الخميس ٦ نيسان (أبريل) ٢٠١٧
بقلم عصام شرتح

بلاغة القضايا النقدية المطروحة عند أدونيس

(رؤى وتنظيرات حداثوية تأسيسية مهمة )

لاشك في أن قارئ المنجز النقدي الأدونيسي منذ بداياته إلى المرحلة الراهنة يدرك إمكانية نقدية رفيعة المستوى يتصف بها هذا الناقد المبدع،وهذا يعني امتلاك الناقد لذخيرة معرفية موسوعية شاملة بوَّأته مكان الصدارة على الساحة النقدية العربية، ولا نبالغ إذا قلنا: أدخلته محراب النقد العالمي،إذ إن القضايا الأدبية التي طرحها أدونيس في كتبه النقدية، لتؤكد بالدليل القاطع- إمكانية هذا الرجل على المستوى النقدي، إمكانية خارقة تكاد تكون معجزة بحد ذاتها، والدليل على ما ذهبنا إليه أن السوية المعرفية الإبداعية لنقده لم تكن أقل من السوية الإبداعية العالية لشعره، ليجمع التميز النقدي، والتحليق الشعري في آن معاً،كل واحد منهما يتغذى من رحيق المنجز الآخر، وهذا التكامل في الشخصية الأدبية لا نلحظها إلا عند رجالات الفكر العظام، الذين يحاولون أن يؤسسوا شخصياتهم، لتبقى علامة فارقة في تاريخ الفكر الأدبي المعاصر، ولا نبالغ إذا قلنا: إن أدونيس يشكل هذه الشخصية الأدبية الفذة في تاريخنا الأدبي المعاصر، من حيث الخبرة، والممارسة، والذكاء، والفطنة، والمحاكمة المنطقية، في طرحه المثير للكثير من القضايا الأدبية الساخنة على الساحة العربية، يقول الناقد علي جعفر العلاق:" إن أدونيس في كتابه:" (ها أنت أيها الوقت)، يكتب وبلغته المفعمة باللطف، والتداعيات سيرته الشعرية والثقافية، ويكشف لنا عن أشياء كثيرة، تتعلق بمشروعه الإبداعي، وخياره الفكري اللذين ارتضاهما قدراً لا يمكنه الإفلات منه، لقد كان، ومنذ طفولته، مسكوناً بشرارة التمرد والمواجهة... ولم يكن أدونيس، في مواجهاته، عنيفاً أو فظاً، بل كان -على العكس من ذلك تماماً- كان هادئاً، وفي صميم الجدل الأدبي المتحضر، كان يحاول على الدوام أن يرتفع بالسياسة إلى الشعر، وبالحياة إلى الحلم، وبالخاص إلى العام. كتب ذات يوم، أنه قرر ومنذ البداية ألا يرد على خصومه ومهاجميه، وأن يوفر وقته لما هو أجمل وأبقى. الإبداع ويضيف أنه لم يخالف هذا المبدأ إلا مرة واحدة حين رد على مقالة لصلاح عبد الصبور، وما يزال نادماً على ذلك. وامتناع أدونيس عن الرد على خصومه لا يخلو من نرجسية كبرى. إنه يحرمهم من تحقيق أقصى أحلامهم، أن يقال عنهم:" هؤلاء أعداء أدونيس". ورغم ما في عبارته هذه من شحنة ذاتية عالية، فإن أدونيس جعل منها منطلقاً لسلوك لا يحيد عنه".

ولعل أبرز ما أثارنا في شخصية أدونيس معالجته للكثير من القضايا الأدبية الساخنة، بعمق وشمولية، وتقصي، وخبرة معرفية واسعة، أسعفته إلى أن ينال خطوة نقدية عربية، وشعرية فذة، ومن أهم القضايا التي طرحها أدونيس:" مسألة الثقافة الراهنة"، إذ يقول:" لا بد لنا، قبل الحديث عن الثقافة الراهنة من أن نواجه مشكلة التراث. بل لعل هذه المشكلة أن تكون في طليعة المشكلات التي يجب أن ندرسها في هذا الصدد،وفي مواجهة هذه المشكلة أفضل، من جهتي، أن لا أبدأ من النظرية، بل من الممارسة أن من واقعنا الثقافي الراهن في المجتمع العربي، أنظمة ومؤسسات... وهنا... ما الواقع الثقافي الراهن؟ إنه، اختصاراً وتبسيطاً، صراع بين قوى إيديولوجية... ما الطرف الراجح الغالب في هذا الصراع؟ إنه، كما أرى، طرف القوى الإيديولوجية التقليدية. ويعني ذلك بأن الثقافة العربي السائدة على مستوى النظام والمؤسسة، إنما هي الثقافة التقليدية. والأجهزة الإيديولوجية السائدة هي التي تحول التراث إلى قوة أيديولوجية، تضمن استمرارية الماضي، ورسوخ النظام، وتحول دون نشوء إمكانات جديدة لثقافة جديدة. وتبعاً لذلك، يمكن وصفها بأنها قوة مادية. ومن هنا، يتأكد كون التراث مشكلة أساسية من مشكلات الثقافة العربية، نظرياً وعملياً... وفي هذا المنظور، يبطل قول القائل: إن الماضي انتهى، أو أنه لم يعد فعالاً، أو أنه ليس مشكلة. خصوصاً أن تحويل التراث إلى قوة إيديولوجية تواجه الحاضر، يرتبط بموقف تقويمي- أخلاقي: لا يكون العربي عربياً إلا بقدر إيمانه وارتباطه بتراثه، كما تفهمه هذه الأجهزة الإيديولوجية السائدة، وتعلمه".

إن الواقع الثقافي العربي الذي يطرحه (أدونيس) يؤكد أن مفهومه لمسألة الثقافة الراهنة، مسألة محسوسة بقوى إيديولوجية، تتحكم في مسار الحاضر، وعلاقة الحاضر بالتراث، ومن هنا، فإن أدونيس يؤكد على النقط التالية، سنوردها ونناقشها، بما يتناسب وواقع الرؤية الأدونيسية المطروحة، إذ يقول:" استناداً إلى ما تقدم، أود التأكيد على النقاط التالية:

لا بد للطليعة الثورية من أن تنقد الواقع الغيبي الذي يعرقل نمو الوعي الثوري، من جهة، ويشارك من جهة ثانية، في ترسيخ الثقافة الماضوية واستمرارها: ولا بد لها من أن تمارس هذا النقد، بين الطبقات المسحوقة، على الأخص، ذلك أن هذه الطبقات لا تنتج وعيها الخاص بها، كطبقة مسحوقة، إلا بالممارسة الثورية... والنضال الإيديولوجي جزء أساسي من هذه الممارسة. ويعني هذا النضال محاربة الإيديولوجية السائدة التي تعمل بمفهوماتها عن التراث والسلفية، للحيلولة دون أن تنتج هذه الطبقات وعيها الثوري الخاص. ومن هنا، يبدو أن التراث ليس مشكلة نظرية فكرية وحسب، وإنما هو أيضاً مشكلة سياسية واجتماعية. وتبدو، تبعاً لذلك.. أهمية النقد وضرورته- نقد الثقافة التقليدية السائدة، ونقد مفهوماتها، خصوصاً، مفهومها للتراث، وللماضي بشكل عام".

إن ما أشار إليه (أدونيس) ينم على وعي بحقيقة الثقافة الثورية، وأهمية الطليعة الثورية، وما ينبغي أن تنجزه من نقد للواقع، نقد النظرة السلفية التي تقدس التراث، دون أن تنتج وعياً خاصاً به، لتقويمه وأخذ الجوانب المشرقة، ونبذ الجوانب السلبية التقليدية، التي تعرقل الفكر الثوري، أو الوعي الثوري، وهذا بمنظورنا- ما ينبغي فعله في نمو الحركة الثورية وتطورها، والوعي بإمكانيات الطليعة الثورية، فيقول أدونيس:" ثانياً، أول ما يجب نقده هو مفهوم التراث نفسه فهو عدا أنه غامض، تنظر إليه الثقافة التقليدية السائدة، بوصفه جوهراً أو أصلاً لكل نتاج لاحق. وفي تقديري: أنه لا يصح النظر إلى التراث إلا بمنظور الصراعات الثقافية والاجتماعية التي شكلت التاريخ العربي. وفي هذا المنظور لا يصح أن نقول: إن هناك تراثاً واحداً، وإنما هناك نتاج ثقافي معين، يرتبط بنظام معين، في مرحلة تاريخية معينة. وعلى هذا فإن ما نسميه تراثاً ليس إلا مجموعة من النتاجات الثقافية- التاريخية التي تتباين حتى درجة التناقض. لذلك، لا يصح البحث في التراث كأصل أو جوهر أو كل، وإنما ينبغي البحث في نتاج ثقافي محدد. في مرحلة تاريخية محددة، واستناداً إلى هذا البحث يتحدد الموقف، هناك حتى ضمن المرحلة التاريخية الواحدة مستويات وأنواع للنتاج الثقافي، لا يجوز أن توضع على مائدة واحدة أو في صحن واحد. البحث في الفقه مثلاً غيره في الشعر، أو في الفلسفة. والبحث في هذه غيره في الفن المعماري، أو الموسيقي".

إن ما أورده أدونيس يستدعي التساؤل: هل التراث بمنظوره فقط صراع، وتناقض، وتناحر ثقافي، أو موروثات ثقافية؟!! إذا كان- والحال كذلك- كيف ينظر أدونيس إلى الثقافة المعاصرة؟ هل هي ثقافة تراث، وامتداد له، أم هي ثقافة معاصرة. أم ثقافات معاصرة؟!.

إن نقد أدونيس للتراث، بوصفه جوهراً ما هو إلا ردة فعل على موقفه الرافض للتراث، بما في ذلك التراث الثقافي، بما يمليه من فقه، وشعر، وفلسفة، وقد جاء رفضه معلناً في قوله:" في هذا الضوء، لا يعود هناك مسوغ علمي لمثل هذا السؤال: ما موقفك من التراث، ككل؟ أو لمثل هذا السؤال، ما علاقتك به؟ السؤال الصحيح في هذا الصدد هو: ما موقفك مثلاً، من هذا الفيلسوف؟. أو كيف تحدد علاقتك بذلك الشاعر؟. حتى حين يتعاطف الفكر التقدمي المعاصر، كردة فعل على الفكر التقليدي، مع اتجاهات في الماضي يمكن وصفها بأنها متقدمة، بالمقارنة مع الاتجاهات الأخرى، سواء كانت تمثل ثقافة النظام الذي كان سائداً آنذاك، أو مناهضة لها، فإن تلك الاتجاهات المتقدمة لا يمكن أن تكون ملزمة للفكر التقدمي، نظرياً وعملياً. فهي ليست أكثر من شاهد تاريخي على وعي طبقات، أو جماعات صارعت من أجل تقدم المجتمع، وأنتجت ثقافة تشهد لهذا الصراع، وتعبر عنه. فما قيل وعمل في الماضي في مجال الثقافة، ليس شأناً مطلقاً يجب تكراره، والإيمان به، وإنما هو نتاج تاريخي، أي نتاج يتجاوزه التاريخ من حيث إنه تعبير عن تجربة محددة لا تتكرر، في مرحلة لا تتكرر.. وهكذا، يتضح لنا أن طرح قضية الارتباط بالتراث.. إنما تقوم به الفئات الوارثة المسيطرة، موحدة بذلك، بين سيادتها على النظام، وسيادتها على الكلام".

إن الناقد (أدونيس) يؤكد أن الفكر التقدمي الثوري يحتاج إلى التحرر من هيمنة التراث، وضرورة التجرد عنه، لينتج فكراً تقدمياً متحرراً، وثقافة جديدة متطورة، إذ إن الثقافة السلفية تجتر التراث، ولا تطور من المنظور الراهن للواقع والحياة، وبهذا المعنى المقارب يقول (أدونيس):" أود أن آخذ من الشعر مثلاً يوضح مدى العبثية في (مسألة الارتباط بالتراث)، أو العلاقة به، ذلك أن الشعر هو ميدان اهتمامي المباشر، وهو من التراث الجانب الأكثر حضوراً. ما معنى أن يقال عن شاعر عربي معاصر إنه خارج عن التراث؟ معناه أولاً أن هذا القول حكم من الثقافة التقليدية السائدة، أي من النظام السائد. ومعناه ثانياً- أن هذا الشاعر يفسد الوحدة بين السيادة على النظام، والسيادة على الكلام، أي أنه يخلخل سيطرة النظام القائم وسيطرة الثقافة. ومعناه ثالثاً- أن هذا القول إدانة سياسية، وليس تقويماً شعرياً".

إن منظور أدونيس للتراث منظور تحرري، إذ يرى أن جل المتعلقين به هم من رواد المدارس الشعرية التقليدية، التي ترى في كل خروج عن التراث، إنما هو كسر لقدسية التراث، ويحكمون على الشاعر بأنه خارج على سنن الشعر وجوهره، وهذا مناقض للحقيقة المعرفية أو للمنظورات الحداثوية، ومن ثم مناقض كذلك لحقيقة الشعر والشعرية، ويتابع قائلاً:"إذا سئلتُ الآن، كيف تحدد علاقتك، أنت الشاعر الحديث"بتراثك" الشعري العربي؟ فإنني أجيب، أولاً: لا معنى لهذا السؤال... ذلك أنني لا أستطيع أن أحدد علاقتي مع شيء غائم غير محدد، وإنما أحددها مع شاعر معين، أجيب ثانياً، بتساؤل: ماذا تعني العلاقة، هنا؟... إذا كان السؤال مطروحاً بمنطق الثقافة السائدة، فإن هذه العلاقة تعني أن أكون مؤتلفاً مع "تراثي"، أي أن لا آتي بأي شيء إذا لم يكن أسلافي من الشعراء عرفوه.. ومارسوه وأقروه.... أما إذا كان السؤال مطروحاً بمنطق الرؤية الثورية، فإن هذه العلاقة تعني أن أكون مختلفاً عن أسلافي من الشعراء. بل أكثر: قد تكون علاقتي بسوفوكليس، أو شكسبير، أو رامبو، أو مايا كوفسكي، أو بلوركا أعمق من علاقتي بأي شاعر عربي قديم، دون أن يعني ذلك أنني خارج على التراث الشعري العربي... فالشاعر العربي الحديث قد يبدع ما يتنافى، شكلاً ومضموناً، مع ما أبدده أسلافه، ويظل إبداعه، مع ذلك، عربياً، بل أكثر من ذلك أقول: لا يكون الشاعر العربي الحديث نفسه حقاً إلا إذا اختلف عن أسلافه. فكل إبداع اختلاف. وأن يتأصل الشاعر في لغته الموروثة هو أن يكون، بمعنى ما، غريباً فيها. لكن هذا لا يعني أنه ينفي شعر أسلافه، أو أنه يكتب، بالضرورة، أفضل مما كتبوا. بل يعني أنه يعبر عن تجربته الخاصة المغايرة في رحلته التاريخية الخاصة المغايرة. وبهذا، فإن عالمه الشعري، مغاير بالضرورة... الشعر، في هذا المنظور، سلسلة انبثاقات أو مفاجآت، وليس خيطاً واحداً يستمر باللون ذاته، والنسيج ذاته. وتبعاً لذلك، يصح القول: إن المشكلة التي تواجه المبدعين العرب هي أن ينتجوا ما يختلف، لكي يستطيعوا أن يشاركوا في إنتاج الثورة، أو لكي يستطيعوا أن يكونوا على الأقل بين طلائع الثورة".

إن ما أدلى به (أدونيس) يضعنا على أسس نقدية مهمة في الصوغ الشعري، فالشعر الحداثي ليس مشابهة وائتلاف، بقدر ما هو تنافر واختلاف، وبهذا المفهوم، فإن الشعر الحداثي ينبغي أن يختلف ليثبت هويته، ويؤكد بصمته الإبداعية، لهذا أورد مقولة أن الشعر سلسلة انبثاقات، ومفاجآت، وتشكيلات لغوية مبتكرة، دليلاً على أن الحداثة ليست في إنتاج ما هو مألوف، بقدر ما هو خلق، وابتكار لشيء غير مألوف من مدلول القول، وزعزعة للرؤيا، والنسج الشعري، وبمنظورنا نحن أن أدونيس قد وضع يده على حقيقة جوهرية في الصوغ الشعري، وهي المباغتة في إدهاش القارئ، بالأساليب النصية المبتكرة، وما يؤخذ على أدونيس أنه قرن الثورة اللغوية بالاختلاف، وهذا ليس دقيقاً، لأن منظورنا للثورة هو منظور تأسيسي، وخلق وتولد وتفجر دائم.. وليس- بالضرورة- اختلافاً، وإنما هو خلق، وابتكار، وإدهاش، ونقل ما هو مؤتلف إلى ما هو مختلف، وقلقلة للرؤى، وكسر للمفاهيم القارة في الأذهان،وبهذا المنحى يقول (أدونيس):" يرى أصحاب النظر التقليدي الشعري أن القاعدة (عمود الشعر) موجودة مسبقاً، لا في اللغة- الأصل، وإنما في أشكالها التعبيرية بمثابة السبب، والحاضر بمثابة النتيجة. ويتم تمييز الشعر العربي الأصيل" من الشعر المستورد الشعوبي، بمقياس دقيق هو الاتساق، والانسجام، والتآلف مع الأشكال التعبيرية الشعرية الأولى. فمقياس الصحة والفساد، والأصالة والهجانة، هو كذلك مسبق، أي أنه مقياس ماضوي. وإن كان الواقع هو ما نواجهه ونعانيه الآن، وليس ما عاناه السلف، أمس وهنالك، فإن الماضوية شكل للانفصال بين اللغة والواقع. ولا تكون اللغة- هنا -إلا هرباً مستمراً في الواقع، أي من الفعل. وإذ تنفصل اللغة عن الواقع، الآن، وهنا، تصبح، بالضرورة، مبتذلة، ويصبح"محتواها" مبتذلاً كذلك، هو -أيضاً -بالضرورة بل إن اللغة تحل، في النتيجة، محل العمل، لأنها، إذ تنفصل عن الواقع فإنها تلغيه، وإذ تلغيه تحل محله. في هذا المنظور نفهم كيف أن الثقافة السائدة(الموروثة) تؤكد دائماً على أن مهمة الشاعر(وكل شخص) هي أن يقبل ويسوغ، لا أن يسأل ويبحث. (لا جديد تحت الشمس): تلك هي الحكمة الشعرية السلفية. فالمنوالية ليست قيمة، بحد ذاتها، وحسب، وإنما هي أيضاً معيار أولي. وطبيعي أن يكون الإبداع، في هذا المنظور، خروجاً- أي شذوذاً وانحرافاً... إلخ. وأن لا يكون الشعر في الحاضر إلا تحييناً للشعر في الماضي".

إن الشعر في الثقافة التقليدية هو الحفاظ على منهجية الشعر القديم بما أسموه[ عمود الشعر]، وفي هذا المنظور فإن أي خروج على هذا النظام -من منظورهم- يعد شذوذاً وانحرافاً عن معيار الصواب، وهنا، يطرح أدونيس بعض الأمثلة، إذ يقول:" 1- اللغة أولاً، الإيمان المسبق بإعجاز اللغة الشعرية القديمة أدى إلى أن تصبح اللغة مؤسسة، مستقبلية عن الأشياء قائمة بذاتها. وفي حين كانت مهمات الكتابة وأغراضها تتعدد وتتغير، بتعدد الظروف وتغيرها،، كانت اللغة تزداد استقلالاً من حيث هي مؤسسة، وتزداد ثباتاً. وكان لهذا الثبات نتيجتان، الأولى، انعزال اللغة عن النشاط الفاعل في المجتمع حتى صارت عالم ألفاظ إزاء عالم الواقع. بحيث كادت الكلمة أن تصبح رسماً بلا دلالة. والنتيجة الثانية هي تحويل الكاتب (الشاعر) إلى شخص لا يتحرك في الحياة في معاناة الواقع، وإنما يتحرك في الألفاظ،ومعاناة صياغتها. ومن هنا، تبدو دلالة الأهمية التي يضفيها النقد القديم على اللفظ في الشعر والنثر. فالكتابة، بحسب هذا النقد، صناعة ألفاظ. وبما أن الوسيلة هنا (الألفاظ) صارت غاية، فقد كان محتماً أن يصبح الشعر تكراراً. ومن يلقي نظرة على كتب النقد العربي يجد أنها تجمع تقريباً على أن الشعر تجربة في صياغة الألفاظ، لا تجربة في رؤيا الحياة، والإنسان، والعالم. ولعل في هذا ما يفسر إهمال الشاعر العربي للعالم، فهو لا يعمل حتى على تفسيره، وبالأحرى إنه لا يعمل على تغييره. من هنا، نفهم كيف أن النقد العربي القديم لا يعطي للشعر دوراً تأسيسياً، بل يرى أن دوره هو أن يقبل المؤسس ويحتضنه: لا يرى، بل يصف، يمدح، يهجو.. إلخ. وهذا يعني أن الشاعر يكتب دون أن يكتب: لا يشكل أي تشويش على الثقافة السائدة. ويعني أنه يكتب بلغة هي نوع من " اللالغة"، أي أنه يستخدم اللغة الشعرية كسلسلة جاهزة، ولا يفجر العلاقات، ويبتكر لغته الشعرية الخاصة. لذلك صارت اللغة نمطاً. واللغة – النمط تقود إلى الشكل النمط، وإلى التعبير النمط. فنحن نقرأ معظم المجموعات الشعرية (الحديثة) نرى أنها تكاد أن تكون جملة واحدة بإيقاع واحد مطرد تقريباً".

إن ما أشار إليه أدونيس أن اللغة الشعرية في القديم هي لغة مجازية، واستعارات، وتنميق ألفاظ، لا لغة كشف ورؤيا، نقول إن هذا الكلام فيه الكثير من الظلم، والإجحاف لإمكانية شعرنا القديم، إذ إن الشعر القديم كان ومايزال حافلاً بالرؤى والدلالات العميقة، وإن كانت لغة الواقع هي المسيطرة على نفوس شعرائنا القدامى، وعناية شعرائنا القدامى بالتنميق اللفظي ماهي إلا عناية اضطرارية، لتصل إلى أكبر شريحة من المتلقين، إذ إن القصائد كانت تلقى شفاهاً، وتحفظ شفاهاً، ولذلك توسلت بالتنميقات اللفظية، ليسهل انتشارها وحفظها، أما أن تحكم عليها في أنها صناعة لفظية دون رؤيا كشفية تكشف الحياة والعالم، فهذا إجحاف لدور شعرنا العربي القديم وأهميته من جهة، ولوظيفة الشعر العربي بالنهوض بأعباء الحياة ومشقاتها من جهة ثانية. يقول أدونيس:" في النظرة الشعرية الجديدة لا يكتب المبدع كما يتكلم، بل يتكلم كما يكتب. إنه يتجاوز لغة الكتابة بحسب الكلام، إلى اللغة الجديدة: لغة الكلام بحسب الكتابة. وهذا يعني إفراغ الكلمات من محتواها المألوف. واستئصالها من سياقها المعروف. وبدلاً من أن يكون الشاعر جزءاً من اللغة المألوفة،تصبح اللغة جزءاً من الشاعر. وبهذا المعنى نقول: الأساس هو الشاعر لا الشعر. وهكذا، تصبح اللغة مجلى الشاعر لا محبسه: لا يلبسها، وإنما يتجلى فيها. وهكذا، يؤسسها.. فاللغة تولد مع كل مبدع. فلغة المبدع لا تجيء من الكلام الذي سبق أن نطق به، بل تجيء من كون الإنسان يعرف، جوهرياً، بين جميع الكائنات، بأنه الناطق. تجيء من الأصل، لا من التالي للأصل. لا تجيء مما تراكم، بل مما لم يتراكم بعد.. لا تصدر، بتعبير آخر، عن منظومة من الأفكار والرموز والصيغ الموجودة سابقاً، بل تصدر عن مبدع، يبدو لفرادة إبداعه، كأنه يؤسسها للمرة الأولى. هكذا لا تستمد لغة المبدع رموزها وأبعادها من لغة سابقة، وإنما تنشأ رموزها وأبعادها معها، وتنمو معها. ولا نفهمها بالعودة إلى مصادر سابقة( الأساطير، التوراة، الشعر العربي، أو الغربي. إلخ) وإنما بفهمها بالغوص فيها ذاتها".

لاشك في أن (أدونيس) هنا قد وضع العلائق اللغوية في ميدان إبداع المبدع، فالمبدع في النظرة الشعرية الجديدة لا يكتب كما يتكلم، وإنما يتكلم كما يكتب، إن لغته تتجاوز المنطق الكلاسيكي القديم، لتخلق دهشتها من تناميها الجمالي، وقدرتها على التميز، والظفر بالفرادة الأدبية، ولهذا، فإن لغته دائماً هي لغة خلق وابتكار.. فهي لغة تخلق جدتها من نسقها اللغوي الجديد، بمعنى أنها لا تصدر عن منظومة من الأفكار، والرموز، والصيغ الموجودة سابقاً، وإنما تصدر فرادة المبدع، وقدرته على التميز عمن سبقه. وفي هذا يصيب أدونيس الحقيقة- بالصميم- في فهمه للشعرية والنص الشعري، مؤكداً عمقه في الكشف والإدراك، وهذا ما نلحظه كذلك في المثال الثاني الذي طرحه عن "بعد الزمن"، إذ يقول: " الزمن في التجربة الشعرية الجديدة، هو نفسه الزمن في الشعر القديم: ليس بعداً داخلياً في الأشياء، يخلقها ويفنيها، وإنما هو قدر خارجي يفسد الحياة، ويهدم الكمال، ويلتهم الأشياء. فالزمن دائماً يتضمن الكارثة. وهو من هذه الناحية، زمن منطقي. وسواء تحركت القصيدة الجديدة في مستوى اجتماعي، أو مستوى نفسي، أو مستوى استعادي ذكروي، فهي تتحرك في إطار هذا الزمن، الزمن القدر/ الخارجي. هذا المفهوم للزمن يبقينا في إطار القضاء والقدر، ويبعدنا عن التاريخ. أعني أنه يبقينا في إطار النظرة التقليدية القائلة بأن الآلام والشرور" غير طبيعية"، ولذلك يمكن الخلاص منها، بالنظرة الجديدة التي هي الخروج من الصراعات والتناقضات الذهنية، والدخول في عالم الصراعات والتناقضات الحياتية. هي الإيمان بأن الإنسان قادر على تغيير نفسه والعالم معاً، قادر على صنع التاريخ.. والقصيدة الجديدة، هي التي تكون من هذه الشرفة، مسرحاً للعالم".

إن منظار أدونيس للزمن منظار رؤيوي تأملي عميق، فالزمن في القصيدة الكلاسيكية القديمة هو زمن قاتل، استهلاكي، يهدم الأشياء ويحطمها. ولا يخلقها ويبنيها، إنه زمن متحجر، جامد لا يملك روح التغيير، أي إن الشاعر الكلاسيكي هو مقيد لإرادة الزمن، لا يملك حس التجاوز والتغيير، ولهذا تبقى الأنا في قصائده هاجساً مخيفاً يؤذن بالهدم والموت والإبادة، في حين أن الأنا عند الشاعر الحديث هو الزمن المتغير، لهذا، يحاول تغيير نفسه والعالم من حوله رداً على هيمنة الزمن وسطوته. وإثباتاً للذات أمام هاجس المحو- والتلاشي الزمني، إن إدراك أدونيس الفني في تحليل الأشياء والحكم عليها يهب آراءه النقدية قدرة ومهارة ودقة في إصابة المغزى المراد، أو جوهر الرؤية النقدية المطروحة.

ولو أردنا أن نتابع أهم القضايا النقدية التي طرحها في كتبه، سنقف على بعض القضايا التي طرحها في كتابه[ زمن الشعر]و [ سياسة الشعر] و [صدمة الحداثة]، وهي القضايا التالية:
هواجس أدونيس النقدية:

يعد أدونيس من أكثر نقاد الحداثة جرأة في طرح رؤاه النقدية، أو هواجسه النقدية، بحس جمالي استكشافي، عميق، إذ يتقصى القضية النقدية المطروحة من أبعادها كلها، وجوانبها كافة، وفق ما يسمى بالنظرة الشمولية، أو النظرة الجوهرية العميقة للقضية أو الفكرة المطروحة، يقول أدونيس فيما يخص تجربته الشعرية:" إن الفرق بين طريقة التعبير في "قصائدي الأولى"، وطريقة التعبير في "قبر من أجل نيويورك" تثير مسألة الأسلوب بحسب المصطلح القديم. والذين ينظرون إلى هذا الفرق من وجهة نظر المصطلح القديم يرون في هذا الفرق نوعاً من التغير لا يطمئنون إليه. فقد استقر في وعيهم أن الشاعر يجب أن يستقر على أسلوب واحد. ويفهمون هنا بالأسلوب نظاماً شكلياً خارجياً معيناً ثابتاً بحسب تعليم معين، أو قاعدة معينة. وقد صار واضحاً أن مثل هذه النظرة لم تعد خارج فهم الشعر كتجربة كلية وحسب، وإنما أصبحت كذلك خارج فهم الشكل كطريقة تعبير. ذلك أنها تعد الأسلوب تالياً للكتابة، يجيء بعدها. والحال أن الأسلوب يبدأ قبل الكتابة، ويستمر عبرها إلى ما يتجاوزها....وليس قبلها، لأنه في دخيلة الشاعر، في كيانه كله، في حساسيته، وفي فكره. وهو يتجاوزها، لأن الأسلوب في نظم الكلمات، بحد ذاته، إنما هو فيما نسميه نبرة الشاعر، أو لهجته، أو طابعه. فالشرط في الأسلوب هو أن يكون علاقة شخص. وهو لا يفهم إلا على أساس اقترانه بهذا الشخص، وبهذا المعنى نقول: الأسلوب هو التفرد، لكن شريطة أن يتضمن هذا التفرد الكثرة، أي تنوع العناصر. فالشاعر من حيث هو شخص إنساني مركب لا بسيط. والمركب كثرة الاتجاهات. من هنا، نفهم كيف يتغير تذوق الشاعر، وتتغير نظرته، وتتسع رؤياه، ويتنوع، تبعاً لذلك، تعبيره".

إن ما أورده أدونيس يضعنا على محطة التأمل في تجربته الشعرية، فالتجربة الشعرية متغيرة، تبعاً لتغير المرحلة التي يعيشها الشاعر، لكن هذه المرحلة مختلفة ومتطورة، باختلاف التجربة وعمقها إلا أن ما يجمعها هو خيط واحد، هو معاناة الشاعر ذاته، وهنا، يحاول أدونيس أن يفرق بين قصائده في المرحلة الأولى ومناسبتها، وقصائده في المرحلة التالية وتغييرها، إذ يقول:" المناسبة حدث خارجي، يكون سياسياً، أو اجتماعياً، أو طبيعياً. وقد يكون من الماضي احتفالاً بذكراه، أو من الحاضر، احتفاءً بحضوره.. الحدث نص مادي: وقائع، أعمال تغيرات.. إلخ، فكيف يكتبه الشاعر؟!.. ليس هناك جواب يمكن أن يكون معياراً أو قاعدة، فلكل شاعر طريقته الخاصة في كتابته... قد يميل شاعر إلى أن يطابق بين الحدث والقصيدة. ينظم نثرها، بحيث يصفها كما هي. وقد يميل شاعر آخر إلى تذويب الحدث في ذاكرته النفسية الثقافية، وقد يميل آخر إلى أن ينظر إلى الحدث، من حيث أنه رمز، أو دلالة، فلا يقف عند معناه المباشر، وإنما يذهب إلى الإشارة عما يوحي به هذا المعنى، من معانٍ أخرى. وربما مال شاعر آخر إلى صهر الحدث في تجربته، بحيث أنه لا يتبين أبداً، وإنما يذوب في نهر هذه التجربة، لكي يندمج بغيره، ويتجلى في صور، وأشكال يصعب تحديدها إلا بقراءة النص، وقد يتعذر تحديدها، بحيث تكون علاقته بالنص كمثل علاقة رائحة الوردة بالوردة. وبما أن الشعر لا يكمن كما أرى، بخصوصيته ذاتها، أن يكون زخرفاً للحدث أو للشيء، أو إطاراً يحيط به ويحدده، أو نقلاً مرآتياً، أو وسيلة للإخبار به، إعلاماً وتبشيراً، فإنني أميل إلى الموقف الأخير، في علاقة الشعر بالحدث(المناسبة). والشعر ليس كلاماً( نصاً) ثانياً على (كلام) أول هو الحدث، وإنما هو كلام أول من حيث أنه لا يرى العالم كما هو، وإنما يحدث به كما يمكن أن يكون. الشعر بهذا المعنى تأسيس، الحدث أياً كان هو وسيلة للشعر، بين وسائل عديدة، في فعل هذا التأسيس".

إن الشاعر -من منظور أدونيس- يملك إيديولوجيته، وفنيته، وطريقته في الكتابة الشعرية، ولا يمكن لأحد أن يمتلك هذه الخصوصية دون أن يملك رؤية في الخلق الشعري، وخلق الحدث المنسجم مع الحالة الشعورية، فالحدث هو وسيلة للشعر، وليس الشعر كله.. الشعر تأسيس أي خلق وابتكار, وليس فقط حدث يترجم شعرياً على صفحات الورق، إن أدونيس يمتلك رؤية نقدية واضحة، محددة، تشي بالدقة والعمق، يقول أدونيس:"فما يسود على مستوى اللغة الشعرية، ليس إلا المعادل الفني لما يسود على مستوى نظام الاقتصاد السياسي. وهو يؤدي إلى جعل اللغة الشعرية خيطية البعد، ضيقة الأفق، مباشرة، لا تكتنز بأي توهج. تدب في مستوى الأشياء الأليفة المسموعة، أو المرئية، أي أنه يؤدي، باختصار، إلى تحطيم جوهر اللغة الشعرية: المجاز والصورة... تلك هي التبسيطية التي تجابه اللغة الشعرية اليوم: إرجاع اللغة إلى استعمالها المنفعي المباشر،"التجاري"، والنظر إلى الشعور نفسه كما ينظر إلى شيء مادي" واضح": كرسي، أو لوح، أو مسطرة... إنها تبسيطية تعامل الدال كقيمة استعمال، وتعامل المدلول كقيمة سلعية. وهذا لا يعني القضاء على الشعر كإبداع إنساني خاص وحسب، وإنما يعني أيضاً القضاء على اللغة الشعرية كطريقة متميزة للتعبير.... إنها تبسيطية تقول: لا صور، ولا مجاز، بل سطح يتناسل في عقلانية باردة... إنها تنظير للشعر بمنظور سلعي، ينفي ما هو شعري في الإنسان والعالم... ونفي ما هو شعري نفي لأعمق ما في الإنسان: لما ليست له، ولا يمكن أن تكون له قيمة سلعية ".

إن الشعر- في المنظور الأدونيسي- ليس سلعة، لأن القصيدة الشعرية هي مجموعة مشاعر وأحاسيس، والسلعة هي شيء مادي، واللغة الشعرية تنأى عن الاستعمال المادي المنفعي التجاري... إنها لغة إيحاء، وتأثير... والذين يدعون أن الشعر بضاعة لا يفهمون معنى الشعر، ولا حقيقة الشعرية، وإنما يعني ذلك أنهم يسهمون في القضاء على اللغة الشعرية كطريقة تعبير، إذ يجعلونها سطحاً يتناسل في عقلانية باردة، وهذا من ثم يقتل الشعرية والرؤية الحقيقية للشعر، إن منظور أدونيس دقيق ومنهجي، فالقصيدة الشعرية ليست مجرد كلمات مصفوفة، لتبث شعوراً ما أو إحساساً معيناً، وإنما هي كتلة من الرؤى والتأملات، التي تكشف عن باطن الذات الإنسانية بتأمل عميق، ورؤية شاملة، يقول أدونيس:" إن رفض المجاز، هو ما يسميه بعضهم بالغموض مثلاً، إنما يعني رفضاً لما لا يقدرون أن يخضعوه لعقليتهم الحسابية، لإمكانية تنظيمه، أو وضعه في نسق. إنها تعني رفضاً لما لا يندمج في النظام الإنتاجي المعقلن، ولما لا يخضع للغة السلعة: العقلانية. وإذا كان للشعر دور في هذه المرحلة من سيطرة طرق الإنتاج- الكولونيالية، فإنه يتمثل أولاً في تحرير الإنسان من هذه العقلانية، التي تحول الإنسان إلى شيء... إذاً، ليس الشعر ثورة على نظام الكلام الموروث وحسب، وإنما هو أيضاً ثورة على نظام الاقتصاد السياسي السائد، وثورة على الثقافة السائدة، من حيث هي نمط لتنظيم الاستهلاك، من جهة، ونمط لترسيخ الموروث، وفقاً لآلية عقلانية تطابق نظام الاقتصاد السياسي من جهة ثانية. وبهذا المعنى نقول إن هناك تفاوتاً بين البنية الاقتصادية والبنية الفنية، تاريخياً، ونوعياً، وإن الدال شعرياً يمكن أن يعيدنا إلى أكثر من مدلول، على العكس من الدال اقتصادياً، أو سلعياً. ومن هنا، كون اللغة الشعرية تقوم، جوهرياً، على المجاز، والصورة، والرمز، وكون القصيدة العظيمة غابة من الاحتمالات. ومن هنا، معنى القول: إن شعراً بلا مجاز أو صور، أو رمز ليس فيه من الشعر غير الاسم".

إن ما أشار إليه أدونيس يؤكد على التفاوت بين البنية المادية الممثلة بالبنية الاقتصادية، والبنية الفنية الممثلة في الأعمال الأدبية، إذ إن الدال شعرياً هو الذي يوحي بأكثر من مدلول، ويعطي معانٍ كثيرة، في حين أن البنية المادية لا تحيل إلا على نفسها، ولهذا، فإن تقييم الشعر لا ينطلق من البنية المادية أو المدلولات المباشرة، أو الملصقات الدلالية المباشرة، وإنما من الإيحاءات الجديدة التي تكتسبها في سياقها، ولهذا، خلص إلى أن الشعر بلا مجاز أو صور أو رموز ليس من الشعر في شيء... وهذا صحيح، فالشعر قيمته في المجازات الفنية والإيحاءات التي يخلقها، وليس فقط في تمظهر الكلمات ضمن نسقها فحسب، والشاعر هو الذي يحيي اللغة من خلال الأنساق الجديدة التي يخلقها، وقد خلص أدونيس إلى النتيجة التالية:" إن بقاء اللغة في مستوى الأشياء يجرد اللغة من فاعليتها: يجعلنا نؤكد الواقع نفسه الذي ندعي أننا ندعي لتغييره. ندخل في حالة نتكلم فيها كثيراً.. ولا شيء مع ذلك يحدث. ذلك أن اللغة تصبح في هذه الحالة امتداداً، أو انعكاساً سطحياً للأشياء، أي أنها تتحول إلى أقنعة، وتساعد في تثبيت الواقع الذي نرفضه- الواقع الذي يتنامى في العمل والكلام".

إن هذا الحس النقدي الذي يملكه أدونيس يثبت مقولة الإبداع بمرتكزاتها الفنية، فأدونيس يعي أن اللغة خلق فني، وابتكار لغوي. والقارئ المبدع هو قارئ حصيف لأنه يعي أن بقاء اللغة في مستوى الإيصال، والإفهام، أو الإبلاغ، لهو أمر يفقد اللغة خصوصيتها الشعرية، بل وينفي أن تكون هذه اللغة شعرية، لأن اللغة الشعرية هي ابتكار لعوالم، وعلائق، ورؤى تخيلية عميقة، تنقل اللغة من حيز البساطة والسذاجة إلى حيز العمق والتأمل والابتكار.

وقد تحدث أدونيس عن ظاهرة الشعر العربي الحديث، ووقف منها موقفاً تمحيصياً، دقيقاً في كشف مثيرات هذه الظاهرة، إذ يقول:"يمكن أن نصف ظاهرة الشعر العربي الحديث بأنها انفجار أكثر مما هي تطور أو تواصل... ومن خصائص هذا الانفجار، أنه يبتكر الأفق العربي، يؤصل ممارسة الحركة الإبداعية (حركة المستقبل)، ويؤسس الممكن- الحلم. قامت ثقافتنا العربية في"الجاهلية"، على الكلام المخطوب، لا على الكلام المكتوب. ولا بد من حفظ المخطوب لكي يستمر، وليس ما يحفظه بغياب الكتابة، إلا الذاكرة... ولئن كانت الكتابة –أساساً- للمعرفة التاريخية، الدقيقة نسبياً، فمن الممكن القول:" إن تاريخ جماعة بلا كتابة، إنما هو تاريخ الذاكرة... غير أن في الذاكرة نقصاً كثيراً، فهي لا تحيط بكل شيء، ولا تنقل بدقة الأشياء التي تحفظها، ثم إنها تنسى، بالإضافة إلى ما يلحق الرواية عبر تواتر الذكريات وتناقلها، من التشويه، زيادة، أو نقصاناً... ربما نجد في هذا سر التمسك العربي بالإيقاع. فهذا يسهل الحفظ، عملياً، عدا أنه يبهج ويطرب، من حيث أن النفس تستجيب له، موسيقياً. ربما، لذلك، أيضاً، أعطى أسلافنا الجاهليون الأولوية للشعر".

إن منظور أدونيس لظاهرة الشعر العربي الحديث منظور متطور، فهو يرى أن هذه الظاهرة طورت في شكل القصيدة ومنحاها الفني، فهي اعتمدت التغيير في رؤيتها ومسارها الفني، يقول أدونيس، في تأثر العربي بالموسيقى، بوصفها المحرض لتلقي القصيدة، والتفاعل مع إيقاعاتها الصوتية، مايلي:"الموسيقى، تتأسس شكلياً- أي في شكل، يتوازن، ويتواتر، ولا بد من أن تتشكل المادة الشعرية، وفقاً له: كل ذلك من أجل مزيد من القدرة على الحفظ والنقل في غياب الكتابة... الإيقاع وضوح الأفكار، إتقان الصياغة: تلك هي الأسس الجمالية التي بُنِيَ عليها الشعر في الجاهلية... فالقصيدة هي ثقافة تقوم على الذاكرة (أو الخطابة) أكثر من أن تكون مجرد نسق لغوي: إنها طاقة فعالة تستعيد ما سلف، وتحفظ ما يأتي. وهي، في هذا المنظور، تكاد أن تكون طقساً شعائرياً. كان الجاهلي يصف القصيدة، طقساً،ويصفها بالسحر، بالقوة، بالمتانة، وهذه صفات فعالية. نادراً ما كان يصفها بأنها"جميلة" كانت وظيفة القصيدة رمزية- اجتماعية هكذا، ارتفع الشكل كطاقة فعالة، إلى مستوى المبدأ. المبدأ، هنا مبدأ الجماعة أولاً، والفرد يتبناه. الشكل لا يعبر عن الفرد، الفرد يصقل، أو يهذب.. الكل الموجود قبله. لم يكن مطلوباً من الشاعر أن يتفرد، شكلياً. وإنما كان مطلوباً منه أن يتفرد، صياغياً. على العكس، كان يطلب إليه المنوالية- منوالية الابتداء، وفقاً للمبدأ. في هذا ما يفسر ثبات الشكل، كخصوصية ملازمة لثقافة الذاكرة، ووحدة الجماعة، كل خلخلة فيه تعني خلخلة في الثقافة والجماعة في آن. ربما كان ذلك صحيحاً، بالنسبة إلى الثقافة المخطوبة. لكن ألا تتخذ المسألة بعداً آخر، في الثقافة المكتوية في إرادة ثقل أحكام المخطوب وتعميمه على المكتوب، يكمن الخلل. وعلى هذا، لا يجوز أن ننتقد العناصر التي قام عليها" الوزن "، وإنما علينا أن ننتقد مدى القدرة على الإجادة. فلا بد من فرق أساسي ينشأ بين شعر ثقافة الخطابة، وشعر ثقافة الكتابة".

إن أدونيس يعلل الظاهرة، ويقف عندها موقفاً متأنياً، كاشفاً أبعاد الظاهرة، ومعللاً بعض القضايا بأسلوب كشفي، يعي أبعاد الظاهرة، ومنعرجاتها، فالقصيدة في القدم كانت تعتمد على الذوق الجماعي السائد، وليس على التميز الفردي، فالطقس الإبداعي يتعدى حاجز الفرد، إلى الجماعة. وفي هذا ما يقلل من العبث الشعري، أو الحياكة الشعرية، لدرجة أن الشاعر مرهون بالنسق العمودي للقصيدة القديمة، ووفق هذا التصور، يرفض أدونيس مبدأ السهولة والبساطة في الشعر إلى درجة يقرؤه الجميع ويفهمه كوثيقة كلامية سطحية أو ساذجة، مؤكداً أن الشعرية هي بعد إيحائي لا يلتقطه إلا من يمتلك الرؤية والأفق، إذ يقول:" القول بشعر يقرؤه الجميع، ويكتبه الجميع، يعني شيئاً واحداً: القضاء على الشعر. وفي مناخ هذه المقولة يعيش القارئ العربي- يعيش، في ما يشارك في القضاء على الشعر دون أن يدري.. ففي الشعر، نجد أن القارئ (أو الناقد) لا يصدر في أحكامه وآرائه إلا عما تأسس... فهو يقيس الحاضر بما مضى، وما لا يعرفه بما عرفه. وهو قلما يقبل أو يتذوق إلا ما يتحرك في اتجاه الماضي. أما الذي يتحرك في اتجاه المستقبل فإنه، في الأغلب، يرفضه، أو يشكك فيه، أو يهمله، تبعاً للحالة. وهو، إضافة إلى ذلك يفترض سلفاً حين يقرأ نتاجاً شعرياً، أن من أنتجه يصدر عن معرفة مشتركة بينهما. فهو يعتقد أن الشاعر لا يصح أن يتحدث إلا عن موضوعات يعرفها جميع القراء (أو النقاد). غير أن الجميع يقبلون بأن يتميز (أو يختلف) عنهم في شيء واحد، أن يتحدث عن هذه الحالة بلغة جميلة موزونة، يقبلون، بتعبير أدق، نظاماً خاصاً من الكلام... إن النظر إلى الشعر بوصفه مجرد لغة يؤدي، في هذا السياق، إلى القول: إن الكلام يكون عظيماً بقدر ما يمثل اللغة. هكذا، تكون عظمة الشعر" الجاهلي"، مثلاً، هي أنه يمثل اللغة العربية. من هنا صار نموذجاً ومقياساً لكل شعر بعده. وبقدر ما حاول الشعر أن يكون كلاماً خاصاً بمبدعه، رمى بتهمة الخروج والبدعة. اللغة، في هذا المنظور، قديمة أما الكلام فمحدث... والمحدث لا يقوم بذاته، بل يقوم بالقديم. وهذا يشير إلى أن الشعر يجب أن يظل أسلوباً في استخدام اللغة، أي تنويعاً على النموذج الأصلي، وهذا يؤدي إلى أن يكون الشعر استعادة، أي نسخاً، وتكراراً..غير أن الشعر العربي في معناه الأخير، خرق للعادة، أي أن يتفرد... لا نموذج له إلا ذاته".

هنا، يؤكد أدونيس أن الفهم المغلوط لدور الشعر، ووظيفته، أدى إلى تدهور النظرية الإبداعية الجديدة إلى الشعر، فمقياس الجودة -في الشعر- يكمن في جسارة اللغة، وأسلوب تشكيلها، فالشعر ليكون عظيماً ينبغي أن يمثل اللغة، ويكون مقياساً لجودتها وأصالتها، هذه هي الرؤية القديمة للشعر، فوظيفة الشعر ليست حفظ اللغة، أي حفظ قواعدها ومقياسها، وإنما وظيفة الشعر هي التجاوز، والخلق، وخرق العادة، وليس استعادة للنموذج الأصل، ويتابع نقد هذا المفهوم السائد للشعر ووظيفته قائلاً: "ويعني ثالثاً، أن القارئ أو الناقد يقفز رأساً، حين يقرأ نتاجاً شعرياً، على استعادة ما يعرفونه.. وما يعرفه إنما هو"فكرة"، أو "اتجاه"، أو "موقف". لذلك لا يهمه من هذا النتاج إلا أن يعرف اتجاهه، أو موقفه، أو فكرته. من هنا يسرع إلى التمييز بين "شكل" هذا النتاج، و "محتواه"، مع ميل إلى إهمال الأول، والتعلق بالثاني. والحرص على هذا التمييز ناشئ من اعتقاده أن المحتوى" فكرة" يعرفها هو كالشاعر.. لأنها" مطروحة في السوق" كما يعبر الجاحظ، وليس الشكل إلا إناء. وليست قراءته (أو نقده) إلا نوعاً من امتحان الشاعر في هذه "الفكرة". لكن صار من نافلة القول: إن المحتوى في الشعر لا وجود له، كما نقول إن الفكرة موجودة، أو الشجرة موجودة. فالمحتوى اصطلاحاً نقدي، أي أنه تجريد ذهني، والوصول إليه- إن كان ذلك ممكناً- لا يكون في عزله أو فرزه عن الشكل. فهو ليس شيئاً مستقلاً قائماً بذاته، لكي يمكن عزله أو فرزه. إن المحتوى -في الشعر -هو نوع من حضور الشكل وتوهجه على نحو فريد. وهذا إذاً، يتحول بحسب القراءة. وما دام تجدد القراءة ممكناً إلى ما لا نهاية، فإن تحول المحتوى ممكن كذلك إلى ما لا نهاية. ومن هنا، يوصف الشعر العظيم بأنه لا ينتهي، أو لا يستنفذ. وفي هذا ما يفسر كيف أن شاعراً يظل جديداً مهما تقدم الزمن، أو تقادم (أي مهما قُرِئ)، لأن القراءة مهما تجددت وتنوعت لا تستنفده، وكيف أن شاعراً آخر يصير قديماً، بالمقابل، منذ القراءة الأولى".
إن أدونيس يرى أنه لا يمكن عزل الشكل عن المحتوى في القصيدة، أو البناء الشعري، لأن الشكل والمحتوى جزء واحد، لا ينفصل أحدهما عن الآخر، ولا قيمة للشعر بمعزل عن المحتوى، ولا قيمة للمحتوى بمعزل عن الشكل، ومن هنا، يوصف الشعر العظيم بأنه لا ينتهي، فهو في توالد إيحائي لا تستنفده القراءات، ولا تحده المتغيرات، ويبقى دائماً في عطاء دائم وتطور دائم، ويقف أدونيس أخيراً، على القارئ الجيد أو القارئ الناقد، إذ يقول: "ويعني رابعاً أن القارئ (أو الناقد) يطرح نفسه كمستهلك، ويتكل على الشاعر (المنتج) كمادة استهلاكية. هكذا، يحول القصيدة، فيما يقرؤها إلى شيء يملكه.. ويهمله، أو يرفضه، وربما هاجمه واتهمه، وذلك تعويضاً عن عجزه الذي كان هذا الشعر سبباً مباشراً للكشف عنه. وبقدر ما يكون القارئ (أو الناقد) عاجزاً عن الاعتراف بحدوده، يكون إهماله/ أو اتهامه عنيفاً... وهكذا، تسود الحركة الشعرية الراهنة ظاهرة غير شعرية هي تفسير القصيدة غالباً، بعناصر من خارجها.. فالقارئ أو الناقد يحيل دائماً، حين يقرأ الشعر (أو ينتقده) إلى شيء آخر غير الشيء المطلوب. إنه يحيل إلى "الذاكرة"، أو "الاتجاه"، أو"الموقف"، أي إلى الجزء غير الشعري. إنه يفسر القصيدة بغيرها، ولذلك يقيمها بغيرها... وهكذا، فكل قصيدة لا يقدر أن يحولها إلى أفكار واتجاهات، تبطل أن تكون، في نظره، شعراً. ونادراً ما نعثر في النقد السائد على حكم للشعر وعليه بما هو. وكما هو. من حيث أنه تعبير له ما يميزه عن غيره من أشكال التعبير. ولهذا، كثيراً، ما نقرأه ونسمع مثلاً، مثل هذه الأحكام: شاعر عظيم، لكنه- سياسياً- متخلف، وهو بشعره لا يقدم شيئاً مهماً... شاعر عظيم... لكنه لو تسيَّس (في هذا الاتجاه)،وذلك بحسب القارئ أو الناقد لكان أعظم، أو على العكس، شاعر عظيم لكنه لو تخلص من السياسة لكان أعظم.. وهكذا، فالنقد السائد يتطلب من الشاعر الشعر، بل يتطلب شيئاً آخر هو، بذاته، غير شعري"

هنا يميز أدونيس بين قارئ مستهلك يرى النص مادة استهلاكية، ويطلب من الشاعر مادة استهلاكية،تروقه،ويستطيع أن يملكه بسهولة دون أقصى جهد، أو طول عناء، وكل ما هو صعب أو عديم التيسير يهمله، ويرفضه، وربما هاجمه، واتهمه بالغموض... وقارئ آخر يعي حقيقة النص والنقد، ويفهم مداميك الكلام، وأبعاد الرؤية، لأنه يعي أن النص هو كون الشعر، ولا ينبغي أن يتسيّس إلا بسياسة الشاعر ورؤاه. وليس بسياسة القارئ أو المتلقي، ويخلص أدونيس إلى القول:"أضيف إلى ما تقدم أن الإيديولوجية تحول المعنى إلى شعار. والإشارة إلى إدارة.. فكلمات السلطة تلغي سلطة الكلمات. ضد كلمات السلطة تتأسس سلطة الكلمات. أن نستخدم الكلمات الشعرية ليس أن نعطيها معنىً إيديولوجياً، وإنما هو أن نخصها ونحركها، ونجري عليها تحويلات تخييلية، ونصدها، وندخلها في دفق الذاتية، هو أن نحولها إلى صورة، أن نصغي إلى صمتها الباطن، أن نكشف ما تخبئه وراء صمتها. الكلمة لا تأخذ معنًى حقيقياً إلا حين تغير معناها. هنا، ندخل في ثورة من نوع آخر: ثورة الممكن على الواقع، ثورة المجهول على المعلوم، ثورة الباطن على الظاهر، ثورة الكامن على الراهن، ثورة الآتي على الحاضر. وفي هذا تستسلم الكلمات للعبها البدئي، تستسلم لحب حر، وتبادل حر، تخرج الكلمة من معجم العادة والإيديولوجية، لتدخل في حركية الانفعال، والحياة، والرغبة".

إن أدونيس يقف على حقيقة الرؤية الإيديولوجية للنص الشعري، فكلمات السلطة -على حد تعبير أدونيس- تلغي سلطة الكلمات، فالكلمات الشعرية تحيا بالنص الشعري، والشاعر المبدع هو من يعيد الكلمات إلى رحم الحياة، بأبعاد تخييلية ورؤى جديدة، عليك أن تكشف ما في داخل الكلمات، وما يربطها بالنص من جهة، والعالم الآخر الذي تعيش فيه وفق معطيات الواقع والحياة من جهة ثانية، وهنا نخلص من خلال تقصينا للكثير من الهواجس الأدونيسية إلى المنظورات التالية:

إن أدونيس أثار مسألة النص الشعري، وطرح العديد من القضايا الشعرية والأدبية المهمة، منها مسألة (الواقع/ والخيال)، ومسألة (النص الشعري المعاصر/ والنص الشعري القديم)، وقد أكد على صحة منظوراته، وبرهن عليها/ برؤى جديدة، ومنطلقات تحليلية عميقة.

إن أدونيس نزع إلى التركيز على الجزئيات، وصولاً إلى الكليات، أي أن الأدلة تبدأ من الجزء إلى الكل، ثم يتم استخلاص الحكم النقدي الدقيق،بعد البرهنة على صحته،وعمق طرحه،وإصابته جوهر الرؤيا أو الحقيقة الإبداعية.

برهن أدونيس على فهمه العميق للكثير من القضايا الأدبية المطروحة، وأكد على تجاوزه الآخرين في تنظيره للقضايا الأدبية، والبرهنة عليها.

شعرية الحدث:

مامن شك في أن (أدونيس) يعد من أبرز الشعراء والنقاد العرب الذين نظروا إلى الشعرية من منظار نقدي شمولي، وهو من أهمهم – على الإطلاق- في رصد ظاهرة الشعرية في النصوص العربية قديماً/ وحديثاً، وقد قسم الشعرية شعريات: [شعرية الحضور، وشعرية القراءة، وشعرية الهوية، وشعرية التجديد، وشعرية الاستعادة، وشعرية الكشف، وشعرية المؤالفة/ وشعرية الحدث]، وإننا آثرنا أن نقف على شعرية الحدث، لتبين ماذا يعني أدونيس بشعرية الحدث،وهي للحدث شعرية؟ وإذا كان ثمة شعرية في تشكيل الحدث؟!! ماهي أشكالها؟!! وكيف تتشكل مقوماتها الشعرية؟!! هل أدونيس سيجيبنا عن هذه الأسئلة المستعصية؟!! بوعي وشمولية تامة.. هذا ما سنبحثه معه في هذا المبحث الشائق الجميل، مبتدئين بقوله:" لم تعرف الكتابة الإبداعية في اللغة العربية التباساً يتصل بدورها وخصوصيتها، كهذا الذي تواجهه اليوم. وما أقوله هنا، لا يشمل مختلف أنواع الكتابة الإبداعية، وإنما هو خاص بالشعر. وأرجو أن ينظر إليه بوصفه اجتهاداً شخصياً، يهدف إلى إثارة النقاش، وإلى تأسيس حوار.... أود أن يكون خلاقاً، أكثر مما يهدف إلى تقديم اليقين... بداية، لكي نحدد دور الشعر في حركية المجتمع الراهنة، وبخاصة في جانبها الثوري....... كان الشعر، بالنسبة للعربي قبل الإسلام، معرفة أولى. كان، بتعبير آخر، مقاربة معرفية خاصة حساً، وفكراً، للإنسان، والأشياء، والعالم. بل كانت تحبط بانبثاقه هالة أسطورية- غيبية يرمز لها وادي عبقر، وآلهة الشعرية، مما يشير إلى أنه كان يتنزل على الشاعر بنوع من الوحي، وذلك بوساطة الجن أو الشياطين وفقاً للمصطلح الديني، ومما يشير -كذلك- إلى أن في الشعر معرفة غير عادية، تتجاوز المعرفة المحسوسة الواقعية، وإلى أنه يصدر عن تجربة تتجاوز رؤية الموجود الواقعي إلى رؤية ما وراءه. فالشعر، في الحدس العربي الأصلي، وفي اللغة العربية، تجربة استشراف للواقع وما وراءه، وكشف عنهما. ويبدو، تأسيساً على ذلك، وضعه بأنه مجرد مستودع لعادات العرب، وقيمهم، وتقاليدهم، أو مجرد سلاح يقاتلون به، فخراً، أو هجاء، أو مدحاً، إنما هو قول تمليه نظرة وظيفية للشعر، سطحية وآلية".

إن الكتابة الإبداعية حدث فني، يستظل الشاعر من خلاله الرؤى والدلالات، ويوجه منحى الحدث الشعري،بل يتحكم به بشكل مسبق،لأنه ناتج قبلي،أي مهيأ قبل إنتاج القصيدة أو تشكيلها. وهذا ما أكده أدونيس بقوله: "فالشعر ليس شكلاً لذاته، قائماً بذاته في الفراغ، وإنما هو في التحليل الأخير، تعبيراً ونشاط اجتماعي. وهو، بوصفه، كذلك، مرتبط عضوياً بقضايا الإنسان والمجتمع، خصوصاً ما اتصل منها بالتحرر والتغير. لكن المسألة ليست في هذا الارتباط، مبدئياً، فهو أمر طبيعي وبديهي. فما من أحد يعزل الشعر أو الكتابة الإبداعية عن الواقع وقضايا الإنسان، ويقذف بهما إلى الفراغ، وإنما المسألة هي في معنى هذا الارتباط، وفي نوعيته، وكيفيته. وهذا قلما نناقشه، بل إننا نهمله، غالباً، حاصرين كلامنا في ما يؤكد على أن الشعر وسيلة لتجميل الأفق النظري والعملي الذي تختطه أو تفتحه الإيديولوجية... فنحن نبحث في استخدام السلاح، أكثر مما نبحث في السلاح نفسه: ما هو؟! وكيف؟... هكذا، يبدو أن الالتباس الذي يحيط بالكتابة الإبداعية يتمثل، نظرياً، في تحديد طبيعة العلاقة بينها، وبين الواقع المتحرك – حدثاً أو عملاً، من جهة، وبينها، وبين النظام الثقافي السائد من جهة ثانية، وهو يتمثل، عملياً، في كون الشاعر العربي الحديث، يتحرك، إبداعياً بين تقليدين: تقليد القدم، وتقليد المعاصرة، اللذين، يجعلان من الشعر، بمنظوره الخاص، عملاً وظيفياً".

فالشعر- في المنظور الأدونيسي- ليس شكلاً قائماً بذاته، مؤسساً بطريقة مخصوصة، فحسب، وإنما هو تعبير فني مرتبط بالمجتمع والإنسان، وعلى الشاعر أن يتجاوز في منظوره الطابع المادي التقليدي، مكرساً جل منظوراته إلى خلق الطقس الإبداعي الجديد، بعيداً عن تقليد القديم، أو تقليد المعاصرة، عليه أن يخلق الشعر خلقاً فنياً لا أن يجعله عملاً وظيفياً، وهنا، يقف (أدونيس) على مسألة مهمة هي مسألة (تقويم الشعر الحديث)، كيف يتم تقويمه؟!!،وما هي الوسائل والسبل المفضية إلى تقييمه تقييماً صحيحاً ودقيقاً، إذ يقول: "الحال أن الشعر العربي اليوم، يقوم، إلا في حالات استثنائية، لا تشكل قاعدة، بوصفه إناءً ناقلاً للأفكار، وأداةً للفعل والتأثير، وليس بوصفه تجربةً كيانية لها عالمها المتميز الخاص، إنه بتعبير آخر، يقوم بوصفه كلاماً ثانياً على كلام أول هو الكلام القديم، الديني والشعري، أو الكلام المعاصر- السياسي- الإيديولوجي. فالوعي الشعري السائد في المجتمع العربي ليس وعياً للشعر من حيث أنه مقاربة خاصة في معرفة الإنسان، والأشياء، والعالم، بل من حيث إنه وظيفي وفعالية. وقد ألف الجمهور العربي تذوق هذا النوع من الشعر المجرد من الخصوصية الشعرية، بسبب التسييس السطحي، أو الجهل، أو ضعف الثقافة الإبداعية. وكان للمشروعية التراثية التي تضفي على تحديد الشعر بأنه الكلام الموزون المقفى، أثر بالغ في جعل معيار الشعرية ظاهرياً، يرتبط بالوزن والقافية، بدلاً من أن يكون داخلياً عضوياً، يرتبط ببنية الكلام، وجدة الرؤية".

إن أدونيس يبين –بدقة ووعي معرفي- المنظور التقليدي المعتاد في تقييم الشعر العربي في القديم، إذ ينظرون إلى الشعر من منظار الدلالات والأفكار التي يبثها، لا من حيث تمثيله للتجربة الشعرية، بإيحاءاتها، ومدلولاتها الباطنية العميقة، إنه استغراق في باطن الذات، إنه خلق للنص، وليس فقط تجاوزاً أسلوبياً للتشكيل، أو البناء النصي، وذلك بسبب النظرة التقليدية السائدة إلى لغة الشعر، بوصفها الشعرية مجرد كلام موزون، دون ارتباط عضوي بين طبيعة القول الشعري، والرؤية المطروحة، ولعل في فهم أدونيس الدقيق للشعرية، ما يؤكد أن الشعرية منظور مفتوح، تبعاً للرؤية التي يمثلها، والاتجاه النقدي التأويلي في تبنيها،وبهذا المقترب يقول أدونيس في النظرة التقليدية للصورة: " إن نظرة سريعة إلى الصورة التي يقدمها الشعر السائد، تكشف عن هيمنة الوظيفة عليه، مما يقتضي التساؤل عن السبب في رسوخ النظرة الوظيفية إلى الكتابة الإبداعية في المجتمع العربي، فظني أن ذلك عائد إلى الأمور التالية:

أولاً- يكشف الشعر عن نوع من المعرفة، ترتبط بالمكبوت اللاعقلاني، في الإنسان والمجتمع، يصعب إخضاعها لضوابط النظام المعرفي الديني، أو الإيديولوجي، وفي هذا الكشف يبث الشعر استحالة المعرفة الشمولية الكلية التي ينسبها هذا النظام لنفسه، ويؤكد أن المعرفة انفجارية، متحركة، مفاجئة، من هنا تجد الإيديولوجية، دينية كانت أو علمانية، في الشعر ما يشوش نظامها المعرفي، أو ما تشكك في يقينيتها...

ثانياً- الشعر، بوصفه كلاماً، بادئاً، ليس دخولاً في ما يفكر به، بل في ما لم يفكر به، وهذه دعوة تشير إلى أن الشعر يكتشف أبعاداً معرفية وجمالية لم تكشفها الإيديولوجية، دينية وعلمانية، وهي، إذن، تشير إلى قصورها المعرفي، ومحدوديتها.

ثالثاً- يكتشف الشعر حقائق، لا تثبت بالتسليم الديني، ولا بالجدل العقلي- البرهاني، وإنما تثبت بالذوق، أو بنوع من الحدس، يتعذر تحديده. وفي هذا يبدو على طرفي نقيض مع كل نظام معرفي إيديولوجي.

رابعاً- الدين جواب، والإيديولوجية هي كذلك جواب. أما الشعر فلا يقدم جواباً. إنه سؤال- استبصار... إنه يتناقض مع كل نظام معرفي، مغلق، ووثوقي... إذا أضفنا أن الإبداع هو، جوهرياً، حرية، بمعناها الشامل، وبمستوياتها جميعاً، ندرك أن دراسة الالتباس الذي أشرت إليه يقود مباشرة إلى عدد من التناقضات بين [الشعر/ والسلطة]، سواء تمثلت في النظام السياسي السائد، أو النظام المعرفي الديني، أو النظام المعرفي الإيديولوجي. وهي تناقضات تتصل بمعنى الكتابة الإبداعية، في مختلف تجلياتها، ومعنى ارتباطها بالواقع، ومعنى كونها ثورية أو مقاومة، ومعنى دورها في المجتمع".

إن الشعر – في المنظور الأدونيسي- متغير لا يثبت على حقيقة، فهو دائم في بحث متواصل عن رؤية جديدة، ومنظور مغاير لما هو معتاد ومألوف، الشعر سؤال متواصل، سؤال يجر سؤالاً ومنظور متغاير يفجر سلسلة من الرؤى والتساؤلات، فهو ليس حقيقة. ولا يمكن للشعر أن يسلم إلى حقيقة مهما كانت، أو إلى جواب نهائي ومحدد، إن الشعر لا يقدم أجوبة،ولا يثبت على براهين، وإنما يطرح أسئلة، وفي خضم هذا يبدو الشعر دائماً في بحث متواصل، وسعي دائب عن منظور جديد لهذا الكون، المتغاير في زمانه وحركته الكونية. وهنا، يحدد أدونيس موقفه الشخصي منه قائلاً:"وموقفي هو أن الشعر في ذاته ثوري بوصفه، حدثاً إبداعياً: فهو ثورة داخل اللغة، من حيث إنه يجددها، وثورة في الواقع نفسه، من حيث أنه يرى إليه رؤية تجديدية، ومن حيث إنه يغير، بتجديده اللغة، صورة الواقع، أي العلاقات القائمة بين الأشياء والكلمات، وبينها وبين الإنسان، وهو، كذلك،ثورة في وعي الإنسان. وفي هذا الإطار نفهم كيف أن اللغة مجموعة من الكلمات- الكائنات الحية التي لها عمرها وتاريخها الخياليان والفكريان، وتفهم كيف أن بعضها يشيخ، أو يموت، ويزول من الاستعمال، وكيف أن بعضها يتجدد أو يولد، وكيف أن بعضها الآخر يفرغ من دلالته القديمة، ويكتسب دلالة جديدة. فالشعر ثوري لا بكونه يتحدث عن قضايا ثورية، بل بكونه يحمل رؤية جديدة بلغة جديدة".

فالشعر- في المنظور الأدونيسي- حدثاً إبداعياً، وهذا الحدث الإبداعي هو حدث ثوري، فالشعر الحقيقي ثورة من حيث تجديد اللغة، وتحميلها رؤية جديدة، والشاعر بوصفه مبدعاً فهو مشروع ثوري إبداعي، لأنه يفرغ اللغة من دلالاتها القديمة، ويكسبها دلالة جديدة، والشعر ثوري –بوصفه- حدثاً ثورياً وإنما وصفه حدثاً إبداعياً، مغايراً، لما هو مألوف أو معتاد من القول، ويتابع أدونيس قائلاً: "غير أنني حين أصف الشعر بأنه في ذاته ثوري، لا أفصله عن الواقع، أو عن الإنسان، أو عن الحدث نفسه، وإنما أفصله عن الوظيفة من جهة، وأفصله من جهة ثانية، عن السلطة في مختلف أشكالها وتجلياتها، وعن كل نظام معرفي، مغلق، ووثوقي، بحيث لا تكون علاقته بالواقع وظيفية، وإنما تكون علاقة كشف واستقصاء في أفق جمالي- تخييلي مفتوح... إن الشعر الوظيفي هو الذي ينظر إلى الحدث بوصفه موضوعاً خارجياً، فينقله تمجيداً أو تقبيحاً، وهو، يقوم بوظيفة يمكن أن يؤديها الكلام الإعلامي بحصر المعنى، أو أي نوع آخر من الكلام الإخباري، التحليلي. أما الخصوصية الشعرية فمن طبيعتها أنها تحيل الحدث إلى رمز، بحيث لا تردنا إلى الحدث بما هو، وكما هو، وإنما تردنا إلى دلالاته أو أبعاده، في الحركية التاريخية- ناقلة حواسنا وووعينا في أفق جمالي تخييلي، قوامه اللغة وعلاقاتها".

إن الشعر الوظيفي يقوم بوظيفة يمكن أن يؤديها الكلام الإعلامي، أو أي نوع آخر من الكلام الإخباري، وهذا هو ما يفقد الشعر جوهره الحقيقي الوجودي المميز له، فالشعر ليس إيصال أفكار ومعلومات، وإنما هو خلق رؤى، وإيحاءات، ورموز جديدة، تمغنط التجربة الشعرية، ولا تقف حيال السطح اللفظي المباشر، بمعنى أن للغة الشعرية خصوصيتها المميزة، لأن من طبيعتها أنها تحيل الحدث إلى رمز، وتغير في مسار الحدث، وشكله، وأبعاده، ودلالاته، ناقلة حواسنا ومداركنا في أفق تخييلي جمالي قوامه اللغة، وعلاقاتها، ومنعرجاتها الدلالية في السياق النصي،وبناءً على هذا، يرى أدونيس أن الشعرية ليست كشفاً عن الحدث، وإنما تكشف عن صيرورة الواقع بمسار نصي جديد، ولهذا، يفقد الشعر الوظيفي دوره لأن وظيفته الأساسية الإخبار أو الإبلاغ... والشعر الإيحائي وظيفته نقل التجربة، وأحداث التأثير في المتلقي،أي لها وظيفة نقل وإثارة وتكثيف،وليس مجرد ناقل رؤى وأفكار فحسب، وهنا يؤكد أدونيس مقولة صائبة:" إن الوظيفة لا تجرد الشعر من هويته وحسب، وإنما تقتل اللغة الشعرية ذاتها: تحولها إلى أدوات تزيين أو تقبيح، فتنتج شعراً لا يؤثر بخصوصيته الشعرية- اللغوية، بل بالموضوع الذي يتحدث عنه، شأن النثر العادي. والواقع أن طغيان الوظيفية آخذ بتحويل القصيدة، إلى نوع من المقالة تتضمن كل شيء إلا الشعر. ومما يعقد المسألة أكثر أن هذه الوظيفة تجد استجابة لدى الجمهور بسبب التربية الثقافية التي ورثوها، والتي لا تزال تهيمن على حياتهم في البيت والمدرسة والجامعة والشارع، ويؤثر الشعر بهذه الخصوصية حصراً، ولهذا، فإن تأثيره مختلف عن التأثير الذي تمارسه أنواع الكلام الأخرى، ومن هنا، فإن حقل التأثير في الشعر ليس حقلاً إيديولوجياً- أو حقل أفكار، وإنما هو حقل رؤى، وأحلام، وانفعالات، أو هو، بعبارة ثانية، حقل تخييل لا حقل تعقيل. حين أقول هذا لا أعني أن الشعر مناقض للفكر، وإنما أعني أنه ينقل الفكر بطريقة تبدو فيها الفكرة أنها تشع من القصيدة، كما يشع ضوء الشمس من الشمس، أو كما تخرج الرائحة من الوردة".

إن الوظيفة الشعرية التي تقوم عليها القصائد الشعرية هي الرؤى، والأحلام، والانفعالات، وليس حقل الأفكار والإيديولوجيات، فلغة الشعر لغة تخييل لا حقل تعقيل -على حد تعبير أدونيس- ولهذا، رأى أدونيس أن لغة الشعرية المعاصرة هي لغة تجديدية باستمرار، بتجدد الأيام، وتجدد اللحظات، وتجدد الحياة، وهذا يعني أن اللغة الشعرية تتغير بتغير الجدل اليومي، والمسار اليومي لحياة الشاعر، ولذلك يقول أدونيس:" يفترض أن تكون اللغة الشعرية جديدة دائماً، لا يمكن التعبير عن حدث ثوري باللغة اليومية الشائعة، لأن ذلك جديد، وهذه شائخة، لذلك تلزم للتعبير عنه لغة جديدة، دون ذلك لن يكون هناك أي معنى تغييري أو تجديدي للثورة، أو لتطور اللغة الشعرية وتحولاتها. وفي هذا، نفهم دلالة القول: إن الشاعر يجدد اللغة، ويعطي للكلمات معنى أنقى لكي تكون أكثر قدرة على التعبير عن عالم يتجدد، فالإبداع الشعري يُطَهِّر -هو أيضاً- جسم اللغة، شأن الحدث الثوري الذي يُطَهِّر جسم المجتمع، وكأن المبدع، في كل ميدان، نوع من آدم جديد: لا آدم استعادة وتكرار، بل آدم إبداع يسمى الأشياء تسمية جديدة. ومعنى ذلك أن المبدع يعود في عمله دائماً إلى اللغة ذاتها، وإلى الأشياء ذاتها، لإقامة علاقات جديدة، بينها وبين الكلمات،ولتوليد حساسية جديدة. خصوصاً أن المعرفة تشيخ، لذلك، لا بد دائماً من لغة جديدة تقول الأشياء بشكل جديد، من أجل تجدد المعرفة وتجدد العالم. وفي هذا الإطار -تعييناً- ينصهر الحدث رمزياً، في حركة الإبداع الشعري، بحيث يحقق الشعر تخليص اللغة من أشكال الشيخوخة، والتجسيد المسبق للغة الفنية المتحررة، لغة العالم المقبل. وبهذا المعنى، نفهم كيف أن الشعر لا يكون نفسه إلا بقدر ما يكون ضد الوظيفية، وضد اللغة الشائعة فيما وراء الحدث".

إن إدراك أدونيس لمسألة الإبداع الشعري يؤكد فهمه العميق لمتغيرات اللغة الشعرية،فهو يرى أن اللغة الشعرية لغة جديدة متجددة على الدوام، فهي ليست تشكيل مسبق للغة، وإنما هي استحداث جديد وخلق جديد للغة، وتوليد إبداعي متواصل لأنساق جديدة دائماً، والشعر - بناءً على ذلك- يقوم بتخليص اللغة، من موروثها، وعلاقتها القديمة، ليخلق علاقات جديدة، تزيد من دور اللغة،وفاعليتها، ووظيفتها في التعبير عن التجربة الشعرية، أو الحدث الشعري بعمق وشمولية، وكلما تفنن الشاعر في تشكيل اللغة استطاع أن يشعرنها بما يتلاءم وطبيعة التجربة الشعرية المعيشة، ومدلولاتها النصية المنفتحة انفتاح الحياة الكون والوجود، يقول أدونيس: "في هذا يبدو لي أن المسألة المطروحة علينا جميعاً، وبخاصة القوى الثورية، ليست في الإصرار على وظيفية الكتابة الإبداعية- ارتباطاً بالحدث، سلباً أو إيجاباً، وإنما هي في الإصرار على العمل، لتهديم كل ما يحول بين الكتابة الإبداعية، والإفصاح عن الواقع، في مختلف مستوياتها: ما اتصل منها بالإنسان والمجتمع والطبيعة، وما اتصل منها بما وراء الطبيعة إنها في الإصرار على توسيع حدود الحرية، في سبيل توسيع استقصاء الإنسان والوجود معرفياً وجمالياً.. والمسألة هي لذلك، ومن باب أولى مسألة وعي آخر لا يستعيد وعي السلف بلبوس مستحدث، بل يكون جديداً جذرياً، بحيث يكون التغيير شاملاً، لا يقتصر على البنى السياسية / الاجتماعية، من خارج، وإنما يشمل بنية الوعي، وبنية الفكر في الإنسان، من الداخل".

ويؤكد أدونيس أن الكتابة الإبداعية ليست ارتباطاً بالحدث الثوري إن سلباً أو إيجاباً، وإنما هي تفعيل لروح الإبداع، والتميز، ولهذا، فوظيفة الكتابة الإبداعية أعمق من أن تحدد في نمط أو أسلوب، إذ يقول: "إن الكتابة الإبداعية، بالنسبة إلي، أعمق، وأغنى، وأشمل من أن تنحصر في وظيفة ما. إنها رمز أساسي لوجودنا الإنساني، ورمزاً أول لهويتنا، في ميدان الإبداع الحضاري، ومن هذه الزاوية لا تقاس قيمة الكتابة الإبداعية بفائدتها السياسية أو الاجتماعية المباشرة، وإنما تقاس بمستوى احتضانها الإنسان العربي، في هويته، وقلقه، وتطلعه، وإبداعيته، وحريته، وجوداً ومصيراً.. فمسألة الكتابة الإبداعية أبعد من أن تنحصر في مسألة العلاقة مع الواقع أو الحدث، بهذا الشكل أو ذاك، إنها تجربة كيانية في رؤية الإنسان والوجود، كمثل التجربة الدينية، وكمثل التجربة العلمية، وكمثل التجربة الفلسفية".

إن الكتابة الإبداعية- في المنظور الأدونيسي- هي التي تجسد قلق الإنسان، وتجسد وجوده، وتجسد كذلك رؤيته، وتطلعه، وإبداعه، فلا تنحصر الكتابة الإبداعية بالواقع، وما تبثه من رؤى محايثة للواقع بأحداثه، ومقارباته الحسية المباشرة، وإنما هي نبض، وروح، وشفافيته مطلقة، يقول أدونيس:"إن الكتابة الإبداعية دخول فيما تحت الواقع العربي والجسد العربي، إنها استبصار في هذا العالم المقنع، المكبوت، المقموع، واستقصاء له، من أجل رجه وزلزلته. إن هم الكتابة الإبداعية هم إنسان وحضارة، لا هم حدث أو عمل بذاتها ولذاتها. وهذا ليس ما نسميه بالواقع/ أو الحدث تبياناً لهذه الكتابة، إلا بقدر ما يكونان رمزاً إنسانياً وحضارياً- أي بقدر ما يختزنان من طاقته ترتفع بهما إلى هذا المستوى. ومن هنا، لا تُعنَى الكتابة الإبداعية برصد الحدث وملاحقته، شأن المدائح والأهاجي وشأن الأناشيد والأدعية والمراثي".

إن المنظور الأدونيسي، للكتابة الإبداعية، منظور متطور، فهو يعي أن الإبداع كشف واستبصار مبطن لما هو مكبوت ومقموع في مجتمعاتنا العربية، إنه تحريك للحدث، ورفض رصده وملاحقته، فالحدث الشعري لا يُنتَج إلا من باطن الرؤية، ومسارها الإبداعي،فهو يتشكل مع النص،يولد معه،وليس سابقاً أو تالياً له. وهنا، يؤكد أدونيس على" أن اللغة الوظيفية شعرياً كاذبة، فارغة، وباطلة، ولكي أقول إن المسألة هي العمل على توسيع مجال الفاعلية الإنسانية، وتحرير قوى الإنسان المكبوتة، وإلى تحرير أدوات الشعر، باستمرار، لتكون أكثر قدرة على الكشف، وطرح هذه التساؤلات توكيداً على أن الكتابة الإبداعية لا تكون ذاتها حقاً إلا في مجتمع يتحرك ببناه وطاقاته كلها. إبداعياً النضال، الاستشهاد، الافتداء الانتحاري... أعمال عظيمة مدهشة، لكنها تكتسب بعدها الأكثر فاعلية، حين تكون تتويجاً لمقاومة جذرية وشاملة، في العائلة، والبيت، في الشارع والمدرسة، في الجامعة، والحي. وهذا يفترض، إبداعياً، تفكيك البنى القديمة في مختلف المجالات، وتهديمها، خصوصاً، ما اتصل منها بالدين والسلطة والجنس، فهذه قلاع تحكم المجتمع العربي، ولا يجرؤ أحد إلى النفاد إليها.. وبغير هذا النفاذ، تفكيكاً، وتحليلاً، وتغييراً، يستحيل التغيير العميق في المجتمع، مهما تغيرت سياساته وسلطاته من فوق".

إن ما يشير إليه أدونيس يؤكد أن اللغة الشعرية- في مفهومها الإبداعي- هي تحرير أدوات الشعر، لتكون قادرة على الدوام على فاعلية الكشف والتجاوز الإبداعي، ولن تكون هذه اللغة قادرة على التغيير أو التهيئة له، في ظل سيادة العقلية القديمة،والمفاهيم القبلية السائدة (المتعلقة بالدين/ والسلطة/ والجنس)، وعلى هذا الثالوث تقوم حركة التطور في المجتمعات، وهي التي تحكم سيرورة المجتمعات، في الإيذان بتطورها، أو إبراز تخلفها، أو تأخرها، ويصل أخيراً إلى النتيجة التالية:" أخيراً، أدعو، في ضوء الالتباس الذي يحيط بالكتابة الإبداعية، على أن نعمل لكي نخلق وطناً صحياً للمبدع داخل لغته التي يكتب بها، لكي يمكن أن تكون كتابته صحيحة، وفعالة، وتبعاً لذلك أدعو إلى التساؤل الملح من جديد، بعد حوالي ألفي سنة من كتابة الشعر في مجتمعنا، وهو أطول تاريخ كتابي في أية لغة حديثة – أدعو إلى التساؤل الملح: ما الشعر وما الكتابة الإبداعية؟!.

إن هذا التساؤل الملح الذي أعاده أدونيس يؤكد أن الدائرة لم تقفل،وأن ما أثاره يبقى محط التداول والمناقشة،وأن الدائرة ماتزال مفتوحة،وفي هذا يدخل أدونيس القارئ في معمعة السر الإبداعي للكتابة الإبداعية، وتبقى هذه الدائرة مفتوحة على كل ماهو مستقبلي،ومنفتح على الأفق الوجودي المتغير مع الحياة.

نخلص من منظورات أدونيس إلى شعرية الحدث، إلى النتائج التالية:

إن شعرية الحدث - من المنظور الأدونيسي- لا ترتبط بالحدث الزمني، أو الحدث الواقعي المجسد، وإنما لغة الشعر المتمردة في شكلها وأسوبها هي التي تضع الحدث، أو طريقة التعبير عنه، وهنا، يقع أدونيس في مفارقة كبرى بين شعرية الحدث الواقعي، وشعرية الحدث المتخيل، فأدونيس يرفض الحدث الواقعي، بوصفه شكلاً، ورصداً للحدث من الخارج، وهذا ما يصفه بالحدث الشعري بإيحاء فني لا يحايث الواقع، وإن شاكله أحياناً.

إن شعرية الحث هي شعرية تنناقض مع الإيديولوجيات أو الخلفيات أو العقائد أو التقنيات، إنها لغة كشف واستبصار، وهذا يتنامى مع وظيفة الشعر، فالشعر -من المنظور الأدونيسي هو كشف، واستبطان، وإيحاء، لا رصد، وبراهين، وأدلة،وحقائق. لغة الشعر لا تسعى إلى الحقائق، وإنما تسعى إلى إثارة الأسئلة، والشكوك بالموجودات،بل والتشكيك بوجودها، بغية خلق الإثارة والتحفيز أي تحفيز الرؤى والتحريض على الاستفسار، والتأمل.. فلغة الشعر،إذاً، ليست لغة يقينيات ثوابت ورؤى قارة، وإنما هي لغة تفجير الأسئلة توليدها، للبحث الدائم والتأمل الخلاق، والكشف، والاستبطان العميق.

الشعر – من المنظور الأدونيسي- ليس من شأنه كشف الحقائق.... بالجدل العقلي، أوالتسليم الديني، وإنما بالذوق، والحس الشعري، والشعر -من واجباته الأولى في العرف الأدونيسي - أن يخلق الرؤى، ويثير التساؤلات، ويسهم في تشكيلها والتمهيد لها، لا أن يقف على الحقائق، والإيديولوجيات، التي تنقل الشعر من دوره الشعري الإيحائي، إلى دوره الوظيفي، ليكون أداة لنقل الأفكار، والمعارف، والحقائق،واليقينيات، وليس محرضاً أو باعثاً للإيحاء، وكاشفاً للرؤى الوجودية العميقة.

إن المسألة الوظيفية للشعر- في المنظور الأدونيسي- لا تجرد الشعر من هويته فحسب، وإنما تجرده من وجوده، فلا قيمة للشعر إن كان وظيفياً، فالشعر لا يكمن تأثيره إلا في خصوصيته الشعرية اللغوية لا في الموضوع الذي يتحدث عنه، بالشكل اللغوي المعتاد، إذ الشعر بناء إيحائي روحي لمكنون الذات، وكشف لاندماجها وتفاعلها مع العالم المحيط. وهو استبصار عميق للموجودات، وخلق للوجود بطريقة مغايرة ومثيرة في الآن ذاته.

الكتابة الشعرية وعلاقتها بالواقع:

لا شك في أن أدونيس قد وقف على حقائق شعرية مهمة، أسهمت -بشكل أو بآخر- في تحقيق أقصى درجات الخبرة المعرفية في التنظير للشعرية،والتأسيس لها،ولهذا تعد ظاهرة الكتابة الشعرية وعلاقتها بالواقع، من أبرز خصوصيات التشكيل الشعري، ومن أبرز المعضلات التي وقف عندها النقد العربي الحديث طويلاً، وتعد مسألة (الغموض/ والوضوح) من أهم المسائل التي شغلت النقد العربي في القديم والحديث معاً،ومازالت محط اهتمام واستقطاب الباحثين والدارسين في حقل الشعر والشعرية في زمننا الراهن، يقول أدونيس في تحليله لظاهرة الكتابة الشعرية وعلاقتها بالواقع ما يلي:" قد لا يختلف العاملون في حقل الشعر الجديد والمنجمون منهم على الأخص، في المبدأ القائل بأن الكتابة الشعرية ليست تفسيراً للواقع، وإنما هي تغيير له، لكنهم يختلفون في تفسير النتائج التي تترتب على هذا المبدأ... إذا كانت الكتابة الشعرية تغييراً أو تحويلاً للواقع، فإن هذا يفترض أمرين: الأول هو أن هذه الكتابة الشعرية ترفض الواقع السائد، أو بعبارة أكثر دقة، تنشأ، رفضاً له- والثاني هو أن أشكال تعبيرها تتعارض، بالضرورة، مع الأشكال التعبيرية المطابقة له. ذلك أن رفض" محتوى" الواقع السائد يقتضي رفضاً لشكله، أي لطرق إنتاجه، فما يصح -هنا- في مجال الاقتصاد وعلاقاته، يصح كذلك في مجال الشعر وعلاقاته الفنية، بتعبير آخر: إن شكل الإنتاج التقليدي لا يحمل إلا المضمون الإيديولوجي التقليدي، فتجاوز هذا المضمون يحتم تجاوز أشكاله. يعني ذلك أن الكتابة الشعرية ترفض السائد- بنية، وطريقة فهم، وطريقة تعبير، وعلاقات".

إن ما أشار إليه (أدونيس) أن الأشكال الشعرية ليست تحويلاً للواقع، وإنما تشكل رفضاً له، ومن ثم فإن أشكال تعبيرها تتعارض -طبعاً- مع أشكال التعبير المعتادة، ولهذا، فإن المضمون الإبداعي هو تشكيل جديد، وطريقة تعبير جديدة، بعلائق متميزة، ورؤى بعيدة، لا علاقة لها بالواقع، وإن حايثته -بشكل أو بآخر- ولهذا، فإن فهم (أدونيس) الدقيق لعلاقة الكتابة الإبداعية بالواقع،هو فهم دقيق وصحيح، ولكنه أغفل ناحية مهمة أو شكلاً جديداً مهماً، وإن حايث الواقع، ولهذا، فإن الكتابات الإبداعية الخالدة هي كتابات تحايث الواقع وتلامسه، ولا تشكل رفضاً له، وإنما صورة مزوقة عنه،وبهذا المقترب يقول أدونيس:" الكتابة الشعرية، إذاً، لا تصور الواقع، وإنما تفككه، أو تهدمه من أجل تحويله، ثورياً، فما تقوم به خصوصية العمل الشعري يسير في تواز مع ما تقوم به خصوصية العمل السياسي، في توازٍ لا في تبعية. وكما أن الممارسة السياسية لا تنهض إلا كانفصال عن الممارسات غير الثورية، فإن ممارسة الكتابة الشعرية لا تنهض إلا كانفصال عن الممارسة الكتابية التقليدية. يعني الانفصال، على الصعيد الشعري، مقاربة جديدة للحياة والأشياء، لا من حيث المضمون وحسب، بل من حيث الشكل، في الدرجة الأولى، لأنه هو المجال المباشر الذي يشير إلى أن للحياة والأشياء حضوراً آخر، ودلالات أخرى: يضعها في سياق مغاير، ويرسم صورة مختلفة".

ومن هنا، فالكتابة الشعرية لا تصور الواقع، وإنما تسعى إلى هدمه، وإعادة بنائه من جديد، هي أشبه بالعمل الثوري في المنظور الأدونيسي، وهذا القول مبالغ فيه كثيراً، فالكتابة الشعرية- وإن كانت خرقاً أسلوبياً أو انحرافاً في مسار التشكيل الشعري، فإنها لا تنفي الواقع نفياً مطلقاً، ولا تهدمه هدماً كاملاً، فالعمل الإبداعي مهما انفصل عن الواقع، لا بد له من ركائز ظاهرة أو باطنة تشده إليه، فالواقع -شأنه شأن المغناطيس- الذي يملك جاذبية للمعادن، وإن كان ثمة معادن لا تنجذب إليه، وهكذا العمل الإبداعي كذلك، فالكثير من النصوص الإبداعية - وإن نأت عن الواقع، لا بد من ركائز تشدها أو دلائل أو مؤثرات ترتبط بالجذر الواقعي، وإن امتدت في التخييل، ووصلت إلى قمة التجريد،وبهذا المنحى المقارب يقول أدونيس:" والكتابة –هنا- عمل مزدوج- واحد: تفجير اللغة الشعرية المثقلة بالإيديولوجية التقليدية، بسلطويتها، وقمعيتها، وتفجير أشكالها، أي تحرير اللغة من مناخها الفني التقليدي وإدخالها في مناخ آخر. هذا العمل الكتابي هو في ذاته عمل سياسي، فأن تكون الكتابة سياسية ليست في أن تتكلم على السياسة، أن تكون تابعة لها، وإن هي في أن تعيد تكوين الواقع بخصوصيتها الفنية. فالقصيدة لا تصنع ثورة: الشعب هو، وحده، صانع الثورة، لكن القصيدة هي محاولة العامل في حقل النتاج الشعري أن تسهم بخصوصية عمله الفني، في ابتكار صورة جديدة للواقع، تحتضن إمكان تغييره في أفق ثوري نهضوي شامل".

تأسيساً على هذا، إذاً، فالكتابة الإبداعية هي تفجير للطاقة اللغوية المثقلة بالأيديولوجية، في المنظور الأدونيسي،وبغية كسر قوقعه هذه الإيديولوجية لا بد من كسر روتين الواقع، والقصيدة تصنع ثورتها بشكلها اللغوي الجديد، وانبنائها النصي المبتكر، يقول أدونيس:"ليست القصيدة الثورية، إذاً، مضموناً ثورياً وحسب، وإنما هي -أيضاً- شكل ثوري جديد، بهذا المعنى، يصبح العمل الشعري الثوري، شأن العمل السياسي الثوري بياناً جماعياً بلسان العاملين لتغيير الواقع. ومن هنا، تصبح المسألة الأساسية في الكتابة الشعرية كامنة في كيفيتها. وهي – بذلك- لا تتوجه قصدياً إلى الجمهور بالمعنى الكمي- العددي، وإنما تتوجه إلى الجمهور بشكل عفوي، بجعله قادراً أن يتجاوز اللغة العادية المعمة إلى اللغة الرمزية- الإيحائية، ذلك أن القصيدة لغة لا تقول ما تظهره وحسب، وإنما تقول كذلك شيئاً آخر باطناً أو احتمالياً. هذا الشيء الآخر هو البعد الأكثر أهمية في القصيدة".

إن القصيدة الثورية- في المنظور الأدونيسي- ليست شكلاً ثورياً فحسب، وإنما مضموناً ثورياً، وهذا القول ينطوي على كثير من الفهم،والدقة، فالعمل الثوري هو بناء،وهدم، ونفي، ويقين، ومن هنا، فإن طبيعة القصيدة الثورية تسعى إلى تغيير الواقع بشكل جذري،وليس لترميمه وإصلاحه، فالقصيدة لا تقف حيال ما تظهره اللغة من دلالات، وإنما ما تستولده من دلالات جديدة قد تكون منافية أو معارضة لدلالتها في الأصل، بمعنى أدق: إن اللغة الشعرية تقول معناها وتتجاوزه إلى معنى إيحائي آخر جديد مستولد من السياق النصي الجديد الذي ضعت فيه، أي من السياق النصي للقصيدة، وهذا ما قصد إليه أدونيس بقوله: إن القصيدة لا تقول ما تظهره وحسب، وإنما تقول شيئاً آخر جديداً باطناً أو احتمالياً، وفي هذا القول يكمن عمق الحس النقدي لدى أدونيس، مؤكداً وعيه وحسه النقدي: "الجمهور الكمي- العديد يحمل في بنيته الذهنية، وفي ممارساته بنية الواقع السائد الذي ترفضه أصلاً الكتابة الشعرية، وتعمل على توليد الرغبة من أجل تغييره وتجاوزه. لذلك، لا تقدر أن تتكلم بلغته الشعرية، أو تخاطب جمهوره، وإنما تخاطب الجمهور العفوي الذي ينشط كل فرد فيه، بخصوصية عمله، فكراً وممارسة، لتفكيك الواقع وتغييره. ومع أن الشعر يخاطب هذا الجمهور، فهو لا يخاطبه بقصد التبشير أو التعليم، بل بقصد التوكيد على أنه يشارك في حركة التغيير الشاملة، عائشاً مع هذا الجمهور، متعلماً منه، ومعه.. وهكذا لا يعود الشعر كلاماً على العمل، يسوِّغه، أو يمجِّده، أو يدافع عنه، ولا يعود شارحاً أو واصفاً له، وإنما يصبح كلاماً يعمل، وعملاً يتكلم".

إن ما أشار إليه أدونيس فيما يتعلق بعلاقة الكتابة الإبداعية بالواقع يحيلنا إلى نقط مفصلية،ينبغي مناقشتها،وهي:

إن الكتابة الإبداعية تعمل على توليد الرغبة لتغيير الواقع، وهذا القول ينطبق على كل الكتابات الأدبية الشعرية، وغير الشعرية، فالمبدع لا يغير الواقع، وإنما يغير المنظور السائد للواقع، وطالما أن الشاعر هو بالأساس خالق لغة، أو مبدع لغة، لا بد أن يكون خالقَ واقعٍ جديد مغاير شكلاً ومضموناً للواقع المادي الملومس،وطالما أن أدونيس عدَّ الكتابة الإبداعية تجاوزاً في سيرورة الأسلوب، فهذا يعني أن تجاوز الواقع وهدمه ضرورة من ضرورات التغيير، والإبداع الشعري، وهذا يدعونا إلى القول: إن المبدع الحقيقي لا يخلق لغة جديدة فحسب، وإنما يخلق واقعاً جديداً، وهذا الواقع الشعري الجديد -وإن حايث الواقع المادي الأصلي - فهو واقع تجريدي إبداعي لا محالة.

إن أدونيس يرى أن القصيدة لا تقول كل ما لديها دفعة واحدة، وهذا صحيح من الناحية الإبداعية، لأن طبيعة النصوص الإبداعية على الدوام تبقى في توالد دلالي مستمر، واستبطان إيحائي ما دامت سيرورة الإبداع وزمن الإبداع قائماً، بمعنى أن النصوص الإبداعية تتجاوز زمنها إلى أزمنة أخرى، لهذا، فإن واقعها الإبداعي واقع منزلق، أو انزلاقي متغير بتغير الأيام والسنين، وهذا ما يفسر لنا بقاء الكثير من الأعمال الأدبية الشعرية خالدة رغم تقادم أزمنتها وتتابعها.

إن أدونيس يرى أن الكتابة الإبداعية لا تصور الواقع وتنقله فحسب، وإنما تفككه، أو تهدمه، وتعيد إنتاجه، وإن هذا القول على ما فيه من المغالاة يبدو قريباً من الصحة، فالكتابة الإبداعية في أساس تكوينها هي خرق، وتجاوز، ومغايرة في الشكل، والمنحى، والاتجاه،الأسلوب، وطالما أن الإبداع هو مغايرة فهذا يعني أنه نقض للواقع، والنص الإبداعي لا ينتج إبداعاً حقيقياً طالما هو في نطاق الواقع، أو في الحيز المغناطيسي للواقع، فالمبدع هو دائماً يسبح في عالم حر غير مقيد بحدود، وأزمنة، وأمكنة، فالأمكنة هي نواتج إبداعية، لإكساب العمل الشعري خصوصيته المقاربة للعالم المادي الذي يحايثه الشاعر نقداً، أو تحليلاً، أو كشفاً، والشاعر- من منظوري- لا يخلد بالواقع، ولا بالفلك الذي يحيط بالواقع، وإنما بالمنظور الجديد المغاير لسيرورة الواقع، وإن طابقه في بعض الأحيان.

علاقة الشكل بالمضمون/ أو المحتوى:

إن اهتمام (أدونيس) نقدياً ببعض القضايا الأدبية قد جعله يحتل موقعاً متقدماً بين الكتاب، والنقاد العرب، بوصفه ناقداً جريئاً تطرق إلى قضايا نقدية حللها، وكشف جوانبها، وقضاياها، بحساسية نقدية عالية، ومن ضمنها مسألة الشكل، ومنظوره إلى الشكل، إذ يقول:" إن الشكل الفني ليس مجرد تشكيل. الشكل هو الجسد البنيوي- الإيقاعي، وهو، إذاً، ليس مجرد تكوين أو تشكيل خارجي، وإنما هو تجسيد لوعي، ولحركة، ولمسار تاريخي.. الشكل الشعري، عند الفرزدق مثلاً، أو جرير، إنما هو، بمعنى ما، الطبقة السائدة في العصر الأموي، والنظام السياسي السائد، والفكر السائد. والشكل الشعري عند شوقي، مثلاً هو الطبقة السياسية التي كانت سائدة آنذاك، وهو الفكر الذي كان سائداً. الخروج، إذاً، على الشكل الشعري عند الفرزدق أو جرير أو شوقي، ليس مجرد خروج فني، وإنما هو كذلك، خروج سياسي وثقافي، خروج من حالة وعي معينة، إلى حالة أخرى".

إن الشكل الشعري- وفق المنظور الأدونيسي- ليس بالشكل المادي، أو الجسد البنيوي الإيقاعي للنص. وإنما هو بالوعي لحركة النص، ولمسار الطبقة السائدة في العصر الذي أنتج فيه هذا النص أو ذاك، إذاً، يتخذ أدونيس في مفهومه النص، بنظرية عمومية أشمل وأوسع من النظرية المحددة في إطار الشكل المادي الخارجي للنص، ولعل هذا الاتساع في تعميم الشكل الشعري سرعان ما يوقع المتلقي في حالة من التعميم، والشمولية، فمن المعروف أن الشكل الشعري لا ينفصل عن المضمون الشعري، ولعل هذا ما يؤكده تخصيصه فيما بعد لمسألة الشكل الشعري، بقوله:" إن شيئية أو موضوعية النتاج المادي لا تكمن في ماديته، بل في شكله، كما أفصح ذلك ماركس. القول نفسه يمكن أن ينطبق، بالأحرى على النتاج الثقافي. فموضوعية هذا النتاج أو شيئيته لا تكمن في مادة القول، وإنما تكمن في نظام القول. وهذا ما ينطبق، بشكل أخص، على الشعر، والفن بعامة، ولهذا، فإن النقد الذي يريد أن يغير، أي أن يعيد تكوين الواقع في اتجاه الثورة، لا يمكن أن يكتفي بتأويل محتوى النص الذي ينقده، وإنما يجب أن يتناول -في الدرجة الأولى- نظامه القولي، أي بنيته الشكلية- الإيقاعية، أعني موضوعيته، أو شيئيته، كنص معطًى للقارئ، ماثل أمامه موضوعياً، ذلك أنه لا يلتمس معايير ثورية.. النص ليس في محتواه، وإنما في نظامه التعبيري".

إن ما وقف عليه أدونيس يضعنا أمام إشكاليات ومنظورات مغايرة عدة، لابد من مناقشتها بدقة، وفق ما يلي:

إن أدونيس ينظر إلى الشكل من حيث شيئيته، أو ماديته، ولا ينظر إليه من حيث نظامه البنيوي الذي يحكم سيرورة الدلالات في النسق الشعري، ولهذا، فموضوعية الشكل - من المنظور الأدونيسي- موضوعية مادته، وهذا مناقض لحقيقة الشكل، فالشكل الشعري ليس إطاراً خارجياً، أو مادياً فحسب، وإنما هو حيازة لأنساق داخلية تنبني على كثير من التنظيم، والتوازن النسقي، فالشكل المنظم يعكس باطناً منتظماً، أو مضموناً منظماً، وهذا القول على ما فيه من مجازفة يبرهن على أن الشكل ليس إطاراً - على نحو ما ذهب إلى ذلك أدونيس- وإنما بناءً منظماً لسيرورة الدلالات، ومسارها الفني.

إن الشكل الشعري- عند أدونيس- يكمن في بنيته الإيقاعية، أو شيئيته، كنص معطى للقارئ، ماثل أمامه موضوعياً، وهذا القول -على ما فيه من دقة- ينطوي على مفارقة كبيرة، فالشكل الفني ليس مظهراً، وإنما سيرورة بناء، وتشكيل، وتمظهر مفرداتي، وبقدر ما يمتثل الشكل في نسق منظم يوحي بدلالات جديدة، ورؤى عميقة يمثلها النص، ويبثها في محتواه، فالشكل ليس بناء خارجياً، ومظهراً سطحياً، وإنما هو كينونة نصية لها أبعادها من التنظيم والتنسيق الدلالي، وليس الإيقاعي فحسب.

إن أدونيس ينظر إلى الشكل من زاوية مادية محضة، وهذا الأمر يفقد منظوره للشكل مصداقيته المعرفية، لأن الشكل لا ينطوي على حيز مادي فحسب، وإنما ينطوي على أنساق باطنية منظمة لكينونة الشكل، والقصيدة ليست جسداً مادياً، وإنما هي روح تخفي تحولات المعنى، ودفقه الوجودي، وهذا القول يؤكد أن شعرية الشكل تكمن في نظامه، وأسس بنائه وليس في شيئيته وشكله الخارجي.

الشعر والسياسة:

من القضايا النقدية التي طرحها أدونيس ولاقت رواجاً واسعاً بين جمهرة المتلقين:(علاقة الشعر بالسياسة)، كيف نظر أدونيس إلى هذه العلاقة؟! هل علاقة الشعر بالسياسة علاقة حاجة أم ضرورة؟! هل هي علاقة حميمية مرتبطة منذ تاريخينا العربي بالواقع الاجتماعي وإفرازاته وتحولاته الوجودية؟!

إن الإجابة عن هذه الأسئلة تضعنا في صلب المسألة [ علاقة الشعر بالسياسة] من المنظور الأدونيسي، إذ يقول:" العمل السياسي جانب واحد من الحركة الثورية. والفاعلية الإبداعية الفنية، جانب آخر. العمل السياسي والعمل الثقافي، والعمل الشعري أجزاء من كل واحد، من العمل الثوري الشامل... وأنا هنا لا أفصل. وكما أن هناك فرقاً بين الشعر كرؤيا إبداعية للعالم، والقصيدة المتحققة بحسب هذه الرؤيا. فإن هناك فرقاً بين السياسة كرؤيا لبناء الإنسان والعالم، والممارسة، أو العمل السياسي. كل نشاط يقوم به الإنسان هو، بهذا المعنى، سياسي. لكن القصيدة، كممارسة كتابية، فقد تتعارض مع العمل السياسي، بحصر المعنى. ذلك أن هذا العمل يقوم على الحدث، وهو تابع له. بينما القصيدة تتجاوز الحدث، وإن انبثقت عنه، وأثر فيها... لذلك، حين نصر على أن يكون الشعر تابعاً للعمل السياسي، للممارسة السياسية، فإننا نصر على إنهائه كفن له خصوصيته، واستقلاله. وحين يفقد الشعر خصوصيته واستقلاله، يفقد هويته، ويغدو لا هوية له، ولا دور له، والتوكيد على أن للعمل السياسي خصوصيته، وعلى أن للكتابة الشعرية خصوصيتها، وعلى أنهما جزآن في كل واحد موحد، هو العمل الثوري".

إن ما أشار إليه أدونيس يؤكد على فهمه العميق للعلاقة الرابطة بين الشعر والسياسة، فالشعر يفقد دوره الإبداعي، ويفقد هويته إذا فقد استقلاله، ولهذا، فإن القصيدة لا تقف حد الحدث، كالعمل السياسي على حد تعبير أدونيس، إذ إن القصيدة تتجاوز الحدث، وتخلق عالمها الشعري، وخصوصيتها الشعرية، بمعنى أدق: إن العمل السياسي له خصوصيته وله فرادته، وكذلك فإن للعمل الشعري خصوصيته و فرادته كذلك، ولا يمكن إخضاع أحدهما للآخر، وإلا فقد كلاهما الدور الرئيس المنوط به، وهذا القول ينم على معرفة، ودراية عالية، بالعلاقة الرابطة بين( السياسة والشعر)، وهنا نقف على حقيقة مؤداها أن العمل السياسي انبثاق أحداث، أو رصد أحداث، في حين أن العمل الشعري خلق أحداث، وتجاوز هذه الأحداث، بشكل إيحائي جديد، يقول أدونيس:" لا يمكن أن نغير الواقع، أو نؤثر فيه دون أن نغير أو نؤثر في أشكال التصور، التي يتجسد فيها هذا الواقع. وللشعر في تغيير هذه الأشكال دوره العميق: وهو يعبر بشكل مختلف عن أشكال التغيير الذي يمارسه العمل السياسي. إنه يعثر بطريقة لا تقدر عليها الممارسة السياسية، أو أية ممارسة أخرى أن تعوض عنها، أو تحل محلها، أو تلغيها، ثم إننا نتحدث كثيراً عن تأثير العمل السياسي في الشعر، وهذا صحيح. لكننا ننسى أن نتحدث عن تأثير الشعر في العمل السياسي، وهذا النسيان خطأ، بل إن القصيدة، كممارسة كتابية، هي الجديرة بأن تؤثر على الممارسة السياسية، ذلك أن هذه حدث عابر، أما القصيدة فرؤيا تبقى"

إن تأثير القصيدة على الواقع السياسي أشد منه على العالم الإبداعي، بمعنى أن للشعر سطوة على العمل السياسي بشكل أكبر بكثير من تأثير العمل السياسي على الشعر، إذ إن القصيدة- من منظور أدونيس- ليست ممارسة كتابية تهدف إلى تغيير الواقع، وإنما تسعى إلى تجاوزه وتغييره من منظور مستقبلي، ولهذا، فإن الشعر يغير الممارسة السياسية، وهو الجدير -على حد تعبير أدونيس- من التأثير به، ولا التأثير بها، وهذا القول على ما فيه من دقة، وإدراك معرفي ينطوي على مفارقة، أو مناقضة، فالعمل السياسي يؤثر في توجيه مسار القصيدة، وقد يغير في حركة أنساقها، تبعاً للمدلول أو الرؤية الشعرية المطروحة، ولذا، فإن الشعر يملك دوراً مهماً في تغيير الوجهة السياسية، أو المنظور السياسي، كما يملك العمل السياسي تأثيره ومنظوره على الشعر إذا كان ثمة وعي حقيقي بالحدث السياسي، وإدراكه برؤية عميقة،تفعل القصيدة كحدث آني، ومن ثم تسهم في تجاوزه، وتغييره مستقبلاً، يقول أدونيس فيما يخص الثورة العربية، ما يلي:"إنني سأحاول أن ألقي ضوءاً على العلاقة بين الشعر والثورة كما أفهمها، هناك مستويات للشعر الثوري أوجزها في ما يلي:

الشعر الذي يكتب في مجتمع يمارس الثورة، يكتبه شعراء يشاركون فيها، وهو ما أسميه شعر المشاركة في الثورة. وهذا غير قائم في المجتمع العربي.

الشعر الذي يستلهم الأمثلة الثورية من الخارج، ويتأثر بها، وبآفاق الوعي التي تولدها من دون أن يكون مرتبطاً بها ارتباطاً عضوياً، وهو ما أسميه شعر التعاطف الثوري، وهو موجود في المجتمع العربي، غير أني في التحليل الأخير لا أؤمن بقيمته الفنية.

الشعر العربي الذي يصدر عن وعي بالحياة العربية واقعاً ومصيراً، وعن وعي الثورة، فيراها ويمهد لها بأن يتحول هو نفسه إلى ثورة في إطار اللغة، والفكر، والتعبير. فلكي يكون الشعر ثورياً في المجتمع لا بد أن يكون هو نفسه ثورياً في التعبير الشعري، أي لا بد من أن يثور على أدواته التقليدية. وهذا ما أسميه شعراء الرؤيا الثورية. هذا النوع الأخير هو ما أحاول أن أكتبه، وتحاول أن تكتبه كوكبة قليلة من الشعراء العرب، وبخاصة الشبان. هذا الشعر ينمو ويتحرك في ثلاث اتجاهات:

التقدم في أبعاد ما أنجزه الإنسان العربي.

التغلغل في آفاق ما يطمح إليه الإنسان العربي.

الانغراس في ما يعانيه الإنسان العربي.

هكذا تتوحد أبعاد الزمن، الماضي، والحاضر، والمستقبل في حركة الإبداع. بهذه الإبداعية يحاول الشعر العربي خلق ملحمة عربية جديدة جذرياً، فيكون الشاعر بطل هذه الملحمة بقدر ما يكون الإنسان العربي ككل، بطلها. أي أن البطل –هنا- ليس البطل التقليدي الواحد الوحيد، وإنما البطل هو كل فرد عربي. ويكتب الشاعر عبرها تاريخه الخاص الجديد، كما يكتب تاريخ الإنسان العربي الخاص الجديد... هذا الشعر يهدم المكان الشعري القديم- إن صح التعبير. أي يهدم كل شعر في مستوى السطح – شعر الوصف، والتمجيد، والسرد، والغزل.. شعر" الهجاء"، وشعر المديح..إلخ وهو يهدم -كذلك- العقلانية القديمة، أي يهدم شعر الحكمة، والأمثال، والتقرير، والخطابة، والارتجال والعفوية، والمجانية.. إلخ. ويهدم إلى ذلك الشعر الأحادي البعد، أعني الذي يصدر عن خلفية اجتماعية محددة، أو خلفية سيكولوجية- انفعالية محددة، أو خلفية تذكرية محددة، يهدم هذا كله من أجل أقامة شعر في مستوى الحياة العربية، بوصفها كياناً شاملاً، مستوى الإنسان ككل لا يتجزأ- عقلاً وقلباً، واقعاً واعياً.. القصيدة الثورية تفعل فعل العصيان والاضطراب. إنها ضرب شامل لزحزحة الموروث التقليدي الذي يحاصر عقول الناس".

إن الشعر الذي يكتب في مجتمع ثوري- من منظور أدونيس- هو الشعر الذي يجب أن يعي الحدث السياسي ويتجاوزه، ويعي الحدث الشعري ويغيره، وعلى هذا، فالقصيدة الثورية هي التي تفعل فعل العصيان بالقارئ، تدفعه لخلق أحداثها، من جهة، وتدفعه إلى تجاوزها بعقلانية شعرية تجسد الحدث، وتتجاوزه في الآن ذاته، لقد وعى أدونيس هذه الناحية، وأكد على أن الشعرية هدم، وبناء. هدم من أجل خلق فني جديد، وثورة على الواقع اللغوي السائد، لخلق رؤى جديدة فنية تعي حجم التطور، وتستقي منه التميز،والخلق، والإبداع، يقول أدونيس: "السياسة منذ أفلاطون حتى اليوم، هي ما يفرض حداً مشتركاً بين جماعات فتؤلف بذلك من هذه الجماعات مجتمعاً واحداً أو نظاماً، وكل حدث سياسي يمكن أن ينظر إليه ضمن ثلاث منظورات أساسية: محافظة، إصلاحية، ثورية. السياسة المحافظة هي التي تحفظ الحد المشترك السائد الموروث. السياسة الإصلاحية هي التي تحاول أن تعدل الحد المشترك أو تصلحه. أما السياسة الثورية فهي التي تغير هذا الحد المشترك. وإذا كانت الكتابة الشعرية المحافظة هي الفعل الذي يكرر قيم الحد المشترك، وكانت الكتابة الإصلاحية هي الفعل الذي ينفذ هذه القيم ويعدلها- وهماً معاً، تعكسان، بنسب متفاوتة، البنى السائدة، التي هي -غالباً -إما قمعية، وإما ماضوية، فإن الكتابة الثورية هي الفعل الذي يهدم هذه القيم، أي يهدم البنية الثقافية السائدة، ويتضمن ذلك تهديم الكتابة، وطرق التعبير السائدة، أي تهديم المعاني السائدة. ويكون هذا التهديم شبكة رمزية تحمل إيقاعات ودلالات أخرى، تنفتح على حركة التغيير... كل إبداع هو، ضمن هذا الحد، سلبي، بمعنى أنه يكتب زمن الهدم، الزمن الذي تتفسخ فيه البنى القديمة وتزول. وليست السلبية هنا في الكاتب، وإنما هي في العلاقات، في التناقض بين علاقات تزول، وعلاقات آخذة في التكون".

إن ما أشار إليه أدونيس من هذا التمييز الدقيق بين الكتابة الشعرية المحافظة، والكتابة الشعرية الإصلاحية، والكتابة الشعرية الثورية، يؤكد فهمه الدقيق لهذه الجوانب والوظائف مجتمعة،فالكتابتان الأولى والثانية هما -من المنظور الأدونيسي- تعكسان البنى السائدة، إما البنى القمعية، وإما البنى الماضوية، في حين أن الكتابة الثورية هي هدم لهذه البنى، وتشكيل إيقاعات، وبنى جديدة، وهذا التمييز -على دقته- لا يخلو من مفارقة بين الكتابة الإبداعية الثورية، والكتابة الإبداعية النفسية والعاطفية، فالثورة الإبداعية ليست متمظهرة في شكل دون آخر، أو أسلوب إبداعي دون آخر. بالنسبة لنتاج الشاعر ذاته، بمعنى أن الكتابة الشعرية الثورية ليست فقط ثورة على صعيد حركة الدلالات والمعاني، إنما هي ثورة على صعيد البناء والتشكيل الفني، وهنا، فالإبداع يضعف في دائرة ويقوى في دائرة معاكسة أو نقيضة، يضعف في دائرة ما هو سلبي،ويركن لكل ما هو سائد من أعراف مؤثرات. ويقوى في دائرة ماهو إيجابي، ممثلاً في طريقة الهدم، أو التجاوز لكل ما هو سائد أو إيجابي يتبدى في العلاقات والبنى الجديدة التي تم توليدها في التشكيل النصي الجديد. وهذا يقودنا إلى أن أدونيس قد حرك الرؤية الشعرية، والمنظور الشعري إلى الاختلاف القائم بين لغة الإبداع والمعاصرة، ولغة التقليد والماضوية والمحاكاة اللاواعية، والأساليب الشعرية القديمة، وهنا، يميز أدونيس بين السياسة كحدث، والكتابة الإبداعية كتجاوز لهذا الحدث، إذ يقول: " ليست السياسة الحدث السياسي، وإنما هي ممارسة البناء الشامل للمجتمع، أي ممارسة تغييره الشامل. كيف نحدد، انطلاقاً من ذلك، علاقة القصيدة بالسياسة، أعني دور الشاعر سياسياً، كمنتج أو كعامل باللغة؟!.. الجواب الذي يوجه منتجي الشعر ونقاده إلا قلة منهم، في المجتمع العربي هو الذي يتطلب من الشاعر أن يشارك في الأحداث، بل حتى في الوقائع اليومية، بحيث ينظر إليها، في ذاتها، كموضوعات ملهمة، فيفسرها ويصفها بما ينسجم مع موقعه الطبقي، أو الإيديولوجي، وبما يفيد في توعية الجمهور وتوجيهه، وإذا درسنا النتاج الشعري الذي يصدر عن مثل هذا الفهم للعلاقة بين الشعر والسياسة، نرى، بشكل عام، أن اللغة فيه مجرد أداة للشرح والوصف، وممارسة اللغة كأداة لا يمكن أن يؤدي بالشاعر الذي يمارسها إلا إلى تنويع على الواقع،هو تنويع ضحل ومبتذل، وهذا، مما يكشف عنه أن لمقاربة الحدث، شعرياً، خصوصيته من حيث النظرة، ومن حيث الأسلوب، ومن حيث اللغة، بحيث ينتفي الإملاء الإيديولوجي، وينتفي التبشير والوعظ، وتنتفي التعليمية... إن هذا النتاج ليس إلا إعادة إنتاج، وإلا تكراراً قرآنياً، وإعادة إنتاج الحدث، أو الواقعة تفرضها إيديولوجية الالتزام المباشر، إيديولوجية الواجبات المباشرة، والخدمات السريعة التي يجب القيام بها في سبيل " القضية" والجمهور. غير أن القصيدة لا يمكن أن تكون إعادة إنتاج لواقع معطى، سواء كان هذا الواقع متصلاً بالتاريخ، أو بالطبيعة، أو بغيرها. فما نراه يستحيل أن يسكن في ما نكتبه أو نقوله. هذا من جهة، أما من جهة ثانية، فإن إدعاء الواقعية بمعنى نقل الواقع ووصفه وتمثيله ليس إدعاء بعيداً عن الواقع وحسب، وإنما يناقض الواقع أيضاً، ويتناقض، من باب أولى، مع الشعر... وإذا كان دور الشعر محصوراً في إعادة إنتاج المعطى، فإن أنواع الكلام الأخرى يمكن أن تقوم بهذا الدور، خيراً منه. وهذا يعني إمكان الاستغناء عنه. لكن ما يقوم به الشعر، يستحيل أن يعوض، أو أن تقوم به أية طريقة تعبيرية أخرى".

إن ما أدلى به أدونيس يضعنا على عمق الممارسة والإبداع الشامل، فأدونيس يرى أن نظرة المجتمع للشاعر نظرة مادية.. عليه أن يمارس دوره الإبداعي في المشاركة في الأحداث والوقائع اليومية لا أن يتجرد عنها، أن يعيد إنتاج الواقع، لا أن يبتعد عنه، ويناقضه، عليه أن يكون صورة فوتوغرافية عنه، إن هذا المفهوم الخاطئ لفهم الشعر ودوره قد حاول أدونيس نقضه،بل وتقويضه. والتأكيد على أن الشعر ليس تسجيلاً تاريخياً لأحداث ووقائع يومية، إن هذا التسجيل خاص بعلم الاجتماع والتاريخ. وليس من طبيعة الشعر في شيء، والقصيدة ليست ترجماناً سياسياً للوقائع العاصفة التي تجري بمتغيراتها الكثيرة وتناقضاتها المريبة التي تحدث على أرض الواقع، وإنما الشعر الذي يمس الواقع مساً، ولهذا يختلف دور الشعر عن أنواع الكلام الأخرى، فالشعر لا يمكن أن يُعوَّض إذا فقد هويته الإبداعية... إنه سلطة ترجمانية للعواطف والمشاعر الإنسانية التي تنبض بالشعور والإحساس، ومن هنا، لا يمكن الاستغناء عنه، لأنه جزء من معاناة الإنسان، وترجمان الحياة المتغيرة، لذلك، يختلف عن أنواع الكلام الأخرى، إذ إن ما يقوم به الشعور -على حد تعبير أدونيس- يستحيل أن يُعَوَّض، أو أن تقوم به أية طريقة تعبيرية أخرى، بمعنى أنه خرق للمعتاد، وتشعير له بأسلوب جمالي عميق، وهذا ما أشار إليه أدونيس بقوله:[ المسألة الأساسية الأولى في الشعر ليست، لماذا أكتب أو لمن أكتب؟ وإنما هي: كيف أكتب؟ ذلك أن الجواب على السؤالين الأولين لا يحدد خصوصية الكتابة الشعرية... بدءاً من: كيف أكتب، يتجاوز الشاعر الحدث كموضوع مستقل، وينظر إليه كجزء من حركة عميقة طويلة. يتأثر به، وقد يستخدمه، لكن بشكل يتجاوزه كمظهر، ليرى ما فيه. ما يخفي ما وراءه من اللهب الحي. ففي هذا اللهب الزمني- اللازمني يجد الشاعر نبع الصور الأكثر بهاء، عن الإنسان وكفاحه، وهذا يعني أن تجاوز آنية الحدث ومظهريته، لا يجوز أن يؤدي بالشاعر إلى أن يهمل الواقع ووقائعه، فيتراجع، وينزوي، ملتهباً برماد الماضي، أو مثالية التاريخ. فالقصيدة لا تعنى بالحدث أو الواقعة، بل تعنى باللهب الذي يكمن فيها، أو يكشف عنها. وهي –لذلك- لا تتقلص فيها، بل تحتضنها وتتخطاها] .

إن سؤال الكاتب نفسه كيف أكتب؟! هو الآلية لتطور مفهومه لدور الشعر في الحياة! فالشاعر ينبغي أن يتجاوز الحدث كموضوع مستقل، أن ينظر إليه من منظور حركة الوجود العميقة، عليه أن يتجاوز الحدث الآني، إلى الحدث المستقبلي، أو الحدث القادم، لا ينبغي للشاعر أن ينزوي برماد الماضي، وعليه أن ينبثق إلى المستقبل، متجاوزاً الحاضر وسلطويته الآنية، ومن هنا، فالشاعر لا يعنى بالحدث أو الواقعة، بل يعنى باللهب الذي يكمن فيهما.. ومن هنا، يتجاوز الشاعر الرؤى السطحية ليدخل في جوهر التغيير. وجوهر التجاوز، والخلق، والإبداع، يقول أدونيس:" من هذا المنظور،نقول إن الشعر الثوري- أي باختصار- الشعر- يناقض، جوهرياً التبشيرية والإعلامية فهو ليس أداة توعية، أو تسييس، ذلك أنه هو نفسه وعي وممارسة سياسية. إنه فعل وليس دعوة للفعل. هكذا، لا يكتب الشاعر بهدف أن يخاطب جمهوراً محدداً، أو الجمهور ( ليست المسألة، شعرياً، لمن أكتب؟!)، ويعني ذلك أن الشاعر لا يُعلِّم الجمهور، وإنما يشارك هذا الجمهور، بخصوصية فعله الكتابي، في الممارسة الشاملة لتغيير الواقع".

إن مفهوم أدونيس للشعر الثوري، مفهوم ينطوي على إدراك حقيقي للبعد الثوري، للغة الشعر، فالشعر ليس لغة تسييس، أو ممارسات سياسية عقائدية، إنه وعي إدراكي لمتغيرات الحياة، إنه إيحاء... كشف... إبداع، تجاوز ما يدرك، أو تجاوز ما هو معتاد إلى ما هو جديد، ومبتكر وغير معتاد، ومن هنا يستخلص أدونيس خصائص الكتابة الإبداعية، بقوله:" أولاً- الكتابة لا تصف الواقع، وإنما تعيد خلقه، تقدمه لنا متحولاً- في صورة جديدة في احتمال آخر. ثانياً، الكتابة الفنية ترفع أحداث الواقع وأشياءه إلى مستوى الرمز، فللجملة في الكتابة الفنية، عدا معناها الظاهر، معانٍ ثانية تتدرج من العمق إلى الأكثر عمقاً، ومن الشامل إلى الأكثر شمولاً. الكتابة الفنية، بتعبير آخر، تحول المعنى إلى طبقات من المعاني، أي إنها تقول في الشيء الواحد أشياء كثيرة- ثالثاً، اللغة في الكتابة الفنية تدل على الأشياء، بحسب المنظور الذي تقرأ به، وتتعدد معاني الأشياء فيها تعدد المنظورات، ومن هنا، يمكن الكلام، فنياً، على شيء واحد، بطرق، تتباين جذرياً، ولا نهاية لها. رابعاً، الكتابة الفنية هي التي تجدد اللغة وتغنيها، ذلك أنها تمنحها تعددية الدلالة. أما الكتابة غير الفنية فتفتقر اللغة، من حيث إنها تكررها ـ وتجترها، وتبقى على مستوى سطحها المباشر، اللغة في الكتابة الفنية ولود، حبلى باستمرار".

إن هذه الفروقات التي وضعها أدونيس تدل على فهمه العميق لطبيعة الكتابة الإبداعية، أو الكتابة الفنية عامة، فالكتابة الفنية تعيد خلق الواقع، وتحيل أحداثه إلى مستوى الرمز، وتحول المعنى الواحد إلى طبقات من المعاني، فتغني اللغة،وتنتشي بدلالات جديدة لاحصر لها. في حين أن الكتابة غير الفنية فإنها تفتقر اللغة وتقيد انفتاحها الدلالي، وتبقى في حيز المدلول المباشر السطحي، إن ما أشار إليه أدونيس يبرهن حقيقة على موهبة نقدية فذة تجذر ذاتها على أبعاد رؤيوية،ومعرفية دقيقة، يتأكد من خلالها الفهم الدقيق/ الواضح الذي برهن عليه أدونيس في تنظيراته الدقيقة عن الشعرية، والنص الأدبي، والكتابة الفنية، عموماً.. فما أجمل هذه الآراء النقدية المكتشفة التي توصل إليها أدونيس في تنظيراته النقدية، التي وصلت إلى قمة في الدقة والتمحيص الشعري، كما في قوله:" القراء والنقاد العرب الذين يريدون للشعر، باسم التقدم أو الثورة، أن يكون واقعياً، هم غالباً من الذين يفخرون بأنهم يعملون لتغيير الواقع. هذه مفارقة لا تكشف عن تناقضهم فحسب، وإنما تؤكد -كذلك -أنهم على الصعيد الشعري، يجهلون معنى الواقع، وطبيعة العلاقة بين الشعر والواقع، والدور المتميز الخاص بالشعر والفن بعامة().
إن ما أشار إليه أدونيس يؤكد أن النقاد كانوا على تناقض كبير بين من يريدون للشعر أن يكون باسم التقدم، واقعياً، وما يريدون منه في الآن ذاته أن يكون مغيراً للواقع، وكاشفاً عنه، ومتجاوزاً له، ومن هنا نخلص من آراء أدونيس إلى النتائج التالية:

إن أدونيس عبَّر عن نفيه للمنظورات النقدية السائدة للواقع، وقد نظر إلى الشعر من منظار تجاوزي، فالدور المنوط بالشعر هو تغيير الواقع، والمساعدة على تجاوزه إلى واقع أفضل، فالمنظار الشعري السائد منظار مغلوط، أو غير دقيق.

برهن أدونيس على الأهمية القصوى التي يتطلبها الشعر، ليكون متجدداً، من أبرزها قدرته على مغايرة السائد، وكشفه، وتجاوزه عبر جسد اللغة، ومقدار ما تبثه من إيحاءات ودلالات جديدة في سياقها، ولهذا، فالفن الشعري لا يتكامل إلا بمنظور إيحائي مغاير، ومدلول نصي عميق.
أكد أدونيس في آرائه النقدية على مدى الفهم المغلوط من قبل نقادنا للكثير من القضايا الأدبية المطروحة، محاولاً تصويب هذه الآراء، والوقوف عليها بدقة، ومناقشتها مناقشة علمية موضوعية، وتبيان تناقضها أحياناً، وسلبيتها وتقليدها في أحايين أخرى، وهكذا، يبدو لنا أن أدونيس اعتمد تمحيص الآراء، والمسائل الأدبية المطروحة، بحنكة فنية، ونضوج استقصائي تأويلي للظواهر الشعرية المطروحة من دون أن يقع في التكرار، أو الخلل، أو التناقض.

برهن أدونيس من خلال ما طرحه من آراء، ومناقشات، واحتجاجات، واستشهادات، ورؤى، أنه من أفضل النقاد المعاصرين جرأة في مناقشة الرأي، والبرهنة على صحته، بأسلوب مقنع شائق، بمعنى أن أدونيس بذل قصارى جهده في أن تكون جل أحكامه النقدية مبتكرة، ودقيقة،وواعية بدورها، ومقنعة في منظورها،ومصبها الأخير. ولا يخفى على القارئ من خلال عرضنا للكثير من الأقوال الأدونيسية عمق آرائه،وبعد معالجتها ومناقشتها ودرجتها المعرفية، إذ إن أدونيس كان عميقاً في طرح الفكرة، وإيراد المعلومات باقتصاد فني، ووضوح تأويلي مقصدي عميق، الأمر الذي أكسب آراءه مشروعيتها ومصداقيتها التأويلية، ودقتها النقدية، وهذا ما يحسب لأدونيس في جميع ما طرحه من آراء ومقترحات حول الكثير من القضايا الأدبية المهمة في عامنا الفكري النقدي المعاصر.

إن أدونيس لم يقصر مفهومه (للنص/ والنصية)، أو ("الشعر" و"الشعرية")، على آراء النقاد المعاصرين، وإنما اعتمد على فهمه وإدراكه لدور النقاد القدامى في تحديد هذه المصطلحات، فقد استطاع أن يخلق مؤالفة أو مواءمة بين نظرة القدامى لهذه القضايا، ونظرة المحدثين أو المعاصرين، من دون أن يخضع لنظرة أو لرأي أحدهما، نظراً إلى ما يملكه من رؤى جديدة، تخلق إبداعها من عمقها، وتمحيصها الدقيق للقضية النقدية المطروحة.

علاقة الشعر بالجمهور/ ومستوى فهمه:

إن من أهم القضايا النقدية التي طرحها أدونيس:[ مسألة علاقة الشعر بالجمهور/ ومستوى إبداعه]، إذ إن القضية البارزة التي شكلت اهتمام أدونيس طبيعة اللغة الشعرية، ومنظور القراء إلى هذه اللغة، وكيفية فهمها، واستيعابها، إذ يقول:" حين نقول اليوم:" يجب أن يكتب الشاعر العربي بلغة يفهمها الجمهور"، يبدو هذا القول، في ضوء المسار التاريخي لمشكلة التعبير والاتصال، مبهماً، لا يقول شيئاً، ولا خارج المشكلة الحقيقية.

أ) فهو مبهم لأنه لا يحدد هذا الجمهور: هل هو الخاضع للثقافة الشعرية التقليدية، أم هو المتحرر منها؟ وما طبيعة هذا التحرر؟! وهو مبهم أيضاً لأنه لا يحدد اللغة الشعرية: هل هي اللغة التقليدية أم هي اللغة الجديدة. وما طبيعة هذه الجدة؟

ب) وهو لا يقول شيئاً، لأنه يكرر بداهة. فالشعر يكون والآخر، لجمهور ما، أو لا يكون شيئاً.

ج) وهو خارج المشكلة الحقيقية، لأن هذه المشكلة ليست في تقرير الصلة، بين الشعر والجمهور، بل في تحديد معنى هذه الصلة، وتحديد الجمهور وتحديد اللغة الشعرية... نحدد الجمهور السائد، على صعيد فهم الشعر وتذوقه، بالثقافة السائدة، والتي هي جزء من الإيديولوجية السائدة. هذه الإيديولوجية المتحققة في مؤسسات المجتمع العربي )العائلة، المدرسة، الجامعة، التشريع، السياسة، الدين، الثقافة بأشكالها الإعلامية والأدبية) والمجسدة في ممارسات الأجهزة الإيديولوجية للنظام العربي السائد، لا تؤسس شروطاً جديدة، وعلاقات جديدة، وإنما تعيد إنتاج العلاقات الاستغلالية الماضية، فهذه الإيديولوجية السائدة ليست إلا استعادة للإيديولوجية الاستغلالية الماضية، وليس التحول السياسي، الظاهري، أكثر من إزاحة للطبقة القديمة المستغلة، من أجل أن تحل محلها طبقة جديدة مماثلة، لا من أجل تحرير الطبقة المستغلة. وهكذا، فإن العائلة في المجتمع العربي ما تزال أسيرة التكوين القبلي- البيوقراطي، والمدرسة العربية ليست تقليدية وحسب، بل رجعية أيضاً فيما تدرسه، وفي طرق تدريسها على السواء،.... والواقع أن الموضوعات السائدة في الشعر العربي اليوم، هي الموضوعات الغزلية والجنسية، والموضوعات الاجتماعية السياسية. الأولى رومنطقية من حيث الطبيعة، ورجعية من حيث النظرة. أما الثانية فهي المعادل السياسي للرومنطيقية العاطفية. ذلك أنها صيغ وشعارات حماسية، وليست كشفاً عن آفاق جديدة لعلاقات جديدة".

إن ما أشار إليه أدونيس يدل على النظرة التقليدية- الإيديولوجية السائدة لطبيعة الشعر العربي، من حيث الموضوعات السائدة، فالشاعر العربي القديم كانت تأخذه النزعة القبلية، وحتى الموضوعات السائدة في كتابته الشعرية، وهذا ما جعله يعيش في نظرة رجعية، أو لنقل نظرة إيديولوجية مقيدة لطبيعة الشعر، ومقيدة لطبيعة الخلق الشعري المتميز، فالشاعر القديم، إذاً، كانت تحكمه أطر وقواعد جامدة تقيده، وتقيد رؤيته، ومنظوره في الآن ذاته، والقصيدة- لديه- مجرد شعارات وصيغ حماسية. وليست كشفاً رؤيوياً عميقاً ينم على عمق الإحساس والشعور، ولهذا، لم تكن لغته الشعرية كشفاً عن آفاق جديدة ورؤى جديدة، وعوالم تخييلية جديدة، وإنما كان محاطاً بمنظور سائد، وطبيعة إيديولوجية سائدة، معروفة في مستواها، وحيزها الواقعي. يقول أدونيس:" الجمهور الذي يخاطبه هذا الشعر، ليس من طبقة واحدة، وليس ذا ثقافة واحدة. وإنما هو مجموعات من الأفراد الذين أخذوا بنصيب قليل أو كثير، من المعرفة المدرسية. وهذا الشعر ينقل لهم ما يعرفونه. وهو، إذن، لا يقدم وعياً جديداً لأنه لا يقدم متعة فنية متميزة وجديدة"(). إن الشعر القديم - بوصفه شعراً تقليدياً - يخاطب أفراداً من ذوي خبرات وكفاءات مدرسية، أو قبلية، متفاوتة، لهذا لا يقدم لهم مفهوماً جديداً، وإنما يقدم لهم بحدود ثقافتهم شعراً يتناسب ومستوى فهمهم وإدراكهم، ولهذا، لا يقدم لهم رؤية جديدة ومتعة فنية تستدعي الكشف وعمق التأويل، يقول أدونيس:" لكن، إذا كانت عبارة " سائدة"، هنا تعني أن الفئات السائدة في المجتمع العربي تقمع بإيديولوجيتها الفئات المسودة، فإنها تتضمن أيضاً أن لهذه الفئات المسودة ذاتها، طليعة تمتلك وعيها الخاص، بواقعها، لكونها مسودة، وأنها تتململ من أجل التحرر، والانعتاق من شروط حياتها هذه، ومن الإيديولوجية السائدة... لنقل- إذن- إن المجتمع العربي ما يزال في بنيته الإيديولوجية الغالبة، مجتمعاً تقليدياً، غير أنه، مع ذلك، يتحرك إيديولوجياً بقيادة أقلية طليعية في اتجاه الحداثة. هذا هو الوضع الذي يعيش فيه الشاعر العربي المبدع، ويعانيه: أقول المبدع لأشير إلى ارتباطه بالحداثة من جهة، ولأميزه من جهة ثانية، عن أسماء كثيرة تنتحل هذه الحداثة، أو تكتب الشعر بقوة الاستمرار التقليدي، دون أن تعاني أية مشكلة، على هذا المستوى، ولكي أقول، بالمحصلة، إن مشكلات التعبير والاتصال إنما هي مشكلاته هو وحده، دون غيره من هؤلاء المنتحلين أو الواقفين في الموقع الاستمراري الذي لا يتيح طرح مثل هذه المشكلات... إن هذا الشاعر يواجه على الصعيد الفني، مشكلة ذات وجهين متلازمين: كيف يعبر بحداثة، توكيداً لانفصاله عن الآلية الإيديولوجية السائدة)، وكيف يوصل هذا التعبير (توكيداً لارتباطه العضوي مع الفئات الطبيعية المسودة، العاملة للتغلب على الإيديولوجية السائدة وعلاقاتها)، وهكذا، يبدو لنا أن دور هذا الشاعر هو في أن ينتج فعالية جمالية لا يستوحيها من العادة السائدة بقوة الإيديولوجية السائدة، بل يستوحيها، على العكس، من الطاقة الكامنة، المقموعة. لكن القادرة على تغيير شروطها وإبداع شروط جديدة لحياة جيدة".

إن ما أشار إليه أدونيس يؤكد بالدليل القاطع أن الفئات المتلقية كانت لها دورها البارز في التعبير عن الإيديولوجيات السائدة، إذ إن بعضها حاول أن يتحرر من الإيديولوجية السائدة، ومن منظورها الإيديولوجي أو التقليدي السائد الذي لا ينتج عن منظورات حداثية تنتج فعالية جمالية، بتنوع شروطها الإبداعية، وبخصوصية جمالية، وإحساس فني عميق، بعيداً عن الإيديولوجيات التقليدية السائدة، ويتابع أدونيس قائلاً:" هناك، اليوم، في الشعر والنقد العربيين، مستويان لهذه الفعالية الجمالية: الأول تبسيطي، توفيقي/" نهضوي"، وهو السائد. والثاني تعميقي، جذري، تجاوزي. في المستوى الأول نجد نتاجاً شعرياً ينتحل حداثة آلية من الحلية الكتابية لا من الهوية الأصلية: فالأسس التي يصدر عنها هذا النتاج سواء ما اتصل منها بالإيقاع، والصورة، والجملة، والكلمة، والبنية اللغوية بعامة، هي نفسها الأسس التقليدية. وهذه الحلية شكلية تقوم على تفكيك النمطية، لكنها تحتفظ بالموقف القديم من اللغة الشعرية، الذي أدى إلى هذه البنية. والموقف، إذاً، ما يزال قديماً، فإن الجدة هي الرؤيا الجديدة للغة الشعرية ذاتها، وليست في مجرد تنميط آخر للبنية الشكلية القديمة. وهكذا، ما يزال الشكل إناءً جاهزاً يعبأ بالأفكار، كما كان في الماضي. اختلف حجم الإناء، وتغيرت طريقة استخدامه والغاية منه، لكن طبيعة العلاقة بينه وبين ما يحتويه، ما تزال هي نفسها العلاقة القديمة. فبدلاً من تعبئته، مثلاً، بـ" فضائل" الخليفة أو القبيلة، فإنه يعبأ بفضائل أخرى، الشعر في هذا المستوى، يعمم النمطية القديمة. وتعميم هذه النمطية مشاركة في تعميم الاستلاب. فاللغة الجمالية التقليدية المعممة في مجتمع يتململ باتجاه الثورة، كالمجتمع العربي، إنما هي قوة إيديولوجية تستلب العربي، لأنها تشارك في إخضاعه لقمع معمم".

إن وعي أدونيس الواضح بطبيعة المجتمعات العربية، ومنظوراتها التقليدية السائدة، دفعه إلى أن يحدد منظوراته النقدية بجرأة من جهة، وإدراك معرفي بطبيعة البيئة العربية، ومنظوراتها إلى اللغة الشعرية من جهة ثانية، فالشعرية المعاصرة تكمن في الرؤيا الجديدة، فلغة الشعر، انطلاقاً من هذه النقطة، ليست مجرد تنميط، أو تحفيز لأواصر شعرية جديدة، وإنما تكمن في حجم الرؤى العميقة التي يتطلبها الوعي بالأفكار، وانطلاقاً من هنا يحدد أدونيس منظوره للشعر من هذا المستوى، إذ يقول:" والشعر، في هذا المستوى، ينظر إلى الجمهور كمياً: يهمل الفروقات النوعية، بين فئة، وفئة، وبين فرد وفرد ضمن الفئة الواحدة. وهو في الحالتين ينطلق من قناعة نظرية مسبقة: إن الشعر كلام كغيره من الكلام، وأن الجمهور يفهم الكلام بالضرورة، لذلك، لا بد من أن يفهم الشعر بالضرورة. وفي هذا ما يشير إلى أن اللغة الشعرية، بالنسبة إليه، هي الكلام، لكن الذي يختلف عن غيره بكونه موزوناً، يحمل مضموناً تقدمياً أو يكشف عن موقف تقدمي... والشعر، في هذا المستوى، يقف من الناحية الظاهرية، مع الطاقة المقموعة العاملة، لتغيير بنية المجتمع العربي بكاملها، لكنه، في الحقيقة، يقف مع العادة السائدة- أي إنه يتبنى الطرائق التقليدية التي عبرت، وتعبر بها هذه البنية عن نفسها، وفي هذا استعادة للموقف التقليدي من الشعر الجاهلي: إبداع بنية جديدة للمجتمع، والإبقاء على أشكال التعبير التي أنتجتها البنية القديمة. وتنتج عن هذا الموقف نتائج تتناقض مع كون الشعر فعالية جمالية تغييرية. من هذه النتائج إعطاء الأولية للمضمون. وهذا يعني أن موقف الشاعر عقلي، يفكر، ويعلل، ويعاني، ويختار. ثم يجيء التعبير فيبحث عن الشكل الذي يرى أنه يلاءم لنقل ما يعانيه. ومن هذه النتائج إعطاء الأولية للقارئ، أو السامع أياً كان، دون تحديد، لأن الغاية إفهامه وإقناعه، أكثر مما هي الكشف عن أعماق الشاعر، وعوالمه الداخلية، ومن هذه النتائج اعتبار الشعر نشاطاً تثقيفياً، يراقبه العقل ويوجهه، وهو، إذن، وسيلة إعلامية مرحلية، تنبع قيمته من فعاليته كوسيلة. ومن هذه النتائج تجريد الشعر من طبيعته الخاصة، كفعالية إنسانية، متميزة، لكونها إنتاجاً جمالياً، ومن ثم مزجه بأشكال التعبير الأخرى، عن الذات، وانعدام التمييز، جمالياً، بينه، وبينها".

إن درجة إقناع الجمهور، من وجهة نظر أدونيس، تأتي من درجة فهم الإبداع ذاته، وتعبيره عن منظورهم ومستوى تفكيرهم، وبقدر ما يكشف الشاعر عن العوالم الداخلية للمتلقين بقدر ما يتفاعل الجمهور على المستوى الإبداعي للنصوص الشعرية، فالشعر -أولاً وأخيراً- كلام، وما دام كذلك فينبغي على الجمهور أن يفهمه بوصفه شكلاً متطوراً من أشكال الكلام، وينتج من هذا الموقف نتائج تتناقض مع كون الشعر فعالية جمالية، إذ إن القارئ التقليدي يطلب من النص أن ينتج مضموناً محايثاً لشعوره وإحساسه، ومستوى فهمه، وإدراكه، فإن نأى النص عن ذلك عد ذلك خروجاً عن المستوى الفني والإبداعي لمستوى إدراكه، واستيعابه، وفهمه. ومن ثم حكم على النص بالبعد، والتجريد، والغربة في الإبداع، والخلق الفني.

أخيراً نخلص من رؤى أدونيس وأطروحاته إلى النتائج التالية:

أولاً- رأى (أدونيس) أن العلاقة بين الجمهور والنص الشعري في القديم علاقة سلعية، بأن النص يقترب من القارئ، بقدر ما يعبر عن منتوجه الفكري، وإدراكه المعرفي، وطالما أن النص هو سلعة من منظور القارئ العادي، فينبغي لهذه السلعة أن تلبي حاجة المستهلك، أي حاجته الداخلية لغرضه، ومفهومه من هذه السلعة، إن هذا المستوى يؤكد الإدراك المتدني للنظرة الشعرية التقليدية التي تعد الإبداع بضاعة للاستهلاك، مما يفقد الإبداع جوهره، وخاصيته الإبداعية.

ثانياً- إن فهم أدونيس للقضايا النقدية المطروحة، وحرصه على مناقضتها، وتأكيد سلبيتها، يبرهن على ذائقة أدبية عميقة، تتلمس بواطن الأشياء وخفاياها، بعمق، ودراية، واكتناز معرفي شمولي دقيق، فأدونيس يعي أن الإبداع حركة ثورية تقدمية تنتج مضموناً إبداعياً، وفهماً جديداً للحياة، ولهذا وقف من القضايا الأدبية الرائجة التي تركت حولها جدلاً معرفياً جاداً عبر- من خلالها- على صحة ما أكده، ودونه في آرائه النقدية، وأحكامه المستخرجة من النتائج النهائية.

ثالثاً- إن آراءه المطروحة قد عبرت بدقة عن معارفه، ودرجة فهمه للقضايا الأدبية الساخنة على الساحة العربية، فكان يورد المسألة النقدية، ويورد معها استنتاجاته، مستخلصاً منها نتائج وأحكام غاية في الدقة والتمحيص النقدي.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى