الخميس ١ حزيران (يونيو) ٢٠١٧
بقلم محمد غاني

التطرف غرور بنَفَس ديني

لا يختلف اثنان على أن الانسان على ظهر البسيطة ما هو الا مسافر من مبدئه الى منتهاه من أجل بحثٍ عن معناه، و نقصد بذلك مغزى وجوده داخل السياق الأنطولوجي فكما يقول د مصطفى محمود "الانسان يعلو على الانسان بالبحث عن المعنى"، تبقى الاشكالية المؤرقة هي غفلة هذا الانسان عن مبتغاه، بسبب التهائه بملهيات ذات صبغات مختلفة يتقمصها شيطانه النفسي من أجل النزول به الى حظيظ الماديات عوض عروجه بالفكر و الروح، و تلك هي المعضلة، ذاك أن السهو عن مبتغى الانسان الأعظم في سياقه الوجودي يعد في نظرنا أحد أهم أسباب التطرف بكل أشكاله، ليس ذلك لشيء الا للشعور السلبي المتراكم نتيجة تضييع الجهود خارج القنوات الصحيحة و هو ما يتناغم مع نظرية الفيلسوف الأمريكي خورخي سانتايانا "التعصب هو مضاعفة جهدك بعد أن تكون قد نسيت مبتغاك".

ألا ترى معنا أيها العاقل أن المُصِر على عدم الاعتراف بخطأ الاتجاه و السير قدما خارج السياق عين الغرور. أليس هذا هو نفس ما تعيشه أمة الاسلام اليوم بسيرهم الى الوراء بسرعة حثيثة في حين أنهم يتوهمون العكس رغم أن كل علامات السير و اشارات المرور و قرائن السفر تدل على أنهم قد ضلوا الاتجاه؟

حملت أمة الاسلام مشعل جوهر الاسلام و روحه الذي قعده فلاسفة الاسلام على شكل علم ينظم قواعد السير الروحي، أُطلق عليه فيما بعد مصطلح "التصوف "كما تشكلت علوم أخرى من رحم الاسلام كعلوم الآلة من صرف و نحو اعراب بعد أن كان العرب يتكلمون العربية بالسليقة، و كعلوم الفقه و أصوله، و التفسير و الحديث مما يهتم بفقه الخطاب الشرعي، في حين اهتم المتأخرون من عامة المسلمين بقشور الاسلام فانخدع الجمهور بخطاب كل منافق أفاك تقمص قميص الدين من لحية خداعة و بسملة وحمدلة قبل تمرير اي خطاب لتمرير مصالحه الشخصية في قالب يقبله السامع و إن كان ضده مائة في المائة.

لنتأمل حال المسلمين بالأمس حين و نقارنه بوضعيتهم الحالية حتى نفهم بعض أسباب خروج المسلمين اليوم عن سياق الوعي و الفهم، لقد كان الأوائل يحرصون على طلب العلم لا لوظيفة و لا لطلب رزق و انما لوعيهم التام بأن نهوض الأمة لا يتم الا بوعي، حيث كانوا يتخذون الحرف مطية للوصول الى مبتغاهم المعرفي فنهضوا بالعلوم في مختلف المجالات فعلماء الروح الذين يتبوأ الانبياء الصدارة في ترتيب مقاماتهم كان معظمهم يحترفون حرفا كنبي الله نوح عليه السلام الذي كان يحترف النجارة، و نبي الله داود الذي علمه صناعة لبوس تقي بني آدم بأس بعضهم البعض، و نبي الله ادريس الذي امتهن الخياطة و رسول الله سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم الذي احترف الرعي طورا و امتهن التجارة طورا آخر.

كذلك اتخذ العلماء المسلمون سيرا على سَنَن أنبياءهم حِرَفا و مِهنا مولوا بها أبحاثهم و دراساته، ذكر العلامة اللغوي عبد الرحمة كوني في كتابه "شرح موجز البلاغة: "فكان طلبة العلم قديما يطلبون العلم للعلم، فكانوا لا يَستَعجِلُونَ لأنه ليس أمامهم شيء آخر، ولذلك كانوا يحترفون حرفا لِيَتَعَيَّشُوا به وتكون همتهم فقط أن يجدوا العلوم، وكنتَ تجد مثلا المحدث يقال قديما: كان أبو حنيفة بَزَازاً أي يَبِيعُ البَزَّ، لكن يمارس هذه الحِرفَةَ ولا يشغل نفسه بها إشغالاً تاما إنما هو شُغلٌ يدوي خفيف حتى يستطيع أن يَتَرَزَّقَ أو أن يجد ما يَقتَاتَ به منه من هذا العمل الخفيف وهكذا".

فحب الرزق مفطور عليه الانسان لكن مع الوعي التام بأن الرزق ما هو الا وسيلة الى تحقيق السفر المعنوي الى الحق، فإن تحقق الانسان بهذا المعنى علم أن مروره ما هو الا نسبي لذلك عليه أن يترك بصمته على هاته الارض بصدقة جارية تبقى تحتفي بذكراه بعد انتقاله الى الدار الأخرى.

إن مسألة الارتقاء بالوعي الفكري و الروحي و البدني على السواء في تناغم تام يبقى في نظرنا هو السبيل الى الهروب بالانسان الى الأعلى، ذلك الأعلى الذي ارتقى بعروجهم اليه، الصحابة الكرام فارتقوا بأنفسهم عن ذلك التناحر الذي أغرقتهم فيه جاهليتهم العمياء المقعدة على النزول بالذات الانسانية الى ادنى درجات حيوانيتها عوض الرقي بها في الكمالات الروحية و الفكرية و البدنية عبر براق الذكر و الفكر و رياضة البدن.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى