الاثنين ١٠ نيسان (أبريل) ٢٠١٧

لهث وراء فرصة عمل

محمد ساسي

دلف إلى المقهى بلهفة، لم يألف أن يأتيها باكرا كمثل هذا الصباح، من عادته أن يأتيها عند الزوال، تكون في الغالب غير مكتظة بالزبائن كما يراها الآن، ربما زبائن الزوال ليس لهم مشاغل تدعوهم للنهوض باكرا، فأقصى ما يمكن فعله هو لعب الورق أو الحديث في مواضيع لا تجدي نفعا في تبديل وتيرة حياتهم. كثير منهم تأقلم وضعه الشخصي مع حالة العطالة التي إنتظمت معظم أوقات فراغهم وصارت قدرا واقعا لا إنفكاك منه.

إندهش لحضور بعض النساء يتناولن القهوة في هذه المقهى، ليس هناك غرابة لو كان ذلك في مقهى راقية وسط العاصمة ولكن ان يحدث ذلك في مقهى وسط حي شعبي، فهذا ما لم يكن مألوف بالمرة...لكن لا معيبة تضير ذلك طالما أنها هؤلاء النسوة يشتغلن كزملائهم من الرجال.

إنتفض من شروده على صوت النادل يستفزه بخفته المعتادة: آش عندك جيت بكري. تجاهل ملاحظته وعاجله بأن طلب منه قهوته المعتادة.

إستقل كرسيا منفردا وراح يراقب قدوم صاحبه جابر، ماكان يعتقد أن تعج المقهى بهؤلاء االناس، وليسو كالذين يرافقهم عند طلوع النهار...هؤلاء يحتسون القهوة على عجلة من أمرهم ثم لا يلبثوا أن يغادروها نحو أماكن عملهم..

جابر كذلك مثلهم، لا يمكث هنا كثيرا، بقاءه مرتبط بزمن إحتساء مشروبه ثم يغادر هو كذلك نحو مقر عمله. جابر تغير وضعه بإمتياز، لم يعد ذلك الرجل الذي يدفع عربة كتب صفراء لينتصب بها في سوق الحي، يبيع تاريخ الخرافة لهؤلاء البسطاء الذين ينتشون بحكايات "علي بن أبي طالب ورأس الغول" و "سيرة الجازية الهلالية" و " معارك الزير سالم"...

جابر صار اليوم موظفا محترما بشركة تأمين، هو لم يحصل على شهادة البكالوريا بل الفضل لأخت زوجته سكريتيرة المدير الأولى، يتردد أن علاقتها جيدة مع المدير ولها تأثير كبير عليه، لم يرفض لها طلبا عندما سعت لديه أن يشغل زوج أختها...

وضع النادل القهوة مصحوبة بكأس ماء على طاولته وموجه له في ذات الوقت عبارات تقريض: مازلت راقد، مكش مستانس بالقومان بكري.>> للمرة الثانية لم يأبه بمثل هذا الغمز...كلام النادل في جزء منه صحيح، هو لا يفيق من نومه إلا عندما ينتصف النهار أو بعده.

ترشف رشفة أولى، بدت له على غير طبيعتها، فيها شيء من المرارة، ربما لم يعتد أن يشرب قهوته على الريق، ومنذ زمان بعيد لم يتناولها في مثل هذا الوقت ومنذ زمان بعيد لم يلحظ حركة الحياة في مثل هذا الوقت.

نظر في الساعة المعلقة على الجدار، لم يبق إلا خمس دقائق ويأتي جابر. شغل ردهة الإنتظار بالتفرس في الوجوه المقبلة كأنه يحصي عدد الذين يشتغلون في هذا الحي، لمح وسيلة جارته، هي جميلة ومطلقة، تشتغل في مصنع نسيج..ليست موظفة ولكنها تأتي إلى هذا المقهى للتباهى أمام الجميع، رمقته في إلتفاتة خاطفة منها لكنها لم تكلف نفسها عناء تحيته..

رشف رشفة ثانية من قهوته ولم يكد يرفع نظره حتى رأى جابر يدخل المقهى، بدا له أنيقا ببدلته الممشوقة والداكنة اللون وبقميصه الأبيض المخطط بسطور زرق وقد طوق رقبته برابطة عنق أضفت على شخصه مسحة من المهابة والرفاهة حتى لكأنه يبدو للذين لا يعرفونه من وجهاء الحي.. لم يعتد ان يراه على مثل هذه الصورة الجذابة بل إعتاد أن يراه دائما مرتديا سروالا "دجينس" أزرق ومعطفا فضفاضا ذا لون أخضر عسكري يذكر الناظر إليه بمعاطف الجيش الأحمر...
ألقى عليه التحية قائلا:لنذهب .

رد عليه على طريقته المعهودة: أشرب قهوة.. على حسابي لا تقلق. لكن صديقه إستعجله وهو يهم بالخروج: ساتناولها في مشرب الشركة.

أدرك أنه لا مزيد له من البقاء، خاطب النادل بأنه سيدد له الثمن عندما يعود وأردفها بدعابة ساخرة: ربما ستنال أكثر في المستقبل... وإستبق الباب ملتحقا بصديقه.

في تمام الساعة الثامنة، أرست السيارة أمام بناية فخمة، تعلو واجهتها الأمامية لافته أنيقة منقوش عليها بخط عربي جذاب "دار التأمين الوطني". لم يسمح الوقت لجابر أن يعرج على المشرب لإحتساء قهوته، هكذا هي حركة المرور في قلب العاصمة تبدد الوقت كله عند أوقات الذروة.

صعدا السلم وإتجها فورا لممر البهو المؤدي إلى مكتب الرئيس المدير العام. ألقى التحية على أخت زوجته وسألها إن كان "سي حازم" قد حضر. أومأت برأسها بالإيجاب وراحت إلى الداخل تطلب الإذن لمقابلته. خرجت مبتسمة تغطي وجهها حمرة وردية مشيرة لهما بالدخول
حملق في ذهول لوهلة، الرئيس المدير العام وراء مكتب فخم متناسق مع مراسم المقام، جلس على كرسي محشو بحشايا ناعمة مكسو برقاق من الجلد النفيس، يدور حول محور مثبتة قاعدته على أرضية رخامية تعكس وجه الناظر إليها من نقاوة الصفاء. في الجهة المقابلة للمكتب ستائر ثقيلة ذات لون ذهبي داكن، تضيف مسحة من الوقار على الشرفة المفتوحة بطلتها على شارع الثورة الشريان الرئيسي لقلب المدينة.

أذن له الرئيس المدير العام بالجلوس في حين أشار لمرافقه بالإنصراف، تفحص ملف حياته الماثل أمامه وثيقة وثيقة ثم رفع راسه، يتمايل بالكرسي نحو اليمين ونحو اليسار، ممسكا بيديه في راحة الخيلاء حزاما سروله المطوقة بكتفيه "الإجازة في الفلسفة إذا"، هكذا نطق بها في نبرة تخفي كثير من المعاني

لم يمهله أن يرد عليه، بل أبدى ملاحظة خطيرة نسفت كل أحلام الفتى: لكن الفلسفة ليس لها ما تنشغل به في شركة تأمين ومع ذلك سوف ننظر ما إذا كان هناك فرصة شغل لأمثالك.

أحس نبيل بحنق يملأ صدره وكاد أن ينفجر في وجهه صائحا: ما دون البكالوريا لها ما تنشغل به لكنه كظم غيظه وتمالك أعصابه وقال في برودة فاترة: أرجو أن لا أكون أضاعت الكثير من وقتك
في ممر البهو، ألفى جابر ينتظره وكأنما أدرك ما كان ينوي أن يقوله، سارعه برد مبهم مقتضب فيه شيء من الإمتعاض والتذمر لذات دائما مكلومة:لا أعتقد أن للعقل في هذا الزمن ما يستحق للرجوع إليه.

هبط يطوي درجات السلم طيا ساخطا كأنه يحاول أن يفر من لعنة مقيتة تلاحق مصيره.

محمد ساسي

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى