الجمعة ٣١ آذار (مارس) ٢٠١٧
مؤشرات الحيازة الجمالية في
بقلم عصام شرتح

قصائد محمد علي شمس الدين

لا شك في أنه لتقييم أي منتج إبداعي فني تقييماً جمالياً دقيقاً أو حساساً لا بد وأن يستحوذ هذا المنتج على قيمة جمالية معينة تخوله لأن يقع تحت مجس التقييم الجمالي لاستكناه قيمة الجمالية، ومؤثراته الإبداعية وإلا لن تؤتي هذه العملية ثمارها الإبداعية اليانعة، لأنه من الضروري جداً للمنتج الإبداعي عموماً أن يستحوذ على عدد من القيم الجمالية حتى يرتقي إلى سلم الروز الجمالي المحكم، والتقييم لجمالي المؤثر، فكم من المنتجات الإبداعية تبقى حبيسة في أقماطها، ورهينة في أدراجها، لأنها لم تستطع أن تستل المؤثرات الجمالية وتخيط عباءة خلودها وسحرها جمالياً، أو لأنها جافة أو عقيمة في قيمتها الجمالية، أو أن قيمتها الجمالية شديدة الاستقصاء والتأبي على المتلقي، مما يجعلها في منأى عن تناول مقاييس الجمالية، فيبقى المنتج الإبداعي حبيس ذاته و رهين غموضه وتعقيده فنياً، ولهذا نقول: إن الحيازة الجمالية شرط جوهري ورئيس في كل منتج إبداعي مؤثر، فما لا قيمة جمالية له بالتأكيد لا قيمة إبداعية ولا فنية له على الإطلاق. ولهذا، يرى الكثير من النقاد الجماليين أن الشعر ليستحوذ على مصدر جماليته يتوجب عليه أن يتخلص من وظيفته النثرية التي كان عليها قبل أن يدخل في الحيز الشعري، وهذا ما أشار إليه جان برتليمي بقوله:" إن مهمة الشعر نزع الكلمات من مهمتها السطحية، والتخلص من معانيها التقليدية التي تفهم بحكم الأداة، وتجنب فخاخ الحديث المنطقي. والاستناد إلى اللغة الشائعة لتعديها إلى ما بعدها... فإذا كان الشاعر يتحكم في الكلمات بطريقة تختلف عن تلك التي نستخدمها في الحياة العادية، والاحتجاج فذلك لكي يقف في وجه الاتجاه النثري للقارئ". وبهذا التصور، فإن الحيازة الجمالية للمنتج الشعري ليست في محايثته لغة الواقع، وإنما بالارتقاء بها إلى حيز جمالي مؤثر، وتبعاً لهذا، لا يتأتى الحكم الجمالي المحكم إلا على النص المبدع الذي يستحوذ على أعلى درجات الخصوبة، والإثارة، والإمتاع الجمالي، يقول نذير العظمة:" إن أبرز ما يشدني ويعجبني التعبير عن تجربة إنسانية بصدق، فالتجربة الإنسانية الصادقة هي التي تعجبني وتحفزني للإبداع.. على الصناعة أن تخدم الفطرة... وأي قصيدة تقوم على الصناعة فحسب، هي قصيدة خاسرة لا محالة.. وأي قصيدة تتغرب عن الفطرة ليس لها محل في عالم الإبداع.. هذا في الشعر الوجداني أو الغنائي أما في الشعر الملحمي والقصصي فله شأن آخر. تكون الصناعة فيه على قدر الفطرة.. بل إن الصناعة في الفنون الشعرية الملحمية والقصصية،تنهض بالفطرة إلى المستوى الإنساني".

والسؤال المطروح أمامنا على خارطة التداول النقدي.. هل الحيازة الجمالية للمنتج الإبداعي كفيلة بأن تحقق عنصر الفن في المنتج الإبداعي ذاته؟ وهل غياب الحيازة الجمالية عنه يعني غياب الفن عن المنتج الإبداعي؟! ما معيار الفنية في المنتج الإبداعي؟! وما معيار الجمالية؟!
وهل ثمة اختلاف بين الفنية/ والجمالية في المنتج الإبداعي؟ وهل حيازة المنتج الإبداعي على قيم جمالية عديدة يخلده كمنتج فني مؤثر؟!

إن كل هذه الأسئلة وأسئلة أخرى عديدة مفتوحة تؤكد أن علم الجمال وعلم الفن كلاهما يصبان في مصب واحد، أو ينضحان من وعاء واحد، لكن ما ينبغي الإشارة إليه: أن المنتج الإبداعي لا يكون فنياً إن لم يستحوذ على قيم جمالية مؤثرة، ومنتوج إبداعي جمالي مؤثر، ولن تسمو هذه الجمالية إلا بتفاعل المتلقي مع المنتج الإبداعي تفاعلاً جمالياً إبداعياً متقناً، بحيث تأتي القيم الجمالية وليدة تفاعل جمالي مع المنتج، وليس وليدة جمالية/ المنتج فحسب، وهذه المعادلة ينبغي على الناقد الجمالي أن يعيها وهي أن الشيء الجميل ليس بقيمه فحسب، وإنما بمكتشفاته الجمالية، والإسقاطات الإيحائية التي يضفيها المتلقي المبدع على المنتج الجميل، فالجمال ليس سكوتاً، ولا يؤمن بالسكوتية أو القيم الثابتة على الإطلاق، إنه متغير جمالياً بتغير الأذواق والرؤى، والمؤثرات الأخرى، ولهذا، لا يمكن وضع معايير جمالية ثابتة على كل منتج فني، فكم من الفنون الجمالية تكمن جماليتها ليست بالتكامل والانتظام، وإنما بالفوضى والعبثية والتجريدية، في حين أن الكثير من الفنون تفقد جماليتها في الانتظام والثبات، والسكونية، وهذا يدلنا على أن الجمالية قيم متوالدة على الدوام، ومتغايرة باستمرار، ولهذا، فإن مصطلح الشعرية يقابل مصطلح الجمالية، إذ إن كليهما يصعب تحديده أو الإحاطة به، أو تكوين مفهوم ثابت محدد حيالهما، وللتدليل على ذلك نأخذ قول الشاعر فؤاد كحل إزاء رؤيته للشاعر المبدع، والشاعر المجيد، إذ يقول:"المجيد مجيد، إذا كان شاعراً بحق، سواء أكان جدلياً أو إشكالياً، فلا قرارات مسبقة على القصيدة، ولا على روح الشاعر، ولا على طريقه بوجه... على أن يخلص للفنية قبل كل شيء، لأن الحالتين قد تخطئان إن ابتعدنا عن حديقة الأزهار الشعري. وبهذا تقعان إما في برودة الأفكار، أو في شعوذة التجريدية التي تهدر ذاتها على فراغ.. والشاعر المجيد هو الذي يخلص لروحه، وصدق مشاعره، ويمنح ذاته حرية لا حدود لها. بحيث يتخلص من العرف المسبق الذي يضغط على قلبه وأبجديته. أما التأثر فمن الصعب يحدي ينابيعه بسهولة، لأن مجمل التجربة الشعرية الإنسانية الممتدة إلى ما قبل "جلجامش" وغيرها مروراً بكل الإبداع الشعري للبشر جميعاً، وخاصة الشعر العربي منذ "امرئ القيس"، وحتى آخر شاعر صديق لها دور كبير في التأثير على تكوين ومكونات الشاعر اليقظ، وكل شاعر يضع أمامي نصاً جميلاً يؤثر بي ، ويشعرني بسعادة لا نهاية لها".

ولذلك، فالمنتج الإبداعي المؤثر هو الذي يستحوذ على قيم جمالية متوالدة باستمرار، ويولدها المتلقي باستمرار كذلك، ولا يقف الموضوع الجمالي إطلاقاً على قيم جمالية ثابتة، ولهذا، يصعب تعريفه أو تحديد مقاييسه بالقيم المعيارية الدقيقة، يقول الشاعر عبد الكريم الناعم:" إن الجمال ذاته لا يمكن تعريفه، بل هو شيء نحس به، نعيشه، يلفتنا، يدهشنا، يحملنا إلى حالة من الغبطة الداخلية، فكيف نعرف ما نعجز عن تعريفه، أما المعايير الجمالية للحكم على قصيدة، بالنسبة لي فهي تلك الروح النابضة في النص، والتي تثير فيها رعشة داخلية، ثمة قصائد لشعراء، حين تقرأها تعثر فيها على الصورة، والخيال، وربما اللغة المتخيرة، ولكنك تخرج منها دون أن تثير في داخلك ذلك الانفعال، وهذا ينطبق على الشعر العربي، منذ امرئ القيس، وحتى الآن ولا شك أنا نكون أقدر على الكتابة عن القصيدة التي تهزنا وتحمل إلينا تويجات ما استكنته".
وبهذا التصور، فإن الموضوع الجمالي هو الذي يستحوذ على حساسية جمالية، وقيم جمالية تبقى في تناغم دائم وتولد مستمر، ولن يرقى الموضوع الجمالي إلى مصافي الإبداع الحقيقي المؤثر، إلا حين تستثير حساسية المتلقي، لدفعه قيماً جمالية باستمرار، تجعله في توالد مستمر، رغم تقادم الأزمنة واختلاف التصور، ولهذا نلحظ تداخل الفنون مع بعضها بعضاً، للاغتناء بتقنيات جديدة، تمنح الفنون تخصيباً جمالياً ومتعة دائمة على الدوام، تقول الناقدة بشرى البستاني:" إذا كان الفيثاغورسيون قد عدوا الموسيقى، انسجاماً للأعداد الكونية لعلاقتها بالرياضيات فإن زمنية الشعر قائمة في موسيقاها وإيقاعها على هذا الأساس الرياضي ذاته، لا شعر بلا موسيقى. فموسيقا الشعر هي في تحضره وامتيازه على النثر، ولا شعر بلا رسم، فالشعر- حسب(سي دي لويس): هو رسم قوامه الكلمات المشحونة بالعاطفة والمشاعر، والصورة الشعرية هي الرسم المؤدى بالكلمات بدل الألوان، فللغة قدرتها التعبيرية بالصورة والحركة معاً، وسيلتها في ذلك قدرة الأسماء على التصوير كون مدلولاتها ذهنية، وليست هي الأعيان الخارجية، مما يوسع أفق القراءة، ويعدد الدلالات، وقدرة الأفعال على الحركية، وتلوين الوقائع، وما يعزز التشكيل من روابط".

وبهذا التصور، فإن اغتناء الفنون بالاقتراض التقني من فنون أخرى يسهم في تفعيل الفنون جمالياً، بتقنيات وقيم جمالية جديدة، تجعل الفنون في توالد تقني على الدوام، وحيازة جمالية باستمرار، وهذا هو مصدر غنى الفنون واستمرارها وتجددها دائماً.

وأعود لأقول: إن الحيازة الجمالية هي محك المنتج الإبداعي الحقيقي، ولن يرقى هذا المنتج إلا بالروح الوثابة التي ترتقي به. وذلك عن طريق المتلقي الجمالي المبدع الذي يستظهر الفن الجمالي، بعمق وخصوصية إبداعية مؤثرة، يقول الناقد والشاعر فائز العراقي في تعريفه للجمال:"الجمال هو التناسق المدهش القادر على أخذك إلى لحظة لا تشبه اللحظات الأخرى، لحظة تشعرك بنشوة عارمة تجعلك تتماهى مع الوجود، وتوقظ فيك الرغبة العارمة بحب الحياة وعشقها، إنها اللحظة الشبيهة بالأبد".

ولهذا أكد في موضع آخر مقولته في الأدب والفن قائلاً:" الفن والأدب في أحد أهدافه الكبرى هو تحايل والتفاف على الموت، لأنه يحقق لنا نسبياً إمكانية الخلود، ولكن إلى أي مدى؟".

وبناء على هذا، فالفن الجمالي ليس من خصوصيته الإشعاع الجمالي المباشر، بقدر ما من خصوصيته الجوهرية الجمال المشع الذي يضفي دهشة جمالية على موضوعه الجمالي، بحيازة جمالية تتنامى تدريجياً مع كل لحظة تلقي جمالي لهذا المنتج من قريب أو من بعيد، ولهذا، يبقى الموضوع الجمالي مفتوحاً، وتبقى قابليته للتقييم الجمالي متنامية على الدوام، لهذا يبقى المنتج الفني المثير جمالياً، هو الذي يستثير المتلقي بفاعلية جمالية مثيرة، يقول فؤاد كحل:" كل إنجاز يمنح فرحاً كبيراً، لكن الإنجاز الفني يمنح فرحاً كبيراً، لكن الانجاز الفني يمنح فرحاً استثنائياً، لأن الإبداع الروحي عمل استثنائي لمخيلة البشرية ، وكم يصعب شرح حالة السعادة التي تغمر الروح، حتى لتختلط الأشياء بين الفرح العارم والحزن الشفيف، بين النشوة المفاجئة والاعتزاز بسمو لم يخطر ببالك يومياً.. أو لم يخطئ من قال: في الشعر شيء من النبوءة.. أية سعادة تعادل سعادة من كان في أعماقه بركان، فتحول على يديه إلى حقل من القرنفل! أما إذا حلقت الطيور جيداً أو طوت أجنحتها الآفاق، والتقت بقلوب تنتظرها فهذي هي السعادة الكبرى، لأننا لا نبدع الورد ولا أعيننا، بل لمن هم حولنا أيضاً".

وبهذا التصور، فإن الفن هو حيازة جمالية للمنتج الفني، وبقدر حيازته للقيم الجمالية واستحواذه على مؤثرات ومحفزات بقدر ما يرتقي المنتج الفني، وتزداد فاعليته، يقول جان برتليمي:" اللذة لا تسلبنا من هذا العالم إلا لتكشف لنا عن عالم آخر". وهذا دليل على أن المنتج الإبداعي فاعلية جمالية ترتقي بخصوبة المنتج جمالياً والارتقاء بمنظوراته الإبداعية. ولذلك تعد الحيازة الجمالية ملازمة للفنون الإبداعية ، ولا غنى لأي فن عظيم عن حيازة جمالية راقية أو أسلوب جمالي مثير.
ومن يدقق في قصائد (محمد علي شمس الدين) لاسيما في ديوانه (منازل النرد) يلحظ حيازتها للإثارة الشعرية ،واللذة الجمالية شكلاً ومحتوىً،وهذا يدلنا على أن الشعرية اليوم شعرية متكاملة في منحاها وأسلوبها،وحيازتها الجمالية، فالشاعر محمد علي شمس الدين يؤسس شعريته على بلاغتين مهمتين: (بلاغة في الرؤيا) و(بلاغة في التشكيل)، ومن خلال هاتين البلاغتين ارتقت القصيدة لديه إلى قمة الإثارة واللذة الجمالية، ولعل أبرز مؤشرات الحيازة الجمالية لهذه الأنساق هي:

الفهم الجمالي:

إن الفهم الجمالي هو الإفراز لطبيعي لمسألة الإحساس الجمالي، فالإحساس الجمالي هو شعور نفسي مركب، مؤسس على الاستحسان أو الاستهجان إزاء العمل الفني المنجز، أي مؤسس على التأثر بالمنتج الجمالي والتأثر بمردوده الإيحائي الذي ينبني على وعي إبداعي خلاق وفهم جملي لمحتواه، وجوهره الفني، يقول(ت. س. إليوت):"إن قوة العمل الفني تعتمد على قوة الديناميكية الداخلية التي تولده، ونقصد قوة الخاصية الفنية".

وهذه القوة الديناميكية هي القوة الدافعة للعمل الفني، وهي التي تستثير المتلقي لتحثث المنتج الإبداعي، بإمعان وفهم عميق، وبقدر ما يتم إنجاز المنتج الفني بآلية منظمة، يزداد فهمه جمالياً، وتحثثه إبداعياً، فالمبدع المخلص لفنه هو الذي يوظف طاقاته الإبداعية كلها، لخلق الاستثارة في منتجه الفني، يقول بودلير فيما معناه:" إن العمل الفني الذي يتم تنفيذه بكل إخلاص يدفع بجذوره إلى أعمق أعماق الإنسان، بل ويذهب ليرسخ في لا شعوره". بمعنى أنه يسكن في قلب متلقيه، ومحايثته لدواخله الشعورية واللاشعورية ومن هذا المنطلق، فإن فاعلية المنتج الجمالي تتحدد بمقدار الفهم الجمالي لهذا المنتج من قبل شريحة كبرى من جمهور المتلقين، وبهذا المقترب تتأسس حساسية الفهم الجمالي على العبقريية الإبداعية التي تتفتق من رحم المتناقضات ، يقول بروست:" إن العبقرية تتفجر بقوة فوق أكوام الرذيلة".

وهذا القول يناقض أصحاب النظريات الجمالية التي تربط الجمال بالقيم، والفضائل، والمثل، والتي غالباً ما تربط الجمال بالقيم الأخلاقية فترى أن الجمال منتوج روحي يرتبط بالفضيلة والمثل العليا، بحجة أن الجمال لا يحدث أثره الفاعل ولا يخلد كفن إبداعي إلا حين يرتبط بالجوهر أو يلامس الجوهر الإنساني النبيل، وهناك من وقف موقف النقيض، ففصل الأخلاق والمثل والقيم عن الفن، وذهب أبعد من ذلك، ومنهم (برونير) الذي يقول:" إني أحدثك عن الفن العظيم.. عن أعظم الفنون، وأقول إن هناك جرثومة لا أخلاقية تنمو دائماً في الفن العظيم، إلى أن هذه اللاأخلاقية (موجودة في قلب مبدأ الفن ذاته)".

إن هذا القول ينفي فكرة المثل والقيم في العمل الإبداعي الأصيل، ويرى أن الفن الجميل هو الفن الذي يتضمن بذرة اللاأخلاقية، أو الذي ينافي القيم والمثل والأخلاق، بحجة أن الفن شيء والمثل والقيم شيء آخر لا علاقة له بالفن لا من قريب ولا من بعيد، وليس ذلك فحسب، بل ليس الفن مطالباً بالمنفعة، ولن يخسر الفن شيئاً إن لم يحقق المتعة، وبهذا الخصوص يقول برتليمي:" إن العمل الفني العظيم لا يدين بجماله لنفعيته ، فهو يمكن أن يكون على نفس الدرجة من الفعالية إن نقص جماله درجة".

وهذا يعني، بالتأكيد انفصال لغة الفن، أو قيمة الفن عن منفعته، فالفن منتج لا نفعي، ولا يرتبط إطلاقاً بنفعيته، وإنما يرتبط بشكل جوهري في عرف الفن ومفهوم علم الجمال، يقول كوديل:" إن العمل الفني الجميل، وبصفته الجمالية هذه عملاً موهوباً قام به صاحبه من أجل القيام به، ومن أجل الجمال فحسب، فالقصيدة الشعرية واللوحة والتمثال والسيمفونية عديمة النفعية عملياً".
وما هو مقصود بعدم نفعيته هو عدم نفعيته كمادة، وليس كقيمة جمالية أو إبداعية، فما هو إبداعي أو فني لا يقاس بنفعيته، وإنما بمدى سموقه فنياً، ومنتوجاً إبداعياً جمالياً، وبقدر ارتفاع القيم الجمالية ترتفع قيمة الفن، وترتقي أسهمه الإبداعية.

وما من شك في أن الفهم الجمالي هو القيمة الجمالية العليا في تقيم المنتج الفني، والكشف عن خواصه ومؤثراته، ومحفزاته في المتلقي، وهنا، يختلف الفن كقيمة إبداعية جوهرية عظمى عنه كمظهر إبداعي مادي ليس إلا . وتبعاً لهذا، تختلف درجة الفهم الجمالي أو الوعي الجمالي بالمنتج الإبداعي كمظهر خارجي، أو كمنتوج إبداعي جوهري عميق، يقول برتليمي:" إن ظواهرية الفن هي وصف التجربة الجمالية. أما فلسفة الفن فهي التفكير في هذه التجربة بقصد تحديد طبيعتها ومعناها قدر المستطاع".

وتبعاً لهذا تختلف درجة الوعي الجمالي، أو الفهم الجمالي، في تقييم المنتج الفني من شخص لآخر، تبعاً للمهارة الجمالية أو الخبرة الجمالية المكتسبة، وعملية الفهم الجمالي هذه ليست عملية شكلية.. إنها لا تصف المنتج الفني وصفاً خارجياً، وإنما تدخل في جوهره الإبداعي، ومحك إشراقه جمالياً، فالفنان لا يفكر كثيراً بمنتجه الإبداعي، لأن التفكير لا يرفع سوية العمل الفني جمالياً، فالذي يرفعه الأسلوب، والطريقة والدهشة التشكيلية التي تنظمه إبداعياً، ولذلك، فقد قيل:" إن كبار الفنانين لا يفكرون إلا قليلاً جداً، وحتى كبار الشعراء كذلك".

وهذا يعني أن المنتج الإبداعي الفني ليس أعمال تفكير، بقدر ما هو خلق وابتكار، وتوليد لحظة شعورية انفعالية (لحظة إبداعية)، وإحساس جمالي ضاغط أثار المبدع فألهمه منتجه الفني، ولهذا، لا قيمة للمدرك الجمالي أو الوعي الجمالي إذا لم يكن المنتج الفني مثيراً للمشاعر ومفجراً للأحاسيس. والمبدع لا يمتاز عن غيره سوى بموهبة المشاعر، والترجمة الجمالية في التعبير عنها، أي الشعور بما لا يشعر به الإنسان العادي، أو يحس به، يقول جان برتليمي:" إن الفنان لا يفعل إلا أن يعبر بريشته ، أو قلمه، أو مقصه عن سعادته، وآلامه وغضبه، وحبه كرجل، وهو يتميز عن الرجل العادي بموهبة المشاعر".

ولذلك، فإن عملية الفهم الجمالي ترتبط بحركة المشاعر، فما هو غير مثير ولا مؤثر جمالياً لا يمكن تقبله وفهمه جمالياً، ولذلك فمسألة الفهم الجمالي تبقى مسألة حساسية، وهي نسبية فردانية تختلف من شخص إلى آخر، تبعاً للمظهر التفاعلي للمنتج الفني من حيث إشعاعه ودفقه الروحي، ومقدار التكثيف العاطفي الذي تتضمنه، والمحفزات الجمالية التي تستثيرها في بنيته ومحتواه الداخلي، وبقدر المهارة والخبرة الجمالية في تلقي المنتج الفني تزداد درجة الفهم الجمالي وقابلية المنتج، وكشف مخزونه جمالياً، ونبضاً إيحائياً، وهذا بالتأكيد يتوقف على المهارة، والخبرة الجمالية التي يملكها المتلقي في تقييم المنتج، وكشف علائقه وخفاياه الفنية".

ولعل أبرز ما يحرك الجمالية في قصائد محمد علي شمس الدين الفهم الجمالي في تشكيل الأنساق البليغة وإصابة المعاني العميقة، فالشاعر يملك أقصى درجات الاستثارة والتأثير، والحنكة الجمالية في الوقوف على النسق اللغوي المبتكر والمعنى العميق، على شاكلة قوله التالي:

"إنهم هكذا رحلوا
ثم عادوا
على
متن
قوس
النخيل
ليس للخبز
لكنما
للرحيل ..
كأن المنافي إقامتهم
في الزمان البخيل ... "(19).

بادئ ذي بدء، نقول: إن الفهم الجمالي من مؤشرات الحيازة الجمالية –في قصائد محمد علي شمس الدين- التي تتأسس على وعي لغوي في التشكيل والخلق الشعري، فالقصيدة – لديه- تتأسس على المعنى العميق والرؤية البليغة،والشكل اللغوي الجذاب من حيث التنظيم والتكامل والتضافر النصي، وهذا كلها من مؤشرات الحيازة الجمالية، التي تؤدي إلى الفهم الجمالي.
وبتدقيقنا- في المقتطف الشعري- نلحظ أن شعرية الرؤيا تتأسس على المعنى العميق،وهو الدلالة على الاغتراب والحرقة والنفي والتشرد، فالصورة تشير بذاتها على دلالتها ورؤيتها العميقة،وأسلوبها الجمالي من حيث بداعة الرؤية وعمق التعبير،كما في قوله:[ كأن المنافي إقامتهم في الزمان البخيل] ...، وهذا الأسلوب الجمالي عبر عنه بالصورة البليغة بداية["إنهم هكذا رحلوا ثم عادوا على متن قوس النخيل]،ثم ركز مؤشرات الدلالة على عمق الرؤية، في الدلالة على المقصود، وهو النفي والاغتراب.

وما ينبغي الإشارة إليه أن الفهم الجمالي قيمة جمالية مؤثرة في توجية استراتيجية الرؤية في قصائد محمد علي شمس الدين، فهي موجهة بعناية صوب الدلالة البليغة والمعنى العميق،أي أن القصيدة لديه، ليست سكونية الدلالة، أو عبثية الدلالة،وإنما هي بعث للدلالات المبتكرة التي تكثف من موحيات الرؤية،وتسهم بشكل مباشر في تعضيد شعرية القصيدة، على شاكلة قوله:

"أنا الخاسر الأبدي
فلماذا إذن
أشتري بالمواعيد
هذي الحياة ؟
قلت تأتين في الثامنة
و ها عقربان
يدوران حولي
ولا يقفان
عقربان يدوران في معصمي
يلدغان دمي
ولا يقفان
كأن لم تكن ثامنة
في الزمان ."(20).

لابد من الإشارة بداية إلى أن الفهم الجمالي - في قصائد محمد علي شمس الدين- يتأسس على وعي مؤثرات الحدث والرؤية ،والدلالة العميقة، فليست القصيدة لديه لحظية آنية،إنما هي منظمة بعلائق ورؤى ودلالات مخصوصة بعناية، وهذا ما نستشفه من خلال العلائق اللغوية المؤثرة،والتنظيم الرؤيوي الدقيق لحركة الأنساق،ومؤشراتها الفاعلة في القصيدة، وهذا يدلنا على أن شعرية الأنساق اللغوية شعرية فاعلة في استجرار الدلالات العميقة والمعنى البعيد، فالشاعر -هنا- يرسم الحالة الشعورية بوعي مقصدي،وإحساس جمالي مؤثر، فهو يرصد إحساسه المترامي إزاء الموعد العاطفي الذي ينتظره ممن يحب، فيشعر أن هذا الموعد كاذب، فلن تأتي المحبوبة،وهو مازال متعلقاً بالأمل تحدوه رغبة عارمة في الترقب والانتظار، لكنه سرعان ما يشعر بالأسى والخسران لأن الموعد راح جذافاً ،ولم تظهر الحبيبة،وكأن عقارب الساعة تمص دمه حسرة وأسى في الترقب والأمل اليائس المتقطع، وهكذا جاءت الصور راصدة بدقة مشاعره اليائسة وإحساسه الشعوري المترامي بالأسى ،والانكسار والخيبة المريرة التي يعانيها في واقعه وحياته العاطفية.

وما ينبغي التأكيد عليه أن مسألة الفهم الجمالي في قصائد محمد علي شمس الدين تتعلق بالوعي الجمالي الذي يملكه الشاعر في صوغ التراكيب، وتحميلها من الرؤى والدلالات ما يجعل القارئ يدرك بوضوح المخزون الفكري الجمالي في التشكيل، والقدرة البليغة على إصابة المعنى العميق، والرؤية الفنية منذ مطالعته الأولى لقصائده، وهذا ما يدلل عليه قوله:

"أفتح في جسدي
بابا يفضي للبحر
أفتح في البحر طريقاً
لا يرجعني
أفتح في بيتي
حانة أقداري
أفتح نحو السرطان
مداري
أفتح في طيبة
شمساً سوداء
أفتح خمس مدائن
في الصحراء
أفتح نحو سمرقند النايات
أفتح بابا مجهولا
خلف الأبواب
افتح في الكوفة
باب المحراب
أفتح في المحراب طريقاً
يصعد بي نحو الجنة
أحفر في الجنة سرداباً
يهبط بي نحو النار
احفر في النار طريقا
يدفعني نحو الأنثى
أفتح في جسد الأنثى
بابا يفضي للملكوت
أفتح في ملكوت الله الواحد
بابا للتكرار "(21).

لابد من الإشارة إلى أن الفهم الجمالي- في تشكيل بنية القصيدة في قصائد محمد علي شمس الدين يظهر في مستتبعات الرؤية، وما تمثله من انحراف في الفكر والدلالة في آن معاً، فالقصيدة- لديه- ليست وعاءً للمعنى، أو أداة تشكيلية محضة، إنها فاعلية رؤيا وقيمة جمالية وفهم معرفي جمالي يؤدي إلى تخليق المعنى العميق، والدلالة المستعصية، وهذا يدلنا على أن مؤثرات الفهم الجمالي تظهر في هذا الأسلوب، أو ذاك، تبعاً لمرجعية الرؤية، وفاعلية الدلالة المحفزة للنسق.

واللافت للنظر- في النص الشعري السابق- قدرة الشاعر على تتبع مسارات الرؤيا جمالياً في النسق، وهذه المسارات تبدأ من أول جملة، فكل جملة تتضمن رؤية،وكل رؤية تنطوي على دلالة، لتصب في محرق جمالي واحد:[ أفتح في المحراب طريقاً /يصعد بي نحو الجنة/ أحفر في الجنة سرداباً/يهبط بي نحو النار]، وهذه الدلالات الجدلية تدلل على منحى رؤيوي جدلي، يركز على باطن الدلالات، مما يرفع وتيرة الحدث والرؤيا المجسدة، ووفق هذا التصور، فإن ما يحرك الجمالية في هذه القصيدة تلوين الدلالات لتصب في دائرة الفكر الجدلي والملكوت الذي يقود إلى الحقيقة الجوهر، فالقصيدة تطرح رؤيتها الجدلية المحفزة للقارئ، مما يدل على حركة جمالية في تشكيل الأنساق المراوغة في دلالاتها ورؤاها المفتوحة، وهذا ينمي الدلالات، ويستثير جماليتها، محركاً آفاقها الرؤيوية، وكأن ثمة مرجعية جمالية في اختيار النسق، و إثارة فواعله الخصبة، مما يدل على خصوبة في الرؤيا، ومحفزاتها الجمالية.

وما ينبغي الإشارة إليه أن الفهم الجمالي- من مغريات القصيدة- عند محمد علي شمس الدين لاسيما عندما تطال الصور والبنى اللغوية المحركة للشعرية، مما يدل على فواعل الرؤيا الجمالية ومحركاتها النشطة التي تزيد الاستثارة والجمالية على شاكلة قوله:

"يا حادي العيس
أنا خوف الخائف
وبهاء القلب العاري في الموت
وجمال رجاء المحرومين
سأضم دمي في آخر هذا الليل
وأسأله :
ماذا أفعل ؟
عربات يهوذا
تنزل من صوب التوراة
وتجرف آخر أطفالي
ستمر على صدري
أقدام الجند
وأحذية البدو الرحل
ويباع ردائي "(22).

هنا، يباغتنا الشاعر في فهمه الجمالي وتركيزه الفاعل للأنساق الشعرية التي تتضمن مختلف المثيرات الجمالية ،من صور ودلالات، واستعارات،ومعانٍ دلالية تصب في محرق واحد هو الحرقة والاغتراب، لدرجة يمكن أن نسم قصائده في ديوان(منازل النرد) قصائد البوح الذاتي عن الحرقة والاغتراب، وفلسفة الرؤيا الصوفية المغلفة بالتمرد والثورة الوجودية، فدائماً خلف كل نسق شعري في قصائده رؤيا متوهجة وإحساس جمالي خلاق يثيره بين النسق الشعري والآخر، ودليلنا النص السابق الذي يفيض بالدلالات والرؤى الاغترابية الكاشفة عن مظاهر الغربة والحنين والخوف من نهاية المصير، فدائماً ثمة رؤية اغترابية يشكلها بفهم ووعي جمالي تتمثل في نفي صراعات الوجود، وأزماته، ومخاوفه من هول المصير المنتظر، وماتحمله الأيام من مفاجآت،وتقلباتها الكثيرة التي تفضي إلى النهاية المأزومة والمصير المؤلم.

وما لايدلل على المخاوف الوجودية التي يعيشها الشاعر في واقعه المأزوم هذه الصور الموحية بدلالة مباشرة عن معناها ورؤيتها:[ أنا خوف الخائف/ وبهاء القلب العاري في الموت/ وجمال رجاء المحرومين]، فهذه الرؤى تتضمن وعياً فنياً وجمالياً ملحوظاً في ثناياها في الدلالة على الحرقة والاغتراب الوجودي، ولعل هذه المخاوف تبدت في أوج تأزمها عندما شعر الشاعر بالخوف من الذل والانكسار الوجودي القلق،من نهاية غير متوقعة تطال كرامته وأسرته ،وأطفاله، قائلاً:[ عربات يهوذا تنزل من صوب التوراة/ وتجرف آخر أطفالي /ستمر على صدري أقدام الجند وأحذية البدو الرحل ويباع ردائي]، وهكذا، تتأسس الدلالات والرؤى بمرجعيتها الكاشفة عن عمق وعيها وفهمها الجمالي بدورها التأثيري في النسق، مما يدل على شعرية بليغة في إصابة معناها العميق ورؤيتها البعيدة..

الحساسية الجمالية:

إن أي منتج فني إبداعي مؤثر ينبغي أن يستثير الحساسية الجمالية حتى نستطيع أن نتذوقه، أو نطلق عليه حكماً جمالياً، أو قيمة معيارية ما، لأن المنتج الفني الذي لا يستطيع أن يستثير الحساسية الجمالية، أو يحركها فنياً، ليس جديراً – بمنظورنا- أن نمنحه أية قيمة جمالية أو حكماً جمالياً، ولا نبالغ إذا قلنا : إنه من الخطأ إعطاء أية قيمة جمالية أو حكم جمالي على هذا المنتج، لأنه – بالتأكيد- سيكون حكماً لا منطقياً ولا دقيقاً. ومن واجب الناقد الجمالي ألا يخوض في أحكامه، ومعاييره النقدية في أي منتج بعيد عن مجساته الجمالية، أو بعيد عن إدراكه الجمالي لأن هذا سيضعف أحكامه، ويضعضع رؤيته الجمالية، وحساسيته الجمالية، وما ينبغي الإشارة إليه أن أول مؤشرات الحساسية الجمالية الإحساس الجمالي أو اللذة الجمالية، يقول جان برتليمي:"فإذا كانت اللذة الجمالية تهدئ من ضيق الحياة، فإنها كذلك تشحنها وتنميها، لأنها تبين لك تفاهة الحياة، وضعف واقعية ما يسمى واقعية"(23).

فاللذة هي أول مران الحساسية الجمالية وذروة سنامها إن ارتكزت هذه اللذة على إدراك جمالي بمسبباتها، ومؤثراتها، ومبعثها الدقيق في المنتج الفني، وهذه اللذة أطلق عليها(برادين) لذة(الغريزة المدهشة)، مؤكداً أن هذه اللذة لا يمكن لأحد أن ينفيها، لأن مبعثها ومصدرها الرئيس الحساسية الجمالية، أو" الغريزة الجمالية"، إذ يقول:" إنها هذه الغريزة المدهشة، الأزلية للجمال التي تجعلنا ننظر إلى الأرض، ومناظرها كملخص أو تقابل للسماء. إن العطش الذي لا يروى لكل ما هو فيما وراء الدنيا، والذي تكشف عنه الحياة، لهو أقوى دليل على أبديتنا"(24).

وهذا المجس الجمالي أو الرائز الجمالي الذي ندعوه ب[ اللذة الجمالية] أو [ الغريزة الجمالية] أشار إليها الكثير من المبدعين في العالمين الغربي والعربي، ومن بينهم الشاعر نذير العظمة، إذ يقول:" وبتجربتي كشاعر، عندما أكتب الشعر أكتبه مكرهاً، بمعنى أني أستجيب وأستسلم إلى إيقاع تجربتي الداخلية، فإذا جاءت موحدة وحدتها، وإذا جاءت حرة أرسلتها، وإذا جاءت منثورة نثرتها، فتجربتي الشعرية أكثر طبيعية، وعفوية من معاصري، لأنني أمارس رقابة فكرية على تفجيري الشعري، ولا أحدد موقفاً مستقلاً على شكل الكتابة عندي، لذا، فإن تنوع الأشكال لدي، مرتبط بوحدة الموقف الشعري. المهم: ما أقوله، كيف أقوله. الإيقاع، والصياغة، والصور، والرمز، تعبر عن موقفي الإنساني، أنا كشاعر مرتبط بالتراث وبتجاوزه في آن، مرتبط باللغة، وبتجاوزها، مرتبط بالواقع، وبتجاوزه(25).

وبهذا التصور، فإن الحساسية الجمالية هي التي تجعل الشعراء ينمازون عن بعضهم بعضاً، ويختلفون في درجة الشعرية، وبقدر تنامي هذه الحساسية وسموقها ومرانها إبداعياً بنصوص جمالية رفيعة المستوى تسمو هذه التجربة، وترتقي سلم الشعرية، وفضاء الجمال الإبداعي المؤثر، يقول الشاعر المبدع عبد الكريم الناعم:" الشعر في جوهره ليس تقريراً نعرضه على مفهوم محدد في أذهاننا، ولو كان كذلك لكان الشعر في العالم يشبه بعضه بعضاً، وليس أن نقول إن زهرة الأقحوان محاطة بتاج من الأبيض، تلك صفة الوصف، والشعر ليس لوحة منقولة بأمانة عن الطبيعة، دون أي تحوير فني، فمن أجل أن يقول الشاعر لحبيبته" أحبك" قد يبدع ديواناً بكامله، بصوره، وبأخيلته، وبسفره في عوالم الداخل المركبة من ألم الخارج، ولكن بطريقة إبداعية جد مختلفة، وهذه المسألة ليست جديدة في الشعر، ولقد شغلت المهتمين بالنقد قديماً وحديثاً.. أنا لا أطلب من الشاعر إلا نصاً يشدني، ويحملني معه إلى آفاق الكتابة الشعرية، ولا أشترط عليه أن يختار الوسائل، وإنما شرطي الأول والأخير أن أشعر أنني قرأت شعراً، وأستطيع الدفاع عن وجهة نظري، دون مصادرة ، إذ طلب مني أن أبين مواطن الجمال، ومفردات الجمال كثيرة في الآفاق، وفي الأنفس، ولكن عملية الاختيار، والبناء، والصياغة، هي التي تسمح لهذه القصيدة أن تصبح جزءاً من أعماقي، أو أن تظل عند حدود الكلمات، أو الجمل، أو الصور الباهتة أو الميتة"(26).
ولهذا، فإن ما هو مطلوب من المبدع دائماً أن يسمو بحساسية المتلقي جمالياً من خلال منتجه الإبداعي المميز، وإلا فلا قيمة للفن، ولا قيمة للشعر والشعرية إذا لم يستطع الارتقاء بالمتلقي ، وبجذبه إلى طيفه الإبداعي، ولهذا يرى (أدونيس) أن مهمة المنتج الإبداعي أن يفتح القنوات الإبداعية بين المبدع والمتلقي، أن يكشف المستقبل، ويرتاد آفاقه، ويكتشف متغيراته دوماً، إذ يقول:" اللغة الشعرية تكشف عن الإمكان، أو عن الاحتمال ، أي عن المستقبل، وبأن المستقبل لا حد له، ولذلك، فإن اللغة الشعرية ، تبعاً لذلك، هي تحويل دائم للعالم، وتغيير دائم للواقع، والإنسان. هذا التحويل مقرون بتطور الأدلة، والأساليب لتجدد اللغة الشعرية، وتجدد بريقها وإيحائها على الدوام"(27).

وبهذا التصور، فإن الحساسية الجمالية هي انفتاح، وإدراك، وتحويل دائم للتقنيات والنصوص الإبداعية، وبقدر تنامي هذه الملكات واستكناه مراميها العميقة يأتي التقييم الجمالي دقيقاً ومبتكراً، تبعاً للمنجز الفني، و مدى خصوبته الجمالية، ولهذا، فإن الحساسية الجمالية هي المفصل المركزي في تقييم المنتج الفني، خاصة المنتج الشعري ، هذا المنتج الذي يتطلب تنامياً جاداً وتغيراً دائماً في الأدوات الشعرية، والتقنيات ا|لأسلوبية ، وتبعاً للمرحلة الشعرية وملكاتها الفنية، وهذا ما خلصنا إليه في قولنا: "إن التجارب الشعرية الفذة ليست تجارب عشوائية تنفث زخمها على وتيرة واحدة، وإنما هي متغيرة ومتطورة في حيزها الدلالي ومراميها الفنية، تبعاً لإحساس الشاعر، ونبضه الشعوري، وفاعليته، ورؤيته التكاملية التي تبدو في أوجها عندما يحاول الشاعر التميز في الأسلوب والرؤى والمنطق الشعوري الذي يجسد الرؤية ويبلور منحى التجربة العام"(28).

وما ينبغي الإشارة إليه:

إن الحساسية الجمالية لا يمكن روزها جمالياً إلا من خلال براعة التقييم الجمالي ودقته، هذا من جهة، ومن جهة ثانية من خلال الإضافة الجمالية التي شكلها في تقييمه الحالي على ما سبق من رؤى وأحكام سابقة، وبقدر درجة الحكم الجمالي قيمة ومصداقية تزداد أسهم التقييم الجمالي إدراكاً، وأهمية،ومن ثم فإن أسهم الحساسية الجمالية ترتقي ارتقاءً عالياً، وتسمو سمواً جمالياً فائقاً، تبعاً للملكات الإبداعية التي اعتمدها المحلل الجمالي لاستكناه قيمة المنتج إبداعياً، وقدرته على روزه روزاً جمالياً.

وإن قارئ قصائد محمد علي شمس الدين يلحظ أن الحساسية الجمالية قيمة مهمة في الكشف عن شعرية قصائده التي تتنوع دلالاتها ورؤاها، تبعاً لمتغيرات الحدث الشعري،وسلاسة السرد ،ورشاقة اللغة التصويرية التي تسرع من فواعل تقنية السرد،وترفع أسهمها الشعرية،لاسيما في سياقات الصور الشعرية التي تتنوع دلالاتها ورؤاها،ومؤشراتها الجمالية، على شاكلة قوله:

" آه يا حزن رحيل القمر
بين دارين من الروح
وأدوار الجسد
آه يا حزنا عميقا للأبد
وأقاصيه بعيدة"(29).

بادئ ذي بدء، نشير إلى أن الحساسية الجمالية التي تظهرها قصائد محمد علي شمس الدين تتأسس على الصورة البليغة ،والمشهد الحساس،والرؤيا المراوغة التي تتنوع بمعطياتها ومؤثراتها الجمالية، وبقدر ما تسمو الرؤيا الشعرية وترتقي، ترقى القصيدة ،وتزهو بإثارتها وإشراقها الجمالي.

وبتدقيقنا- في المقطع الشعري- نلحظ الحساسية الجمالية في تلقف المشهد الشعري بحنكته الجمالية، عبر نسق الصور وفيض إحساسها الاغترابي العميق:[ ياحزن رحيل القمر]، فهذه الالتفاتة الجمالية تدل على رهافة في الخطاب،وتلوينه بإيقاع جمالي حافل بالدلالات والرؤى المفتوحة.

ووفق هذا التصور، فإن ما يغني الحساسية الجمالية ويرتقي بها في النسق الشعري عند الشاعر تنوع الدلالات،واختلاف بناها التشكيلية التي تتأسس على قيم جمالية بليغة تطال هذا الشكل الأسلوبي أو ذاك، تبعاً لمتحولها الجمالي، وحراكها الفني الآسر على نحو ما نلحظه في قوله:

"ينحني القلب على الوجه الجميل
ينحني حتى انكسارات الجسد
أنت أقفلت المدى قبل الرحيل
فافتح الباب قليلا يا ولد .
ينحني القلب على الوجه الجميل
كي يرى الموت يغطي ساعديك
أقفل الباب على نصف الرحيل
نصف عينيك وأطراف يديك "(30).

بادئ ذي بدء، نشير إلى أن الحساسية الجمالية تظهر في أنساقه اللغوية التي تتمظهر بهذا الشكل الأسلوبي أو ذاك، واللافت أن الشاعر في المقتطف الشعري السابق يؤسس شعريته على الصورة المتحركة التي تثير النسق الجمالي، كما في النسق التصويري التالي:[ ينحني القلب على الوجه الجميل / كي يرى الموت يغطي ساعديك/ينحني حتى انكسارات الجسد]، وهذا الأسلوب التشكيلي المراوغ يحقق أعلى درجات الإثارة الجمالية في التعبير عن القلق الوجودي، والإحساس بالتأزم الداخلي. وتبعاً لهذا تحقق قصائد محمد علي شمس إثارتها الجمالية من خلال الحراك الجمالي الذي تظهره الأنساق اللغوية البليغة في نسقها التشكيلي، وهذا ما يضمن إثارتها ومكمن شعريتها.

وبتقديرنا : إن الحساسية الجمالية التي تتأسس عليها قصائد محمد علي شمس الدين، تتأتى من حراك الصور الشعرية، وبلاغة الأنساق التشكيلية،والحرفنة الجمالية بالانتقال من نسق جمالي إلى آخر، محققاً أعلى قيم الاستثارة والجمال النصي البليغ، على شاكة قوله:

"يتكسر قلبي
في حضرة وجهك يا مولاتي
كالكوكب
كوكب طبشور
أو عصفور متعب
مرمي تحت سماء الله
وجهك يا مولاتي
ذي الأبواب السبعة والأقفال
وأنا أحمل مفتاحي بيميني
وانقله بين العين وبين القلب "(31).

بادئ ذي بدء، نشير إلى أن الحساسية الجمالية من مغريات الإثارة الجمالية في قصائد محمد علي شمس الدين، تلك القصائد التي تملك إثارتها التشكيلية من بداعة النسق وحراك الدلالات وانفتاحها الجمالي، كما في الأنساق الجمالية البليغة التالية:[ يتكسر قلبي /في حضرة وجهك يا مولاتي/ كالكوكب/ كوكب طبشور]، وهذه الحساسية الجمالية في اختيار الصورة البليغة ترتقي بالنسق الشعري، وترفع وتيرته الجمالية.

وتأكيداً على ما تقدم يمكن القول: إن الحساسية الجمالية التي تملكها قصائد محمد علي شمس الدين تتأتى من فاعلية الأنساق التصويرية ،وحراك الدلالات، وتناغم الصور، والمواقف الشعورية والعاطفية المتقدة، نبضاً وإحساساً جمالياً ، وهذا ما يحسب لهذه القصائد على خارطة التفرد الإبداعي المميز.

الدهشة الجمالية:

إن أي منتج إبداعي فني لا يحقق الدهشة الجمالية، أو الصدمة الجمالية إزاء تلقيه فهو عديم القيمة، أو الفائدة، كمنتج فني إبداعي مؤثر، لأن عنصر الإثارة والتأثير يمثل ذروة القيم الجمالية، ورأس سنامها في التقييم الجمالي السليم. وقد لا نجافي الحقيقة إذا قلنا:إن لكل منتج فني سراً إبداعياً، هذا السر هو الجوهر الخفي الذي يرتقي به فنياً، وغالباً ما تظهر الدهشة الجمالية في هذا التقارب بين إحساس المتلقي، وإحساس المبدع في منتجه الإبداعي، حتى استثار في داخله شيئاً ما ، هذا الشيء هو الذي دفعه للتفاعل معه، واستدراجه لتقييمه جمالياً . يقول الناقد والشاعر الإبداعي الفذ نذير لعظمة:" في رأيي، أن هناك عنصرين لا ثالث لهما في كل نص شعري، ما يقوله الشاعر، وكيف يقوله. فإذا قرأت قصيدة ما، ولم تخرج منها بشيء فهي قصيدة فاشلة.. القصيدة يجب أن تعديك بمعاناة الشاعر، فالمعاناة أمر أساسي: أن تعاني الغضب، أن تعاني الفزع، أن تعاني الموت، أن تعاني الغربة، ولكن المعاناة وحدها. لا تكفي. إذ إن كل الناس يعانون بشكل أو بآخر. لكن شرارة الانفعال الشعري التي تنقل المعاناة من الذاتي إلى الموضوعي، هي الهبة التي على رأسها أروز الشاعر وأحكم من ثم على إنتاجه. فالانفعال، هو الذي يعيد تركيب اللغة الشعرية بشكل يستطيع معه أن تؤدي إلى الآخر تجربة الشاعر بخصوصية وتميز، وتعديه، أي تحركه وتهزه وتعطيه النشوة إلى حد الأمنية، كما لو أنه كان هو نفسه قائل القصيدة.. وقدرة الشاعر على أن يترجم اليومي إلى كوني، والعادي إلى الشعري، والصدفة إلى مفاجأة، وسيلته إلى ذلك اللغة،و تفجيرها، وإعادة بنائها بناء جديداً ينقل معاناته إلى الآخر، ويوصل تجاربه إليهم، فيصبح ما هو ذاتي موضوعياً، وما هو موضوعي ، يجنح إلى الذاتي، ليعبر عن رؤية شعرية تكاملية تنبثق من صلب الحياة، ورحم الواقع"(32).

ومن هذا المنظور، فالذي يحفز المتلقي جمالياً أن تتحد رؤية المبدع والمتلقي، لتحقيق اللذة الجمالية التي هي القيمة العظمى المنشودة في كل الفنون ، فالفن الجمالي ليس لعباً أو فناً للتشكيل أوإبهاراً بالشكل، إنه فن جاد يحايث الجوهر الإنساني، إنه" فيض العبقرية الذي يرفع المبدأين فوق كتل البشر"(33). ولذلك، فإن الدهشة الجمالية إذا ما تملكت قلب المتلقي قد تكون سلاحاً مضاداً، في ممارسة التقييم الجمالي، لأن الاستكانة إلى سطوة الانشداه والتأمل الذي أثارته الدهشة قد يحرف التقييم إلى درجة الاستحسان العليا، ونعني بها درجة الاستحسان المبالغ فيها، مما قد يضعف الحكم النقدي الجمالي، ومن ثم انحراف التقييم الجمالي عن مساره الصحيح، ولهذا، تتحول اللذة الجمالية أو الدهشة الجمالية من مصدرها التحفيزي في التقييم الجمالي، لتتحول إلى مطب قد يصرف الناقد الجمالي عن ممارسته التقييمية الدقيقة ، ومنظارها الإبداعي الصائب، لأن اللذة الجمالية قد تسلب اللب، بنشوة الانشداه إلى العالم الجمالي الذي أثاره المنتج الفني، في نفس متلقيه. وبهذا المعنى، يقول جان برتليمي:" وخاصية ( سلب اللب) التي يختص بها الفن تعني قدرته العليا على التصرف بنا فوق عالم الأشياء عن طريق التخريب الهادئ العجيب الذي يصيب به الحواس، التي تهدف أصلاً إلى أن تقدم لنا هذه الأشياء تقديماً تمثيلياً كما لو كنا في المسرح"(34).

وإن يغيب العقل لحظة الانشداه الجمالي قد يصرف الناقد الجمالي إلى أحكام جمالية غير دقيقة ، مصدرها الاستحسان والانقياد الزائد وراء جاذبية هذا الاستحسان، دون تحكيم عقلي سليم، أو منظور نقدي دقيق، وتأسيساً على هذا نقول: إن الدهشة الجمالية ينبغي أن تكون عامل تحفيز جمالي في عملية التقييم ورائزاً من روائز علم الجمال النصي، في قياس درجة إثارة المنتج الإبداعي، وهذا يقتضي شروطاً ينبغي توافرها لتحقيق هذه الغاية ألا وهي:
إدراك مرجعية الدهشة الجمالية:

ونقصد بـ[ إدراك مرجعية الدهشة]: الأسس، والمرتكزات، والمحفزات التي أثارت المنتج الفني حتى توصل إلى هذه الذروة الجمالية في الإثارة، والتحفيز، والمتعة الجمالية. وبقدر إدراك المؤول لهذه المرجعية، وربطها، وتبيان مؤثرها ضمن المنتج الفني بقدر ما يزداد تقييمه ورائزه الجمالي إحكاماً، ودقة ، في إصابة المغزى الجمالي لهذا المنتج، وروزه بدقة جمالية عالية. يقول (فيكتور هيكو) :" إنه من الخطأ أن نعتقد أن لنفس الفكرة أشكالاً عدة، ولن يكون لفكرة ما إلا شكل واحد يختص به، وتنبع دائماً ككتلة واحدة من عقل الرجل العبقري... اقتل الشكل تجد نفسك قد قتلت الفكرة"(35).

إن هذا القول يؤكد أن الفذلكة الجمالية لا يمكن التعبير عنها إلا بشكل جمالي خاص بالفكرة نفسها، وهذا ما ينطبق على الشكل في مختلف الفنون، ولذلك فإنه من الضروري لإدراك مرجعية الدهشة الجمالية في المنتج الإبداعي إدراك مصدرها، والشكل الجمالي الذي اتخذته في المنتج الإبداعي حتى حققت عنصر تأثيرها وجاذبيتها في ذهن المتلقي.

إعطاء قيمة جمالية انطباعية عليه:

إن ثمة انطباعاً يتخذه المرء لحظة تلقيه المنتج الجمالي الإبداعي المؤثر، هذا الانطباع يمكن أن نسميه [ الانطباع الصاعق] وهو[ الرائز الجمالي الذي لا يخيب في تحثث المتعة واللذة الجمالية في المنتج الفني دون إدراك مصدرها] سوى الشعور بالراحة، والسكينة، والاطمئنان، وهذا الانطباع على الرغم من سرعته فإن أثره لا يزول، لأن المتلقي قد أحس بصدمته وشرارته الإبداعية القادحة التي لمعت فجأة في روحه، وأيقظت حساسيته الداخلية لإعطاء قيمة جمالية، أو انطباعاً جمالياً معيناً، أو انطباعاً جمالياً عاماً لا يعي مصدره ومكمن سره..
التقاء حساسية المنتج الفني بحساسية المتلقي:

إنه من البديهي أن نقول: إن للمنتج الفني حساسيته، وهذه الحساسية مصدرها حساسية المبدع لحظة تشكيله منتجه الفني، وهذه الحساسية بقدر التقائها بحساسية المتلقي تجعل المنتج الفني يفرض سطوته، وجاذبيته، وطيفه الجمالي على المتلقي، وجره إلى دائرته الإبداعية. وهذا يعني- بالتأكيد- أن لدى المتلقي المبدع حساسية جمالية لا تقل قيمة دلالية عن حساسية المبدع ذاته في تشكيل منتجه الفني، وهذه الحساسية بقدر ارتقائها وسموها تسمو معها الرؤية الجمالية، وترتفع أسهم التقييم الجمالي دقة ومصداقية، في اكتشاف القيم الجمالية التي يختزنها المنتج الإبداعي وروزها بدقة.

ومن هذا المنطلق، فإن اللذة الجمالية لا تحدث إلا بالتلاقي أو التلاقح الروحي بين ذات المبدع و حساسية المتلقي في لحظة شعورية متحايثة تجمعهما معاً لدرجة الالتصاق والالتحام الشعوري، لتبدو وكأن تجربة المبدع هي ذاتها تجربة المتلقي، لا انفصال بينهما، لدرجة يشعر المتلقي إزاء هذه الحالة بالنشوة والسكر الروحي، يقول جان برتليمي:" إن اللذة الجمالية تشهد بأني أستطيع الوصول إلى عالم الفن، وهي بهذه الصفة قادرة على إرشادي عما يتعلق بهذا العالم"(36).

وهذه اللذة، هي البوصلة في الوصول إلى جوهر الفن، عل حد تعبير جان برتليمي- ولذا فهي التي تخلد الفن جمالياً، ولهذا، يرى (بودلير) أن اللذة التي يولدها الشعر لذة روحية ونشوة آسرة لا تكاد تنتهي، إذ يقول: "الروح ترى عن طريق الشعر، ومن خلال الشعر تبحث عن طريق، ومن خلال الموسيقا ترى الأشياء العليا التي تقع فيما وراء القبور، وعندما تجلب قصيدة شعر جميلة الدموع إلى حافة العيون، فإن هذه الدموع ليست دليلاً على سرور مبالغ فيه، بل هي الأخرى شاهد على ضيق قد اهتاج، وعلى توتر في الأعصاب، ورغبة في أن تقبل على هذه الأرض إلى جنة تكشفت"(37).

وبهذا التصور، تبدو اللذة الجمالية أو الدهشة الجمالية مصدراً جمالياً في التقييم الجمالي للمنتجات الفنية، شريطة أن تستند إلى فهم عميق، وإدراك دقيق لمؤثرات المنتج الفني، و مجموع قيمه الجمالية التي فجرت هذه اللذة في المنتج الفني، وولدت أثرها الجمالي في المتلقي.

وإن كل من يطلع على تجربة الشاعر محمد علي شمس الدين يلحظ أن الدهشة الجمالية من ركائز البنية النصية التي تستند عليها قصائده على اختلاف مواضيعها ،وتعدد أساليبها، واستراتجيتها الدلالية، فالشاعر يدرك أن الشعرية علائق نصية فاعلة تستثير الحساسية الجمالية، والرؤية التشكيلية المراوغة، من حيث الفاعلية، وقوة التأثير، ولهذا، تبدو قصائده فاعلة في استجرار الدلالات العميقة، والرؤى البعيدة التي تحفز القارئ، إلى تتبع النص الشعري لديه بقوة، وإثارة، وفاعلية، كما في قوله:

"يا شيخ متون الأهرام
أعرني سجادتك الزرقاء
جناحك
برقة عينيك السوداوين على الأفلاك
لأقطع هذي الأدوار إليك
وأعقد هدبي
بحديقة أهدابك
لست مريضاً
لكن جمالك أمرضني
فرحت أفتش عمن يصلبني
في أخر عقدة أبوابك"(38).

بادئ ذي بدء، نشير إلى أن الدهشة الجمالية في قصائد محمد علي شمس الدين تتأسس على مغريات الحدث والرؤيا الجمالية، والمسندات اللغوية الخلاقة في استجرار المعنى البعيد ،والدلالة المثيرة ،لاسيما في السياقات الصوفية التي تتطلب إثارة في التشكيل وحرفنة في التلاعب بالأنساق الشعرية، الأمر الذي يرتد على خصوبة الرؤية ،وبلاغة التعبير.

وبتدقيقنا – في المقتطف الشعري السابق- نلحظ أن الدهشة الجمالية ماثلة بقوة في كل نسق لغوي ، أو صورة تشكيلية تعبر عن الحالة الصوفية التي تملكت الشاعر بالتمسك بالحضرة، والتعلق بالذات الإلهية كحالة من التمثل بالتجلي الإلهي،والوقوف على الباب،وهذه اللذة هي التي يطلبها المتصوف دائماً،وهي رغبة القرب والظفر بالوصال، وهاهنا، بدت الدهشة الجمالية محركة لباقي الأنساق الشعرية التي تتطلب منابع الإثارة والتحفيز الجمالي، على شاكلة قولها:[ياشيخ متون الأهرام- برقة عينيك السوداوين على الأفلاك]، وهاهنا، تحقق القصيدة تناميها الجمالي، من حياكة جمالية بليغة، غاية في الإثارة والتكثيف الجمالي الفاعل. وهذا ما استمر به الشاعر على هذه الوتيرة من الإثارة والدهشة الجمالية، كما في قوله:

"ودخلت بيوت النار
شربت الخمرة
من أسفل كف مجاذيب الحضرة
كي يسكر قلبي
ما غير جنون القلب لنا
نحن الفقراء
المنذورين لخدمة أعتابك
أعرف أني
بالعشق بلغت منابعك الاولى
فرحا
ودموعي تنزل من جفني كالياقوت "(39).

إن قارئ هذه الأسطر لا يخفى عليه إيقاعها التشكيلي الجمالي الآسر،وبلاغتها المؤثرة في مجرى الأحداث ودلالاتها التفصيلية، مما يدل على حنكة ومراوغة في تخليق الأنساق البليغة ومنابع إثارتها الجمالية، من خلال الصور الصوفية التي تفيض بدلالاتها ومؤثراتها الجمالية:[شربت الخمرة من أسفل كف مجاذيب الحضرة- دموعي تنزل من جفني كالياقوت]، وهكذا، تتأسس فواعل الرؤية الجمالية على قوة الحدث،وبلاغة الرؤية الصوفية في الوقوف على النسق الجمالي الذي يحقق الدهشة والإثارة الجمالية.

وما ينبغي ملاحظته في قصائد محمد علي شمس الدين أن الحنكة الجمالية في إصابة النسق اللغوي التشكيلي المناسب هو ما يحقق الاستثارة والدهشة الجمالية في النسق الشعري الذي تدخل في تشكيله، مما يدل على أن شعريته مخصوصة بعناية لصوغ الرؤية الشعرية المماحكة في نسقها ،محققة الإثارة والمتعة الجمالية على شاكلة قوله:

يا مرجف الأسلاك في عرائها
وباعثاً كالنصل ضوءك الخفي
في كثافة الوجود
كان موسيقى النجوم أرسلت بريدها
إليك
واستراح في يديك سرها المفقود
هل أنت نائم
هناك أم هنا؟
أميت؟
أم أن شيئاً ما
كأنه السبات
يعتريك؟
يا أيها الصقر الذي غامر في مملكة الضياء
بنى في العالم الجديد فوق أرضهم
أندلس السماء"(40).

بادئ ذي بدء، نشير إلى أن الدهشة الجمالية التي تثيرها الأنساق الشعرية من محفزاتها الجمالية التي ترتقي بالحدث والمشهد الشعري من خلال تناغم الأنساق وانسجامها مع التناص المتولد من نص ( أدونيس) تحولات الصقر، فالشاعر برهافة حسية تصويرية وحساسية جمالية استطاع تفعيل الرؤيا ، عبر المحاورة النصية مع نص أدونيس: يا أيها الصقر الذي غامر في مملكة الضياء /بنى في العالم الجديد فوق أرضهم /أندلس السماء"، وهذا يدلنا على أن شعرية النسق اللغوي تتبدى في الحراك الجمالي الذي يثره النسق، مشعرناً الرؤية بكثافة إبداعية من خلال الدهشة الجمالية التي أثارها على مستوى الأنساق الجزئية: [يا مرجف الأسلاك في عرائها/ وباعثاً كالنصل ضوءك الخفي /في كثافة الوجود]، وهكذا، يؤسس الشاعر رؤيته الجمالية على تقنية تفعيل الأنساق اللغوية لإبراز ملمحها الاستعاري الآسر، مما ينمي بذرة الإثارة الشعرية،وتحفيز منظورها الجمالي الفاعل في الإثارة والتحفيز الشعري.

وهكذا، تتأسس شعرية القصيدة عند محمد علي شمس الدين على اختيار الدهشات الجمالية الصادمة التي تسهم – بشكل مباشر- في تشعير النسق،وتحفيز الرؤيا الجمالية الخلاقة في بنية القصيدة،وهذا ما يحسب لها على الصعيد الإبداعي.

نتائج واستدلالات أخيرة:

إن الحيازة الجمالية- في قصائد محمد علي شمس الدين – تتأتى من مرجعية جمالية، تستحوذها نصوصه على مستوى الرؤيا الشعرية، وفواعلها النصية النشطة في القصيدة،وهذا ما يمنحها مصدر جاذبيتها وتناغمها الجمالي، سواء أكان ذلك على مستوى الاستعارات والصور، أم على مستوى الدلالات المبثوثة في تضاعيف القصيدة،ومرجعياتها الجمالية في النسق الشعري الذي يتضمنها.

إن الحركة النشطة في البنية السردية تحقق لقصائده التناغم والاستثارة الجمالية، لاسيما عندما يغرق الشاعر في اقتناص الرؤى الجدلية ، التي تفعل الحدث والموقف الشعري، كما في السياقات الصوفية التي يثيرنا الشاعر بالاستعارات والتشكيلات المراوغة التي تصل أعلى مستويات الفاعلية والتأثير.

إن الحيازة الجمالية – في قصائد محمد علي شمس الدين – ترتكز على اقتناص مواطن الإثارة والدهشة الجمالية في القصيدة، وهذا يعني أن بنية القصيدة –لديه- تشتغل على الدلالة المؤثرة والمعنى الجذاب، والشكل اللغوي الفاعل في اقتناص الرؤى،وتفعيل الدلالات المحركة للحدث والمشهد الشعري المؤثر.

إن البراعة التشكيلية التي تتأسس عليها قصائد محمد علي شمس الدين- ترفع حرارة النسق الشعري،وتقود الدلالات إلى مرجعيات ورؤى متعددة،تصب كلها في محرق الدلالة وبلاغة الرؤيا وعمق الحدث، والموقف الذي تثيره.

وبعد، فإن الحيازة الجمالية التي تتمتع بها قصائد محمد علي شمس الدين هي نتيجة طبيعية للازدهار والرقي الفكري الذي تشتغل عليها قصائده في تفعيل دلالاتها، وإبراز منتوجها الجمالي الآسر، فالشعرية ليست وعاءً لغوياً في قصائده بقدر ما هي صيرورة رؤيا مكثفة للحدث والمشهد الشعري المؤثر الذي تبنيه قصائده على المستوى الإبداعي.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى