الأربعاء ٢٢ آذار (مارس) ٢٠١٧
بقلم جورج سلوم

الطبيب العاشق

حذّرني الجميع من التعرّف عليها..ونعتوها بالفجور والفسق..وقالوا إنها رخيصة!

قلت: لقد عرفتها في المشفى كمريضة فقط.

حتى الممرّضات كنّ يتغامزنَ عندما راجعتني لإعادة الكشف وإجراء التحاليل المخبرية..وقالت إحداهنّ:

لقد وقعتْ فلن تحلّ عنك حتى تقعَ في شباكها.

لم أجدْ فيها شيئاً يميّزها عن أيّ مريضة..صحيح أنها جذابة لكنها محتشمة اللباس لطيفة التعامل.. في صوتها بُحّة مستحبّة..وتعلوها دائماً ابتسامةٌ صفراء...

لم أتدخّل في وضعها الاجتماعي أثناء الاستجواب...إنها ثلاثينية وغالباً ستكون زوجة ً وأمّاً..كأيّ امرأةٍ في مجتمعنا بهذا العمر...

تحمل كيساً غصّ بالوصفات الطبية والصور الشعاعية...أما الشكوى المرضية فمتداخلة تنمّ عن مرضٍ مختلطٍ بين العديد من الاختصاصات...وبسبب الحذر في التعاملِ معها قلت:

من الأفضل أن تراجعي مشفى الجامعة لإجراء دراسةٍ مستفيضة لحالتكِ.

فاجأتني بجوابٍ:

أنتَ تهربُ مني.

قلت: في الحقيقة نعمْ..فأنا لا أحبّ المشاكل.

شكرتني وأصرّت أن تدفع ثمن المعاينة رغم رفضي الشديد لذلك..وقالت إحدى الممرضات:
هنيئاً لكَ...(خَلُصْتَ منها)

ومضت أيامٌ طويلة..وجاءني اتصال ٌ هاتفي..عرفت صوتها ذي البحّة المميّزة:

أنا متعبةٌ يا دكتور..لم أستفدْ على الدواء..

تظاهرتُ بنسيان حالتها..ثم قلت:

ألم تذهبي إلى مشفى الجامعة...علاجكِ ليس من اختصاصي.

أجابت: لم أجد الشفاء عند أحد ْ

شعرتُ بسعادة مخلوطةٍ بالغرور كأيّ طبيبٍ يظنّ أنّ الله لم يخلق غيره لشفاء الناس..قلت:
دعيني أراكِ غداً.

أعترفُ بأنني انتظرتها في المشفى..وترقّبت قدومها..

حضورها يجذب الأنظار بالرّغم من سحنتها الشاحبة وابتسامتها الصفراء..تذكّرتُ قسمَ أبو قراط وعدتُ لشخصية الطبيب.(طبيبٌ أنا فقط ولستُ ذكراً وهي مريضة فقط وليست أنثى)!!...

وفضّلت الهروبْ:

يا سيدتي علاجك ليس عندي

قالت:

أنت وغيرك من الأطباء متشابهون... كلّكم تهربون.

أعادتني إلى حجمي الحقيقي عندما ساوتني بالآخرين..فكان لا بدّ من الهجوم عليها:
طبعاً نهرب..من سمعتك السيئة..

قالت وقد اغرورقت عيناها بالدموع:

أنتم قضاة أم أطباء؟..أنتم رجال دين أم معالجين للأمراض؟..ما دخلكم بماضيّ وحياتي الخاصة..أم أنّ المطلّقة لاتمرضْ ؟أنتم تهربون من ضعفكم وشهواتكم..ولو لبستم ثياب الأطباء تبقون رجالاً وذكوراً تسوقكم غريزتكم الحيوانية.

تدخّلت الممرضة بشكلٍ مفاجئ ساخرةً:

أما حذّرتكَ منها..ستُعطينا الآن محاضرة في الأخلاق..مثلما فعلت مع زملائك..

خرجَتْ منكسرةً...وتركتني متأثراً بكلامها مقتنعاً بصوابه لكن لابدّ من المحافظة على الرأي العام..قلت للممرضة:

مجتمعنا قاس ٍ...فمن منا بلا خطيئة؟

مضت فترةٌ طويلة لم أسمع صوتها المميّز..ونسيتها في زحمة الحياة..وفي إحدى الليالي استُدعيتُ بشكلٍ إسعافي لغرفة العمليات..عدة طعنات في الجانب الأيمن من العنق..نزفٌ غزير...ودماء تغطي الصدر..للأسف كانت (هي) ومحاولة انتحار..ولحسن الحظ لم تمُتْ..وكُتبتْ لها الحياة..لكن غابَ صوتها المميّز..كإختلاطٍ جراحي..وفي اليوم الثاني زرتها في سريرها..مازالت ابتسامتها الصفراء المُبهمة..لكنْ لم أجرؤ على النظر في عينيها الحزينتين..و أعترفُ بأنّ خفقَ رموشها كان يثيرُ خفقانِ قلبي!

قالت الممرضة:

لو ماتت أفضل (كنا خلصنا منها)

قلت: مجتمعنا قاس ٍ...فمن منا بلا خطيئة؟


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى