شعرنا بها ام لم نشعر.

ورغم الواقع الثقافي المتدني لمعظم الامهات، قياسا للمجتمع، فالفرد ينظر دائما لامه، بأنها ذات مكانة نفسية/ اجتماعية/ فكرية جديرة وموضع تقديره العالي.

ومهما بلغ من السنين، يبقى الانسان طفلا امام أمه، يشتاق لحضنها وصدرها، وينتابه شعور يهز كيانه اذا مسحت على صدغه او نبشت اصابعها في شعره. وكلما تقدم الانسان في عمره، يشتاق لامه وتحضر عنده –الذاكرة واللاوعي- اكثر واكثر.

وما يحصل اليوم، من انقلابات سياقتصادية وسوسيوثقافية، يتناول لوحة المفاتيح النفسية والجينية الاصلية داخل كيان الشخصية، والموروثة من الام. وعندما تتقاطع خصائص التلقين الجديد وتتصادم مع قاعدة لوحة المفاتيح الاساسية تضطرب الشخصية – في الفكر والشعور والسلوك- وينعكس ذلك على سطح المجتمع.

في حالة التصادم والخلاف، تبرز الحاجة الى (واقية نفسية) لامتصاص اثر الصدمات. هاته الواقية ذات طبيعة نفسية، ومصدر اجتماعي. وافضل من يمثله هو -الام- أو -امراة- تنوب عنها وتقوم بدورها.

ولكن المرأة المعاصرة، ترفض تقديم/ تأدية هذا الدور، مما يترك شرخا في نفسية الرجل، وفراغا/ حنينا، يصفه بعض العراقيين بالغربة/ الاغتراب مع الذات، يجعله يهرب الى شيء، يخفف عنه وطأة صداع الحاجة النفسية غير المشبعة.

هنا تختلف الثقافة المصرية وعمقها الاجتماعي والنفسي ومقدرتها الطبيعية على الاحتواء والقبول. والمرأة المصرية تكسب زوجها وهي تجمع في شخصيتها وذاتها دور الزوجة والام، وغالبا يدعوها زوجها – ماما- حتى خارج البيت.

بينما يجمع الزوج بين دوري الزوج والأب تجاهها، فتناديه هي الاخرى – بابا- من غير تكلف او تمثيل أو رياء. فتجد الشخصية المصرية اكثر استقرارا واتزانا- على العموم- مقارنة بغيرها.
وهذا ينطبق عموما على عموم طبيعة وخصائص الثقافة الاجتماعية الامازيغية – شمال افريقية-، واختلافها عن طبيعة وخصائص الثقافة الاجتماعية لمجتمعات شرق المتوسط.
(2) مكانزما الواقع..

الواقع يتم تشخيصه وتعريفه بواسطة الزمن.

ما يميز واقعا عن واقع، هو مدى علاقة الواقع بالزمن- الحياة هي حصيلة تفاعل المكان والزمان-. والزمن غير قابل للمس او الشمّ، او ادراكه عبر منظومة الحواس. لكن ادراك الزمن يتصل بالوعي. وعي الفرد هو معيار قراءته وادراكه للواقع، ومستوى الوعي يؤثر بالنتيجة على مستوى فهم الشخص وادراكه للواقع -العام او الخاص-.

اذا كانت البيئة/ المكان، هي الام الحاضنة الرحمية والاموية والرعوية؛ فأن الزمن، هو الواقع التكميلي المتصل بسابقه. وبينما يكون تواصل الفرد مع امه من خلال – اللاوعي/ الوعي الباطن-، فلا مناص له من امتلاك الوعي للتعامل والاتصال بالواقع الاجتماعي.

وظيفة الوعي تحقيق ثثلاث نقلات..

اولا: انفصال الشخصية من تبعية الحاضنة الاموية، وامتلاك خصوصية ذاتية.

ثانيا: الانفتاح على الواقع المحيط واستيعاب الية حركة الاشياء.

ثالثا: انجاز عمليات الاكتشاف والادراك والتعلم، والتعامل معها عبر منظور ذاتي يميز بين المناسب له وغير المناسب، ويحميه من الوقوع في تبعية جديدة!.

ولا بد –لأجل هذا- من بلورة وتشذيب وتثقيف مستوى ونوعية وعيه، لتحقيق افضل ادراك وفهم لمكانزمات واقعه.

عندما تستمر الام في حياة الفرد، تبقى هي الدالة والبوصلة التي تقوده في قراءته واتصاله المحدود بالواقع. اعرف غير شخص في الغرب ممن استمر يعيش في كنف والدته حتى سن متقدمة. وهؤلاء لا يتزوجون. الشخصيات الاموية، المتعلقة تعلقا مرضيا بشخصية الام، لا يتقبل امرأة اخرى، ولا يستطيع – نفسيا- الارتباط الزوجي/ الجنسي بامرأة. وعندما توفيت ام احدهم، لم يحتمل صدمة فقدانها من وجوده. ولم يستطع الاستمرار في البقاء في البيت الذي كانت فيه، بل في البيت عموما، وتحول الى حياة التشرد والتسكع وغرابة الاطوار.

المرأة غالبا تنفر – وتسخر- من علاقة الرجل بامه، وتتعرض له بالاهانة والتقريع، رغم انها – هي نفسها- تبرر علاقتها بامها، ولكنها تحرمها على الاخر. هذه المراة المتمردة، مشوهة- اجتماعيا ونفسيا، بحكم التربية والتلقين وقصور وعيها الذاتي. فكل فرد مسؤول عن نفسه اولا واخيرا. وكل فرد يفترض به ان يكون ايجابيا وبناء في المجتمع.

الام نفسها، مسؤولة عن تعلق ابنها به.

وهي -غالبا- امرأة بلا زوج، لسبب او غيره. وعندما تعاني (الام) من تشوّه تربوي، فأنها ترفض ان تكون زوجة، وتعوض حاجتها للزوج بالابن الذي تجعله يشاركها فراشها وسريرها. أي – تورثه عقدتها-!.

كثير من الزيجات والتجارب العائلية انهارت واضطربت بسبب علاقة الزوج بامه/ أهله – تأخذ الاخت دور الام احيانا-. والاحتمال المقابل شائع ايضا، أي تعلق الزوجة بامها واهلها وتفضيلهم على زوجها. وكلها امراض اجتماعية ونفسية وثقافة مشوهة محكومة بالانانية والجهل والعدوانية الاجتماعية.

المؤسف، ان علم النفس الحديث – بمنظوره الراسمالي- يعتبرها ظواهر اجتماعية عادية ومشروعة، ولا يجوز اعتراضها وانتقادها، كما هو الشذوذ الجنسي والزواج المثلي، سبيلا للعودة الى تقاليد روما القديمة.

الفرد، مسؤول عن نفسه، كما هو –امام القانون-.

وهو مسؤول عن وعيه وتنوع مصادر تعليمه وتثقيفه. وعندما يسجن نفسه في دائرة امه ومكتبة امه وعائلته وينغلق ازاء الخارج/ المجتمع المتنوع، في حالة تشبه الغيتوات اليهودية القديمة، فهو المسؤولة عن تنمية جراثيم التشوه والاتصال الامومي فوق العادي.

الام، من هذا المنظور او غيره، ارتبطت ميثولوجيا بالالوهة. والديانات عموما في اصولها وانظمتها وتشاريعها هي اموية الطابع والتفاصيل. بل ان العنف الضمني في منظومة الدين مصدره المراة/ الام وليس الرجل، الذي ينسب له العنف عادة، وهو ضحية مزدوجة للام/ المرأة.

لذلك لا يطيق الرجل سماع شيء عن امه. أولا لانه لا يريد ان يشاركه احد فيها – سلبا او ايجابا-. وثانيا لانها تتخذ في لاوعيه مرتبة قدسية، لا تقبل النيل منها. ولعلنا نتوقف عن قصة مقتل الشاعر ابي الطيب المتنبي من قبل شخص، تربص به، لاعتقاده ان المتنبي سبق ان نال من امه في شعره.

واذا حاول شخص ايذاء غيره فانه يشتمه في امه، وعند النكاية يشككه في – شرفه-. وكلها من اثار التشوه والتخلف وتربية الغيتوات المنخفضة. وقاموس الشتائم في اصله، يتجه للام والمؤنث في حياة الفرد، ويتركز كذلك في المجال الجنسي المسؤول عن الانجاب والية الخليقة.
وظيفة الوعي هو الخروج من المحدود ونظام التبعية والتلقين، للعالم الاوسع والتنوع والانفتاح والتمعن في جماليات الوجود والافكار وتطوير الاجتماع الانساني.

الوعي ضد الغريزة، الوعي هو العتق، والغريزة دأبها التبعية والتعلق والعبودية الى درجة المسخ. ومعظم منظومة الغريزة، ترتبط بالام/ المرأة، - الجنس/ الطعام/ السكن/ الامن/ المعاشرة والاجتماع-.

المسؤول عن الوعي والعتق والانفتاح والتعلم هو الشخص نفسه، رجلا او امرأة. وعلى قدر انطلاقه ووعيه، او ركوسه ودجانته، تتحدد ملامح شخصيته ومقدار تشوهاتها، وبالتالي انعكاس ادائه على الحراك الاجتماعي والاقتصادي والسياسي لمرحلته وواقعه.

وقد لعبت المنظومة الراسمالية على هذا الوتر الحساس في تشكيل الفرد. واقع علاقته بالام وحاضنة العائلة. وللاسف، كما في الموقف من بنود لائحة حقوق الانسان، فأن حركة تحرير المرأة – وهو جزء من مشروع التنوير- تعرض لسوء الاستخدام من قبل الراسمالية.

وذلك عبر التطرف والمبالغة في رفع قيم الفردية والتحرر الفردي/ التمرد الاجتماعي، على حساب دور الزوج/ الاب فاقد السيادة في العائلة بحسب الدساتير الغربية.

وبينما يطالب النظام الراسمالي الافراد بالخضوع لرب العمل وقوانين العمل وطاعة النظام الاقتصادي والنظام السياسي والنظام الامني، فأنه اطلق العنان ورفع السقوف في مفهوم العائلة ، وجعله لعبة بيد المرأة، وعلى شفا من حفرة شكاوي البوليس.

العائلة اساس المجتمع. والعائلة الراسخة والكاملة والقوية تنتج مجتمعا راسخا متكاملا وقويا. لكن المجتمع الراسخ القوي البنيان والتماسك الداخلي، سيكون سيدا لنفسه، ويكون بامكانه الاعتراض والتحدي ومواجهة ارباب العمل والسلطة السياسية، مما يحد من حريتها وصلاحياتها.
فكان لابد من تقويض مؤسسة العائلة وتفريغ الكيان الاجتماعي للفرد، فلا يكون له ملجأ غير العمل ورب العمل، الذي من خلاله يحصل على المال وبالمال يستطيع تأمين بعض جوانب حياته.
وأذكر، ان احد العمال كان يمتدح النظام الراسمالي واصحاب المعامل بشكل مبالغ فيه، قائلا، انهم يوفرون لنا العمل الذي نستطيع ان نعيش به ونتجنب البطالة. المجتمع الاوربي جرى بناؤه على اساس العمل، ووفق منظور راسمالي – غير اشتراكي-، بكل ما يعنيه من تقديس للمال والربح والعمل والاستثمار وجعلها فوق كل شيء، بما فيها الانسان والروابط الاجتماعية والاخلاق والمشاعر.

الراسمالية اليوم على شفا النهاية.

الراسمالية باعتبارها صفة وسمة لمجتمع اوربا الغربية على شفا الانهيار. وهو المسؤول والمنظر لانهيار المجتمع، لانتاج امبراطورية عبيد، هم وقود العمل، بدل المجتمع الانساني المتماسك.
نظام العائلة وروابطها في اسوأ اوضاعه. ظاهرة السنغل مام هي الاكثر سيادة اليوم، والاكثر قبولا ودعما من قبل الحكومة. والزيجات المثلية في انتشار. بل ان ثمة ظاهرة، قد يكون تشخيصها مبكرا الان، وهي ان جماعات كثيرة من النساء، بما فيهم طالبات المدارس الثانوية، يرتبطن بعلاقات نسائية، ولا يسمحن باقتراب الذكور منهن.

ولابد ان هذا الوضع سيدفع لانشاء جزر رجالية ذكورية لا تسمح للنساء بتخللها. بل ان نساء العرب، والاجانب عامة، تعلقن بالظاهرة الجديدة، وهي في نمو، سواء في جانب علماني، ثقافي، او ديني. حيث تجد تجمعات نسوية في كل قطاع، وهي تجمعات صغيرة.

وفي الاسبوع الفائت، نشرت وسائل الاعلام عن أثر ظاهرة السنغل مام الى المجتمع المصري، كما لو انها ظاهرة حضارية، في وقت تتفاقم فيه ازمات العنوسة والقيم الاجتماعية والمشاكل الاقتصادية، بشكل يهيئ لاعلان الانهيار التام والعام للمجتمع، بدء بالغرب، وعلى اثره الشرق، المقلد.

مشروع الرئيس الامريكي الجديد -دونالد جون ترامب- هو بناء امريكا من الداخل : بناء امريكا قوية.
يختلف منظور ترامب عن سابقيه الذين اهتموا ببناء قوة عسكرية على اساس مجتمع مهلهل. فالسياسي الوطني والفهيم هو من يهتم ببناء بلده ومجتمعه من الداخل. وربما كان لبوتين والسيسي نفس الرؤية أو ما يقاربها. عسى ان تكون هاته سمة العصر الجديد.

هل تنتقل الراسمالية الى مرحلة جديدة، اقل وحشية. ام يظهر نظام جديد بعد سقوط كل من الاشتراكية والراسمالية!!..

[4]

لا بافلوفين ولا ملتقطين..

(1)

حتى الان.. كنا مجرد ملتقطين لمنتجات الغرب، وما يضعه أمام عيوننا. نحن الاحفاد الشرعيين والمخلصين لثقافة البداوة والالتقاط.
مذ دخول الحداثة في بلادنا، لم يكن لنا أي اسهام فعلي او عقلي في مسيرة الحضارة والابداع والانتاج.

انتشرت المدارس والمشفيات ودوائر الخدمة المدنية وتغيرت طرز الثياب والعمل والطعام والعلاقات، وذلك في تقليد مباشر لعناصر الاحتلال وادارته المدنية، ومع خروج المستعمر، كانت اجيال وطواقم مدنية وعسكرية، تتبع طرزه ومناهجه وتدرب عليها الناس.
الحداثة في مجتمعاتنا، هي تعبير ملطف لمنهاج بافلوف في نقل غير المتحضر لعتبة التحضر. هذا ما جرى في الهند،وفي افريقيا، وفي العرابيا.

ولا تختلف علاقتنا بمنتجات الثورة الالكترونية الاخيرة عن طراز الالتقاط وبرنامج بافلوف. في اساليب التعليم الحديثة لا يتعلم الطفل التهجي في القراءة، ولا العدّ في الحساب. وانما يتم تعليمه صورة الكلمة او الجملة او صورة المعادلة الحسابية.

الصوت- الصورة- الحركة- الاشارة، تعني الكلمة الفلانية او العملية الحسابية كذا.

والسؤال هو: متى نتحرر من طراز بافلوف ونتجاوز عقلية الانتقال، ونكف عن القول ان الله اكرمنا، فجعلنا نستلقي، والاوربيون يفكرون ويصنعون ليخدمونا ويضعوا كل ما نحتاجه في ايدينا!.
يقول ديفيد بن غوريون [1880- 1973م] في مذكراته: حتى الان، كان الاخرون يصنعون تاريخنا. وقد حان الوقت لنتولى صنع تاريخنا بأنفسنا، ولا نجعل أنفسنا ضحايا لاخرين.

والعرب الذين ظهروا وعاشوا على هامش التاريخ الذي يصنعه الاخرون. ولم يستطيعوا، رغم جوارهم الجيوتاريخي لقلب الحضارة وداينمو التاريخ القديم والوسيط والمعاصر، في الاندماج والتلاقح والاسهام الجاد والموجب في صناعة الحياة والتاريخ. وبالتدرج، دفعهم الشعور بالعجز والتخلف المتراكم، لاتخاذ موقف العداء من الحضارة، وأدلجة فكرة الرفض والاعتزاز بالبداوة والتخلف، واتخاذها غطاء لـ(ستر) عجزهم عن التقدم وصناعة الحضارة والتاريخ.

وهم عندما يحملون الغرب، تبعات تخلفهم ومأزوميتهم – كما درسناه في مناهج التعليم ويروجه الاعلام الرسمي بلا كلل-، فأنهم لما يزالوا، ينتظرون من هذا -الغرب ان يقودهم، ليس في دروب الحضارة والثقافة، وانما في السياسة والاقتصاد والدين ايضا.

فمتى نتأهل للخروج من دار الحضانة وبيت الطاعة، لنصنع حياتنا ونكتب تاريخنا بأنفسنا، حياة وتاريخا نتشرف به ونثبت بهما جدارتنا امام العالم، ولا نستمر في مرحلة الالتقاط والتظاهر الخاوي.

ان ما يجري على حلبة الواقع، منذ باكورة الالفية.. هو مزيد من التحلل والتفسخ والتناحر والاغتراب عن انفسنا وعن بعضنا.. وهو ما يقتضي التوقف والتامل، والبدء بالتغيير، حتى لو استدعى الامر شد الاحزمة على البطون.

يعاني مشروع عبد الفتاح السيسي في مصر، من تحدي خانق، جراء عدم استعداد قطاع من المجتمع للتضحية والتقشف والتنازل عن الهبات والمساعدات – الاميركية-و – السعودية-.
فالحل الوحيد لتحرير مصر من الديون وفوائد الديون الخارجية، هو اعتماد مصر على نفسها في انتاج غذائها، وتحقيق نسبة مرموقة من اكتفاء ذاتي. وهذا يعني امرين:

أولهما: خفض معدلات الاستهلاك الترفي وقصره على الضروريات.

ثانيهما: احتمال التقشف وشد الاحزمة على البطون لمرحلة من الزمن.

بذلك يتاح تعديل الميزان التجاري المصري، ورفع هامة مصر الاقتصادية دوليا. وليس بعسير على مصر، اذا انجزت هاته الخطوة، ان تتحول الى بلد مصدر ذي ميزان تجاري موجب.

اما ان يتم توريث الديون من جيل لجيل ومن حكومة لحكومة، فسينتهي البلد واهله الى رهينة في البنك الدولي، ويفقد سيادته وادارته لذاته.

قد تبدو ازمة مصر اقتصادية بالدرجة الاولى. رغم ان حقيقتها هي سوسيوثقافية مشوهة، جراء تغييرين راديكاليين خلال القرن الماضي: وهما: تاميمات عبد الناصر وانفتاح السادات.

ولحقبة الاخر، تنتسب كل ازمات المجتمع المصري العويصة، والسائدة اليوم في كل صعيد. بدء من شيوع عقلية (الفهلوه) واهتزاز القيم الاجتماعية والاخلاقية ومظاهر الفساد الاداري والتجاري والفوضى الدينية. وكل ما يحدث في مصر يجري استنساخه عربيا وببغائيا.

من غير تضحية، لا تنزل الحرية من السماء. ومن غير عمل انتاجي جاد، لا تتحصل الكرامة بقرعة اليانصيب.

تغيير العادات الاجتماعية ضرورة ماسة، للتخلص من العاهات الاجتماعية التي تحني هامات البلدان.

سياسة انفتاح السادات وبرامجه الاقتصادية والسياسية في سبعينيات القرن الماضي، عقب صفقة كامب ديفيد، هي التي تم تطبيقها في عراق الاحتلال الانكلوامريكي المزدوج. وهو ما سيتم تطبيقه في سوريا وليبيا عند استقرار اوضاعهما.

فالبلاد العربية ليست غير سوق لتصريف البضائع وتحقيق الوفرة المالية لتنفيس ازمات الراسمالية الامبريالية.

وهذا ما يمكن استشفافه من قراءة ارضية الواقع. امتلاء الاسوق بالبضائع والاطعمة، وارتفاع معدلات النزعة الاستهلاكية، بحيث صار التجوال في مجمعات الاسواق والمولز، بمثابة تسلية وتسرية لربات البيوت.

وياتي اضطراب الاوضاع الامنية والسياسية، لرفع معدل القلق والاكتئاب العام، مما يجعل التبضع المستمر واستهلاك الطعام فوق المعدل، مجال تسرية وتنفيس وتعويض نفسي.
وقد مضى على برامج التشويه والمسخ السوسيوثقافي والسياقتصادي في العراق ما يقارب الخمسية الثالثة، بمعدل مضطرد ومتعسف. والسؤال الاكاديمي: كيف يمكن تصحيح خريطة التشوه والتشويه، عندما يصل النظام الحالي الى طريق مسدود، ولا تجد البلد مخرجا من مستنقع الديون الخارجية؟!.

في طرح نادر، صرح احمد الجلبي في مقابلة صحفية في اوائل التسعينيات، انه ليس مستعدا لاستلام الحكم في بلد غارق في الديون والازمات. واليوم تضاعفت الديون عشرات المرات، واستغرقت العراق ازمات غير قابلة للحل (!)، بغير عمليات جراحية راديكالية.

ليس غرضي هنا طرح تنبؤات، يفترضها منطق الاحداث السائد، قدر ما يقتضي الاسراع بوضع حد لبرامج الانهيار الاقتصادي، ورفع وعي الافراد عن التمادي البافلوفي في سياسات الاستهلاك والفساد والفوضى غير المسؤولة.

وما لم يرعوٍ الجيل الحالي عن تحمل مسؤوليته الذاتية والوطنية، فان ابناءه هم الذين يدفعون الثمن ويخسرون نعمة الوطن!.

فانا لا اعوّل هنا على الهيئات والتيارات والاحزاب السياسية والدينية والاجتماعية – كلهم شركاء في العملية السياسية وبرامج التخريب الوطني-، وانما أعوّل على الانسان الفرد ووعيه الحضاري، واقتران الانسان بالوعي الانساني ينتج الضمير.

(2)

على شفا الغياب..

قبل عقد من السنوات اصدرت دوائر الامم المتحدة لائحة تشمل عشر لغات مرشحة للانقراض خلال القرن الواحد والعشرين. وقد انبرى بعض اللغويين لتفنيد القرار واعتباره -غلطة- طباعية. وكان مما تعكز عليه عدد (المسلمين) في العالم، وهو الوهم الذي سبق تداوله القومويون في النصف الاول من القرن العشرين.

ويدرك اللغويون قبل غيرهم، بدرجة الانحطاط التي تشيع في لغة الاعلام والمنشورات والتصاريح الحكومية الرسمية. ومع فشل مشاريع تبسيط اللغة العربية وتسهيل قواعدها، فالفوضى والعشوائية صارت سمة لقواعد اللغة العربية، وغياب الاعراب كليا، بحيث لا يتميز فاعل من مفعول ولا متعدي من لازم، الى عشوائية استخدامات اخوات [ان، كان] والاسماء الخمسة.

ان غياب لغة من التداول ليس قرارا سياسيا او فتوى دينية. ولكن ازدهار لغة وانحطاطها، هو سلوك اجتماعي اولا واخرا. ورغم كون اللغة دالة القومية عند العرب، فان تفكك مجتمعات الشرق الاوسط، لا يحتاج الى دليل او تلسكوب فضائي. فاللغة العربية اليوم، بكل عجمتها واغترابها، ما زالت الخيط الوحيد الجامع والممثل لسكان جنوبي وشرق المتوسط. وبين ذلك، تتعدد الجماعات/ المجموعات اللغوية: العراقية والخليجية، الشامية، المصرية، اليمنية والسودانية، المغاربية. وتعود جذور هاته اللهجات لما قبل ظهور الاسلام.

ولم تنجح اربعة عشر قرنا في تذويب الفوارق اللغوية وتقريب عرى مجموعاتها السكانية من بعضهم، وتوحيدهم في بودقة مدنية حضارية قومية.

فـ(اللغة العربية) جاءت من خلال الغزو، وتسلط حكم متعسف، اودى بلغات محلية وهويات سوسيوثقافية عريقة كانت لمجتمعات شرق المتوسط وشمال افريقيا. وفضلا عن عدم قدرة بعض الحناجر على تلفظ اصوات حروف معينة، فأن اللغات القومية كيانات اجتماعية متوارثة، لا يمكن ان تختفي –بقرار سياسي- عندما تكون اصيلة. ونحن نعرف جيدا من برامج التعليم والتثقيف العام، ان العرب –امة- بائدة قبل ظهور الاسلام. وان متحدثي عربية اليوم هم عرب مستعربة، أي خضعت لبرامج التعريب والتطهير اللغوي.

وإذا ما ادركنا ان اصل العربية هو لهجة ارامية، تم تشذيبها وتقويمها على يد الفراهيدي وجماعته من معتزلة البصرة، وتقديمها لتكون لغة رسمية للعهد الاسلامي، وتمييزه-(ها)- عن الثقافة/ العقيدة العبرية والسريانية السائدة في حوض المتوسط الجنوبي، وكلتا اللغتين: العبرية والسريانية (جذر ارامي) ما زالتا ساريتين صامدتين لليوم.

مصطلح (قومية) لا وجود له في القاموس السياسي والاجتماعي العربي القديم، ولم يرد في اسفار القرآن، وقد روجت لها حركات القومية العربية العلمانية المتأثرة بالاتحاد والترقي الطورانية، وجمعية العروة الوثقى في الجامعة اللبنانية التي افرزت حركة القوميين العرب.
والدول القوموية العربية انقرضت الواحدة تلو الاخرى، بدء بدولة عبد الناصر ودولة البعث العراقي وليبيا، وإذا تهيأ للنظام السوري الاستمرار للمرحلة التالية، فلن يستمر بنفس خطابه البعثي وشعاراته القوموية، ويكون له خطاب جديد ينسجم مع لغة مستقبل المنطقة وحدوده الجغرافية.
والعامل الحاسم وراء التغيرات السياسية في هيكلية الشرق الاوسط، هو العنصر العربي نفسه [عرب نجد والخليج] المتوجسين من افكار القومية والعلمانية، والابعاد الامبراطورية للقومية الناصرية والبعثية.

الغرب يستفيد من الخلافات والنزعات السياسية للدول العربية ضد بعضها البعض، ويوظفها لصالحه. ولكنها –أي- الاصطراعات والتناحرات قديمة العهد وسابقة لظهور الانكلو اميركان.
وبالنتيجة، سوف يصفي العرب بعضهم البعض، حتى ينقرض -العربي- الاخير منتحرا. ومع عدم مراعاة مبلغ الاستياء الشعبي جراء مظاهر الانحطاط والتردي السياسي والديني، فأن انعكاسات الاصطراعات تسهم باضطراد، في تنفير السكان من مظاهر العروبة وتبعاتها، ومن ذلك اللغة والدين العربيان.

اليوم.. بلدان افريقية عدة تتحدث لغات اوربية كلغة اساسية، ومثلها الهند ومجتمعات شرق اسيوية اخرى، وعلى نفس الطريق ينهج سكان الشرق الاوسط، سبيلا لتوخي هوية ثقافية اجتماعية وخطاب سياسي مستقبلي، يقرب من العصر والمجتمع العالمي.

[5]

أزمة الذات أو عقدة النقص..

الحيازة والاستهلاك تعويض لذات مأزومة..

التعصب الديني.. رأي وعقل لمن ينقصانه..!

(1)

لحظات نادرة ومحدودة جدا.. اعتقد فيها الانسان بادراكه سرّ الوجود!.. ولم تكن تلك اللحظات مجانية على قارعة الطريق، وانما اقترنت بالعقل الجاد والبحث الدائب والرؤية المستنيرة..
تلك اللحظات هي مصدر الثراء الانساني وارتقاء منظومة القيم والعمران والعلاقات.. وعندما يتراجع اشعاع تلك اللحظات وتتوارى رموزها، تحل فترات الظلام والانحطاط وانعكاساتها في كل صعيد.
من تلك اللحظات الفردوسية النادرة، ..

سومر الاولى.

فلسفة الاغريق.

عصر التنوير.

وإذا قدرنا كل حقبة ابداعية سالفة، بقرنين من الزمان – تقريبا-، فأن عمر اللحظات النادرة والابداعية في عمر الانسان لا تتجاوز الستة قرون.

ستة قرون فقط في مقابل ستة الاف عام من تاريخ الانسان – المدون-. ويقدر علماء الانثروبولوجيا عمر الكائن الانساني بمليون عام، حسب الحفريات الاثرية.

عصر التنوير الاوربي- اللحظة الاخيرة- كان خلال القرنين السابع عشر والتاسع عشر الميلاديين، وشهد القرن العشرون ثمارها المباشرة على الصعيد المادي والمعنوي. واليوم، نعاني استمرار تبخر واختزال تلك الثمار، وانحراف مسيرة الانسان نحو الانحراف والانحطاط والضياع بشكل مضطرد.

ما هو الانحطاط؟.. وكيف يمكن تمييزه؟..

غلبة الكم على النوع.

غلبة المادي على المعنوي

غلبة الخاص على العام.

غلبة قصر النظر على بعد النظر.

غلبة الاستسهال والاستهلاك والاستحلال.

وكل هاته المعاملات مختصة بالفرد وقناعاته وخيراته وقدراته، وما من مبرر يفترض ان احدا ما يجبر عليها، بغير خضوعه لسلطان الغريزة والطمع.

(2)

صحيح ان ثمة سياسات عامة تتبنى مبادئ وأفكارا معينة، تسخرها لخدمة اهدافها على صعيد معين وفي حدود معينة، الا ان استجابة المتلقي والمستهلك، هي امر يخصه وحده، ويتحمل مسؤوليته مع عواقبها لوحده.

هذا يعني ان المعيار الحاكم في الامر، هو مدى صلابة المرء، ودرجة تعففه وتنزهه أمام معروضات السوق، واحتمالات الخروج مما هو فيه.

في الزمن الماضي كان اصطياد الاشخاص يتم باستخدام المال او الجنس. والمال والجنس من مظاهر الجاه والترف.

وكلاهما اليوم مبذول، وطريقه سهل وقصير، وثمنه هو التنازل الاخلاقي والقيمي، بما فيه اساليب الجريمة كالسرقة والرشوة وتجارة الجسد.

وبينما، كان البعض – في الماضي- يأنف من العرض، ويفتخر برفضه؛ يتكالب ابناء اليوم على المتاح منها، ويتفاخرون ايضا بما يصيبونه منها.

في الماضي، ظهر مبدأ اخلاقي هو: من أين لك هذا؟!.. وأقرت بعض الحكومات تقديم كل سياسي مستجد اقرارا بوضعه الاقتصادي. واعتباره اساسا للمقارنة بعد سنوات، بما كسبه من منصبه الجديد وحياته الجديدة.

اليوم صارت السياسة والحزبية ومراكز الدولة وامثالها، مجرد ابواب للثروة وبيع الصفقات والتجارة الحرة غير المقيدة. ولم يعد الأمر بين الغرب والشرق يختلف مبدأيا. فالغرض من الممارسة الحزبية او التجارة او الدراسة هو المال، واقصر الطرق واسهلها وأفضلها ايرادا، هو المطلوب.
فالطبيب والمدرس والعسكري ورجل الدولة والدين، لا يتعامل مع مهنته من باب الايمان او الفضيلة او الخدمة العامة، وانما، اشباع حاجات المغيشة والحيازة.

الجانب الخدمي، الاخلاقي، الانساني في خطر الغياب.

الشرطي انسان. رجل الدين انسان. السياسي انسان. ..الخ. كل منهم مسؤول مسؤولية مباشرة عن ادائه. وسوء استخدام السلطة والقانون والاخلاق هو الاكثر شيوعا، في تعبير بسيط ومباشر عن الانانية والعدوانية وتراجع النوع الانساني.

ولكن أين هو الانسان – هذا اليوم- في الاداء اليومي للأشخاص؟!..

لقد تم تغييب عنصر (الانسان) لخدمة منظومة الشر والدمار المفرطة الشيوع والشرعية في زمننا. الناس مسيّرون كالقطيع. ليس بالدين والايديولوجيا الدوغماتية والعقاقير المخدرة فحسب، وانما بمظاهر الاستهلاك المريضة والترف البراق والتافه.

الموبايل/ الجوال/ الهاتف الخلوي والدش، ليس حاجة – ترفية/ شكلية، وانما تحولت الى قضية مصيرية/ حياة او موت، لدى كثير من الاشخاص والعوائل. وياما عوائل انهارت بسببها. هل العائلة العربية مغرمة بالتحديث لهذا الحد. ام هي قطيعية لا واعية الى حد غريب.

في رواية للكاتب اللبناني يوسف الضعيف، تشترط العروس على عريسها ان يشتري لها التلفاز والدش قبل كل شيء. وبعد الزواج تقضي وقتها عند امها، لمشاهدات المسلسلات التحشيشية لوجود دش عند امها، وهي لا تريد البقاء لوحدها في البيت.

بعد عشرين سنة من دخول خدمة الهواتف الخلوية والنت واطباق التلفزة الفضائية، ما هي الايجابيات والتطورات التي طرأت على شخصية الانسان العربي؟.. كم هو حجم التقدم والتحسن في الفكر والسلوك والحياة اليومية؟..

مزيد من الفساد والفوضى، مزيد من النزعات المادية والجوع والشراهة والطمع وغياب القيم الخلقية والانسانية، مزيد من العبودية الاستهلاكية لمنتجات الراسمالية وخيانة الاوطان والانسان.. غياب تام للضمير.. استعداد منقطع النظير لعمل أي شيء مقابل مرضاة السيد (!!)..

(3)

رجل الدين الذي يصدر فتاوي التدمير والذبح والتفجير هو انسان!..

هل هو انسان حقا؟.. من حق كل شخص الشك في انسانيته وعلاقته بالنوع الانساني. في محاكم العهد النازي تم الحكم على كثيرين لمجرد دور محدود في الية الحكم النازي. والمقصود بالحكم النازي هو جرائم القتل والتعذيب والتطهير وتجارة الدم والاعضاء البشرية.

احدهم كان موظفا في مصلحة القطارات، يشرف على تنظيم جداول الحركةن تم تجريمه، لآن القطارات كانت تنقل السجناء اليهود الى معسكرات الاعتقال. في واقعنا اليوم مشرعون ومنظرون لجرائم القتل والتخريب، ولدينا قضاء متواطئ وحكومات نائمة. الجريمة، من غير تجريم رسمي او شعبي، لا تكون جريمة. تصير حياة عادية!!..

أليس غريبا ان تتم هاته الصنوف الوحشية والمنافية للانسانية من تجارة الموت والخراب والاستهانة بالانسان، في المحيط العربي والاسلامي، في جو من الحرية والازدهار واللامسؤولية؟....

لو عاش عبد الرحمن الكواكبي في زمننا هذا، هل كان سيكتب كتابا جديدا، أم يتولى بنفسه رفع لائحة الاتهام امام التاريخ؟.. لذلك تخشى الدولة العربية من (اهوال الاستبداد).

ان الذي يحدث لدينا هو العكس واللامعقول.. انه ربيع الجريمة والتخريب والاستهانة بالبشر..
شاب مأزوم بلا رؤية لحياته، يقرر قتل مجموعة من البشر ليظهر اسمه في شريط الاخبار. في سجل الاسلام المعاصر قوائم طويلة من المجاهدين المصطفين على ابواب الجنة، ممن خدموا العقيدة ورفعوا اسم الاسلام عاليا فوق فوق.. على قمم الخراب والجريمة والاشلاء البشرية..
افضل خدمة للبشرية هو تخليصها من الحياة، وهذا مغزى الجهاد الاسلامي والمجاهدين من الشباب الضائع الذي فتح عينيه على البطالة والفساد وانعدام مستلزمات الحياة الطبيعية.
وبدل قيام الشيوخ ببناء مصانع وورشات لحل مشاكل البطالة وانعدام الامل، قاموا بتوظيف البطالة لخدمة برامج التخريب والدمار الشامل للبشر والبلدان.

في الدين – عموما- كما في السياسة والثقافة والتجارة والاعلام والجامعات ومعاهد التدريب، ظهرت طبقات جديدة من الشيوخ والاساتذة – من خريجي الدواجن والفهلوة-، وانسحبت القيادات والمرجعيات واجيال الاساتذة العتيدين.

ونكاية في الثقافة والدراسة والاكادميين، اختير دكاترة الازهر المصرية على راس التنظيمات الارهابية. ترى ما هو شعور اساتذة الجامعات والاكادميين، وهم يجدون انفسهم في مستوى واحد مع البغدادي وبوكوحرام في نقابة الاكادميين!.

وفي خضم الغثاء العولمي، احتلت الأنثى صدارة المشهد، لاضفاء مسحة تقدمية على الاداء. في السياسة والثقافة نافست المرأة الجارية، الغلمان الشباب، وفي معتركات الديانات، ظهرت المرأة الواعظة والداعية والناشطة لخدمة وترويج مظاهر الفساد وتغييب الجمهور عن تشخيص البشاعة.

(4)

يقال ان كل شيء بالعقل.

والخيانة ايضا تبدأ بالعقل، تبدأ بالنفس، من داخل الشخص نفسه.

وعندما يخون الفرد ذاته، لا يشعر بالخيانة، لأنها تتحول لديه الى سلوك عام وموقف. ونحن اليوم.. الاحياء في عقدة الالفية، متهمون ومشاركون في الخيانة، على مدرج نسبي طويل. تتساوى في ذلك الخيانة الصغيرة والخيانة العظمى، الكذبة البيضاء والسوداء والرمادية.

مفهوم الانسان لدى الاكثرية، بما فيهم الساسة وشيوخ الدين، هو الجسد والغريزة العمياء. لذلك تحتل الثياب والطعام والجنس الحيازة محل الصدارة في تجارة الموت والدم والخراب.

وهذا ما حرصت الراسمالية الامبريالية على تامينه بدل الامن والكرامة. انتشرت محلات المطاعم والبوتيكات والفاشن ومكاتب التلفونات، في كل شارع وزاوية. وفي المطارات ينشط تجار الشنطة في تجارة السلع عبر الحدود.

يتفاخرون بما لديهم من ثياب اجنبية وأرصدة مالية وعقارات، ويتباهون بمنجزاتهم الجنسية وتكاليف وجباتهم الغذائية. يتفاخرون. ي. ت. ف. ا. خ. ر. و. ن. هذا هو اهم شيء. مظاهر فارهة وفارغة.

لقد كان احد عوامل ظهور فلسفة العبث واللامعقول في الفن والادب الاوربي هو الرد على مظاهر هزيمة الانسان، امام الة الحرب والتكنولوجيا. نحن نمارس هزيمة الانسان في دواخلنا وذواتنا – طواعية- للفوز بمرضاة العدو، او الهروب من اسئلة الذات والمصير والخواء الحضاري.

مشكلتنا اليوم ليست الحضارة ولا الحداثة.. ولكن هزيمة الانسان وغيابه امام النسخ الوحشية الرائجة. وعندما يشخص جون مكارثر الجريمة كواقع يومي في حياة الغرب، فما من احد في الشرق العربي والاسلامي يرى مبررا لاستخدام لفظة – جريمة- على ما يجري في تاريخنا المعاصر.

كل دمعة طفل.. كل انكسار عين.. كل حالة تشرد.. كل غربة واغتراب ووجود خارج المكان/[البيت/ الوطن].. كل حرية منقوصة وتجاوز على حرية ووجود انسان .. كل تدخل سلبي واداء عدواني.. كل كلمة وموقف خارج السياق والمنطق، جريمة.. ونحن نسبح في مستنقع جريمة.

عند ذكر الفساد، الفوضى، فالمقصود هو الجريمة.

في القانون مواد تحاسب على ممارسة الفساد وتجرمه.

هل كان ذو الفقار علي بوتو مجرما فاسدا.. عندما اصدر القضاء الباكستاني عليه الحكم بالاعدام؟*.. ام ان ابنته بنازير بوتو كانت فاسدة فعلا عندما هددها الاسلاميون بمحاكم الفساد اذا رشحت نفسها ونافستهم في الانتخابات؟.. هل الباكستان اليوم طاهرة من الفساد الحكومي والشعبي والديني؟..

هل تركيا او ايران اليوم اطهر وارقى مما كانت عليه ايام العلمانية؟.. أم الحياة العربية ازدهرت كثيرا في ظل المد الديني المروج للدم والفساد والتخلف؟..

هاته هي صورة الواقع اليوم. يستطيع كل شخص ان يضع مليون برقع على عينيه ووجهه ويلف كل جسده، ولكنه لن يعفى من مسؤولية ما يجري.

كل انسان عليه ان يبدا بالتشخيص- الاعتراف- المسؤولية- التغيير- العمل نحو الافضل!.

(5)

البرجوازية التقليدية في الماضي، اتسمت بأمرين: الالتزام الاخلاقي والثقافة والتنوير.

وعندما تعرضت البرجوازية التقليدية للتقويض بفعل اجراءات التأميم او الانفتاح، نشأت فئات برجوازية جديدة من قاع المجتمع وأطرافه، بدء بالبرجوازية العسكرية والحزبية حتى برجوازية الانفتاح واستشراء الفساد.

والفارق بين البرجوازيتين، هو ان الجديدة، خلاف القديمة، تعتاش على الفساد والتخلف. برجوازية بلا ثقافة وبلا اخلاق./(رواية يعقوبيان لعلاء الاسواني).

ما حصل في مصر ويحصل في العراق وما يحصل في الجاليات المهاجرة هو مسؤولية الفرد. ممارسات فردية تتحول الى ممارسة عامة، وتنعكس شرورها على الجميع. والفرد هو ابن امه وعائلته وعشيرته وعقيدته الدينية والحزبية!.

بامكان الفرد، اعتماد ضميره الشخصي، وعدم اقتراف تلك الممارسات المؤذية، وتفضيل القناعة والتعفف على الترف. بامكانه ايضا، عدم التعاطي مع المظاهر والممارسات السلبية. فالتعاطي معها هو تشجيع لها، وتوفير للبيئة الحاضنة للفساد. السكوت في القانون هو مساعدة للمجرم، تواطؤ ومشاركة في الجريمة.

والمقصود هنا (الضمير)، المعيار الخلقي الشخصي والاجتماعي، وليس القضاء والبوليس والاعلام والدين والحكومة، المؤسسة والمشرفة على ترويج الفساد والانحطاط الراهن.
صلابة الشخصية هي الامتلاء. والامتلاء خلاف الخواء، والشبع خلاف الجوع. وثقافتنا الاجتماعية التقليدية عموما تدين الارتشاء والفساء والاثراء السريع وغير الشريف. ولكن اين هي القيم والتقاليد المتوارثة اليوم امام تجارة الدين والعولمة.
الامتلاء ليس ماديا، ليس المال ولا الطعام ولا الجاه، الذي خضع للاستسهال العام. انما الامتلاء الحقيقي هو ثروة العقل والفكر، الثقافة الراقية المقترنة بقيم خلقية انسانية.

(6)

الاخلاق والثقافة، الضمير والعقل، في ازمة اليوم.

ومن تراجعهما تنتج ازمة الذات وعقدة النقص.

من آثار زمن الانحطاط استشراء مظاهر الحسد والغيرة والنميمة والاغتياب، حتى صارت مقوما ومحركا رئيسا لحياة من يشعرون بالخواء والنقص امام غيرهم. وتتخذ تلك المشاعر انواعا مختلفة للتعبير: منها الاساءة المباشرة او الطعن والقدح او بخس قيمة الشخص او ادائه، وغير ذلك.
عندما تحدث الفلاسفة عن (الانسان الفاضل)، كان الاعتقاد ان يكون ذلك هو النسخة العامة والرائجة لانسان المستقبل، وتحقيق مجتمع انساني فاضل.

وعندما يستخدم النص الديني فكرة (الانسان البار)، فليس الغاية ان يكون مضربا للمثل ومادة الوعظ، فيما يتمادى الناس في شرورهم.

وعندما تحدث المعتزلة عن (الانسان الكامل)، كان ذلك تعبيرا عن تطلع انساني للأفضل وتحقيق الارتقاء فوق مستوى الغريزة والمادة المفسدة، والزبد الذي يذهب جفاء!.
الامتلاء هو التربية والتعليم والعمل الجاد، وهو القيم الفكرية والسلوكية التي تحصن الفرد ضد الخراب والخواء!.

* عندما اعدم زعيم حزب الشعب الباكستاني المحامي ذو الفقار علي بوتو اخر رئيس شرعي لباكستان الحرة، وشحت مجلة عربية تصدر في باريس غلافها بمانشيت عريض: (اعدم بوتو فليبك ٍ العالم)!.. والعالم منذ اعدامه مستمر في البكاء والنزيف والانهيار!..

موقف من العالم.. [6]

العالم والطريق..

في النصف الثاني من القرن المنصرم- العشرين- كان الطريق واضحا أمام شباب المنطقة، بل العالم اجمع. وقد استمرت ثنائية القومية والشيوعية، سمتين بارزتين للتيارات السياسية العاملة حتى انهيار تجربة الدولة الوطنية مع بدايات القرن الجديد.

لكنن اليوم نواجه أزمة فكرية سياسية عويصة، لعدم وجود/ وضوح ملامح طريق او رؤية جديدة تستجيب للحاجات المحلية والدولية. ومع ازدياد عدد الاحزاب والجماعات السياسية في العهد المتأخر، واستمر بعض الاحزاب الاقدم عهدا، فلم تطرح أي من تلك الجماعات فكرا جديدا او حتى خارطة طريق تبرر وجودها وتطعها لاستلام السلطة.

وعلى خلاف الغرب، إذ يتراجع عدد المنظرين الاكاديميين السياسيين في بلادنا، فالسياسي العربي لا يتابع الجهد الفكري للمنظرين، ولا يحترم اشخاصهم. وفي نفس الوقت تفتقد الاحزاب منظرين خاصين بها. بعبارة اوضح، ليست الاحزاب الجديدة غير اوعية وادوات لتمرير اجندة اقليمية ودولية. ولذلك تتراجع اوضاع البلدان وتزداد ترديا.

ثمة اشكاليتان فكريتان على صعيد المصطلح: ما المقصود بالعالم؟.. ما المقصود بالطريق؟..
العالم..

يختلف مفهوم -العالم- اليوم، عنه في القرن الماضي. يختلف جغرافيا، وسياسيا.
فمن الناحية الجغرافية، وسعت العولمة من مساحة العالم لتجعله وحدة واحدة على صعيد الاعلام، ووحدات متقاربة/ متداخلة، مؤثرة ومتاثرة ببعضها على صعد الاقتصاد والسياسة والامن.
كل ما يحدث في مكان، ينتقل لبلد اخر من غير حواجز او استثناءات. وهو امر لم يكن متاحا في السابق. فالاعلام الرأسمالي – الفضائيات والنت الاميركي- استحلت دور وزارات الاعلام الوطنية والمحلية. وسياسات البنك الدولي ومؤسسة النقد الدولي، تنوب عن وزارات التخطيط والاقتصاد الوطنية والمحلية. وتصريحات البيت الابيض الاميركي استحلت دور بيانات القيادة وخطابات الزعيم. وبعبارة اخرى، ليست حكومات اليوم غير اجهزة تنفيذية تستلم تعليماتها واوامرها من الخارج. بعبارة اخرى، ان (العالم) - اليوم- هو امبراطورية امبريالية تتزعمها الولايات المتحدة، وتقوم الدول والبلدان فيها، مقام الاقاليم والولايات التابعة. والتدخل الاميركي لتغيير الزعماء والحكومات، هو اجراء عادي يقوم به الامبراطور بتعديل اوضاع الاقاليم.

وفي ظل هذا النظام الامبراطوري – عمليا-، يتوجه ممثلو الحكومات والتيارات السياسية لسادة الابيض للحصول على دعم سياسي او اقتصادي او المصادقة على برامجها.
[عالم واحد، لا عالمان!]..

نتائج الحرب العالمية الثانية قصمت العالم الى عالمين، نظامين، تيارين، معسكرين: اشتراكي/ سوفيتي، وراسمالي/ اميركي. بين عامي [1989م، 1991م] التغى العالم الاشتراكي السوفيتي، وبقي العالم الراسمالي الاميركية، قوة وقطبا واحدا وحيدا لادارة العالم. وما نزال في هاته المرحلة.

وكان نصيب منطقة الشرق الاوسط – العربي والاسلامي- الاوفر والاسبق في حصد مكاسب ومساوئ التحولات الدولية. وفي خلال سنوات قليلة، تحولت المنطقة الى مستنفعات للفوضى والفساد والعنف والارهاب والتخلف وغياب عوامل ومناسيب الحياة الطبيعية وحقوق الانسان المنصوص عليها في الوثائق الدولية.

بدل التطلع للافضل/(الامل)، عليك التكيف والانسجام مع الاوضاع السائدة/(التسليم والخنوع)!.
في الماضي، كان الانسان المتطلع للتغيير، التيار السياسي، الشاعر الحالم بالافضل، يتوجه بخطابه وكفاحه تجاه حكومة بلده، ساميا او عنفيا. فكيف يتصرف هؤلاء اليوم عندما يفكرون بالتغيير او الخلاص؟.

في العالم الحالي الواحد، ليست البلدان واحدة ولا متكافئة من حيث الحقوق والواجبات والمكانة والامتيازات. وتلعب لائحة المعايير الاميركية دور الفيصل في تصنيف البلدان قارة عن قارة، لغة عن لغة، ديانة عن ديانة، وبلد عن بلد. وهكذا تكون مصر غير العراق، وليبيا غير سوريا، وتركيا غير ايران، والهند غير الباكستان، وسنغافوره غير ماليزيا.. الخ.

وبعد خريطة محور الشر الرباعية التي طرحها بوش الابن في التسعينيات، يطرح ترامب خريطة عزل سباعية. هذا التصنيف الاعلامي، يبين عدم اهلية سكان بلدان معينة من المشاركة المتكافئة في الحياة الدولية، اسوة بغيرها.

بعبارة اخرى، انها قائمة تهميش/ نفي. وكما تصنف فئات اجتماعية معينة في بعض الثقافات والبلدان، بوصفهم: عبيدا، منبوذين، وثنيين، مشركين، يتم تهميش بلدان محددة، وتمييزها في المعاملة والقبول والتبادل الدولي.

لن يتساءل احد، لماذا همش البيت الابيض العراق الجديد، وهو صنيعة يده، ونسج اصابعه!. وكذا هو الامر بالنسبة لبقية ضحايا الربيع العربي. واذا كانت اشكالية ترامب مع سياسات سابقيه، بضمنهم حزبه الجمهوري، فلماذا يعاقب بلدان خارجية، تعبت مجتمعاتها من اثار الصراعات الدولية والمحلية.

فالسياسي او المفكر او الشاعر الوطني المنشغل بهموم شعبه، يحتاج، وهو يفكر في وضع برنامج للخلاص او الادارة البديلة، ان يأخذ بنظر الاعتبار، الى جانب الاعتبارات والتفاصيل المحلية الوطنية، والظروف والامكانيات والاحتمالات الاقليمية، العناية والتحلي برؤية شمولية واسعة للاوضاع الدولية، وفي مقدمتها اليات القرار والتفكير في الولايات المتحدة الاميركية والمعسكر الغربي الراسمالي.

هذا التداخل المحلي الاقليمي الدولي، ليس موجبا فقط، وانما له اثاره وانعكاساته السلبية، في اصغر مجريات الحياة اليومية في أي بلد كالعراق او سوريا او مصر. فالعولمة، عقدت مجال الحركة والفعالية.

وعندما تتصرف كل جهة بحسب حجمها ووزنها، فالمحلي يضيع - بين الرجلين- كما يقول المثل. ومن الصعب توقع وجود/ ظهور شخصية/ قوة ذات وزن شعبي استثنائي، تكون الاغلبية دعامتها وظهيرها في سحب البساط من تحت اللاعبين وتغيير قواعد اللعبة السياسية في البلاد، كما حصل في مصر [يونيو 2013م].

الطريق..


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى