الأربعاء ١٠ أيار (مايو) ٢٠١٧
بقلم حسن عبادي

سينما غزّة

قرأتُ رواية سينما غزّة للكاتب محمود عمر الصادرة عن "دار راية للنشر" الحيفاوية وهي تحوي في طيّاتِها 93 صفحةً.

محمود عمر مدوّن فلسطيني وصاحب مدوّنة "سيرة لاجئ" وهذا عمله الروائي الأول.

تحكي الرواية حكاية سينما مهجورة وسط غزّة، يتّخذها علاء متنفّسًا له من ضغوطات غزّة، إذ تعمل السينما في ساعة معيّنة من الليل، لعلاء وحده، سينما وحيدة أحرقها مسلحون عام 94 بادعاء عرضها "أفلام سكس"، كانت تلعب دورًا ثقافيًا مهمًا من خلال ما تعرِضه، لكن في منطقتنا، وكما في كل شيء، حينما ترى نشاطاً ما "ثقافة" يراه آخرون يعيشون في نفس الحيّز الجغرافي خروجًا عن العرف والدين، فال"فتوى" تتغير بتغير الزمان والمكان والأحوال والعادات.

علاء "عائد"، والأب كان قياديًا في حركة فتح واهتم ببناء بيته الجديد في غزّة لكنه مات في تونس قبل "العودة" إلى غزّة بأسابيع، والأخ الأكبر قصي يغيب طويلا قبل ان "يستشهد" في موقف مرتبك على غير عادة الشهداء، وعلاء هو الراوي والصحافي والمصور الذي عاش غزّة قبل وبعد سيطرة "حماس" عليها، ويحكي قصة حب تنمو، مثل كل قصص الحبّ في غزّة، في الظلّ، عبر زيارات إلى السينما الخصوصية.

قابل حبيبته ليلى أول مرّة في المركز الثقافي الفرنسي في غزة. "كنت مدعوًا لمعرض صور يجمع بينها أنها تحاول إظهار الجزء العاديّ من غزّة: أطفال على البحر، مطبخ ضيّق، مطعم فلافل، قسم المواليد في مستشفى الشفاء، أراض زراعيّة في بيت لاهيا، متنزهات وشوارع"(ص 36) ولكن غزة غارقة في بؤسها والجميع مشاركون في جعلها تعتاد على ذلك لأنها " مش عادية. فش فيها ولا شي عادي. أنا بعرف هالشي. انت بتعرف هالشي. كلنا بنعرف" (ص 38)

غزّة الصغيرة مركبة من فسيفساء، العائدون (لأنهم عادوا مع السلطة، لا لأنهم عادوا إلى قراهم الأصليّة)، الغزازوة، المهاجرون، الفلاح، المدني، البدويّ وغيرها وفيها لكل الأسماء دلالة، وعلى تلك الدلالة، على تحديد ماهيّتها، دارت المعارك. أسماء الشوارع المكتوبة على المستطيلات المعدنية الخضراء من زمن "السلطة" الذي ولّى. أمّا أسماء الشوارع المكتوبة على المستطيلات المعدنية الزرقاء فمن زمن "حماس" الذي حلّ.

يصوّر عمر احتراب الأخوة في غزة والاشتباكات المسلحة فتح – حماس، حيث يختلط صوت البحر بصوت الرصاص، بحرٌ وبنادق. "يستنجد" بخطاب القائد الراحل ياسر عرفات في افتتاح دورة المجلس التشريعي، آذار 1996: "إننا على يقين من أن قوى الظلام والردة والإرهاب عملت كل ما في استطاعتها لضرب هذا الإنجاز التاريخي المرتبط بأعمق مفاهيم السلام. إنّ من خططوا ونفذوا الجرائم الأخيرة في القدس وعسقلان وتل أبيب لم يكونوا في واقع الأمر يوجهون ضربتهم للإسرائيليين فحسب، وإنما للفلسطينيين كذلك. كنا جميعًا ندرك أن للسلام ثمنا وأن هنالك قوى سوف تحاول إغراقه بالدم. واجبنا اليوم أن ندافع عن السلام في وجه الإرهاب وأن نتقدم إلى الأمام. إننا جميعًا شهود في هذه الساعات على صنع تاريخ جديد وولادة ديمقراطية جديدة في الشرق الأوسط. إنها مرحلة جديدة من الانبعاث لفلسطين. فلسطين الشعب. فلسطين الوطن. فلسطين الكيان المستقل." (ص 23)

احتراب الأخوة والاقتتال بينهم في قطاع غزة مؤلمٌ ولا مبرر له، وكما صرخ الروائي عاطف أبو سيف –ابن غزّة- في روايته "الحاجة كريستينا" وبأعلى صوته: " نتقاتل من يحرس بوابة السجن لإسرائيل" !!! فالشهداء من كلّ مكان ومن كل الأعمار يتحولون بعد أن يُقتلوا إلى بوستر معلّق بلا لون ولا انتماء، ونتيجة ذاك الاقتتال يُبعَد المقاتلون عن غزّة بعد أن "عادوا"، "لن يظلّ قُصَي من العائدين. سيعود إلى كونه فلسطينيًا خارج فلسطين، حاله حال ملايين اللاجئين. غير أن ما سيمتاز عنهم بأن فلسطينيين، لا إسرائيليين، هم الذين يقفون حائلًا بينه وبين "عودته". عودته التي لم تكن، منذ البداية، عودة حقيقيّة."!

يتحدث بطل الرواية، المصور الصحفي، عن تيهه وتخبطاته قائلًا:" المكروه يحدث للآخرين، وأنا عادةً ما أتواجد بقربه لأصوّره إن كان يصلح أن يكون خبرًا في وكالة أنباء. المكروه يحدث في كلّ مكان، لكنه لا يحدث لنا.... وحدهم من يُرمى المكروه في أحضانهم يتوقف إمدادهم بالطمأنينة ويبدأ تزويدهم بالحزن. كميات كبيرة من الحزن. عندها، تنفجر الدموع ويجتمع المصورون وتُنصَب بيوت العزاء وتُرفَع راية الفصيل لتخبر عن لون الحزن وعن الجهة التي ينتمي إليها. نادرة أحزان المدينة التي لا لون لها ولا انتماء".(ص31)

يهرب علاء إلى سينماه الخصوصية ليرى فيلمًا ليسعد، ولو قليلًا، لأنه لا يستطيع الوصول إلى البحر فالبحر قريب لكنّ رائحته غائبة، غزّة مليئة بالصور لكنها خالية من الأفلام. غزّة صارت مدينة الكاميرات اليابانيّة والبنادق الروسيّة، أما الدم فمحليّ الصنع ويقول "كل أفلام سينما غزّة تنتهي نهاية سعيدة..... أتمنى لو أدحش غزّة كلها في بطن السينما لتشاهد غزّة، غزّة برمتها، فيلمًا، وتحظى بنهاية سعيدة ولو لمرّة واحدة. ولكن غزّة تتمنّع وتصرّ على كونها صورة".(ص 61)

ينهي علاء الرواية بمشهد تصوير لاشتباك خاطف يودي بأرواح ثلاثة ويخلّف ثلاثة جثث بينها جثة أخيه قصي، دون أن يعرف، فيقول: أنا وهو نتحدث لغتين مختلفتين، أنا أصوّر وهو يطلق النار"، وينهي التصوير مبتسماً طامعاً في جائزة صحفية لتصويره سبقًا "سكوب" وعندما يُصدَم بالحقيقة المروعة تتداخل الدموع بالصور وفناجين القهوة والسجائر، فيسقط ! لأن القتل سهلًا "ما أسهل القتل. ما أسرع الموت. لم يلزمني سوى أن أضغط على زرّ الكاميرا لأوثّق ما حصل. أما المسلّح فلم يلزمه إلا أن يضغط على الزناد" (ص 83)

إنها رواية عبثيّة تثير تساؤلات حياتيّة مُربكة ومُؤلمة وجاءتني عند الانتهاء من قراءتها أبيات شاعرنا محمود درويش الخالدة:

على هذه الأرض ما يستحقّ الحياة
على هذه الأرض سيدةُ الأرض،
أم البدايات أم النهايات.
كانت تسمى فلسطين.
صارتْ تسمى فلسطين.
سيدتي: أستحق، لأنك سيدتي،
أستحق الحياة

وكذلك عنوان لوحة الفنان التشكيلي ظافر شوربجي "على هذه الأرض أيضًا من يسحق الحياة".


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى