الأربعاء ٢٨ حزيران (يونيو) ٢٠١٧
بقلم فاروق مواسي

الدهر مدرسة والتجربة حكمة

يقول ألبرت إينشتاين:

في المدرسة يعلمونك الدرس، ثم يختبرونك.

اما الحياة فتختبرك، ثم تعلمك الدرس.

من التجربة والخبرة تكون الدروس، وهي الأنفع والأجدى، ورحم الله والدي الذي كان يكرر على مسامعي: "الدهر مدرسة"، "الإنسان يموت وهو يتعلم"، وقد كان يدوّن بعض الحكم في دفتر صغير قرأت منها: "غنم من أدبته الحكمة، وأحكمته التجربة".

هناك من يرى أن المعرفة ليست بالمعلومات، وإنما هي بدروس الحياة، وأن كمال العقل بطول التجارب.

ابتسمت عندما قرأت المثل الإيطالي:

"من يسقط عن الحصان يقل للحمار مهلا أريد النزول"، فتذكرت المثل "المقروص يخاف من جرة الحبل".

في دارجتنا أمثال كثيرة تحث على التجربة والمعايشة:

"قال له بتعرفه؟ قال له آ. قال له جرّبته؟ قال له: لا.

قال له: لا فيك ولا في معرفتك"!

فانظر إلى حذر هذا الرجل الذي سئل:

مالك بتنفخ ع اللبن؟

قال له: أبوه سمطني من قبله".

وهذا شبيه بالمثل التركي: "المحروق بالحليب ينفخ على اللبن".

وحتى الأمثال كلها وردت من بعد تجربة، والحكمة من بعد معايشة.

لا ننكر أهمية المعرفة العلمية، ولكن التجربة تظل هي المِسـنّ الذي تُشحذ به.
لو لاحظنا بعض المتحدثين المجيدين في مجتمعنا لرأينا أن سرَّ نجاحهم في استقطاب النفوس- أنهم يتحدثون عن تجربة، وأنهم يعرفون الأمثال والحكايات الشعبية، بل لهم ذاكرة فيما جرى في مجتمعهم.

يقول الحديث الشريف تأييدًا لمعنى التجربة- "لا يُلدَغ المؤمن من جُحر مرتين" (صحيح البخاري- 6133، ونُسب لمعاوية في هذه الصفحة نفسها: "لا حكيم إلا ذو تجربة"، فمن جرّب المجرّب فعقله مخرّب، والدهر سلسلة من الدروس علينا أن نكتسب منها ما استطعنا.

كان أبو منصور- أحد الشيوخ في بلدتي وقد "حلب الدهر أشطرَه" وذاق حلوه ومرّه- يكرر جملته: الرجل ما بتعرفه إلا بعد ما تحكّه.

سألته عن معنى مقولته، فقال لي "الرجال معادن"، فعند جليها تعرف أصالتها من زَيفها.

في جولتي الشعرية أقدم لكم بعض النماذج التي تدل على التجربة- حكمة الدهر:

لا تحمدَنَّ امرأ حتى تجربَه
ولا تذمَّنَّه من غير تجريب
فحمدُك المرءَ ما لم تبلُه خطأٌ
وذمُّك المرءَ بعد الحمد تكذيب

(نُسب البيتان لأبي الأسود الدؤلي، وأما البيت الأول فهو منسوب كذلك للنابغة الشيباني، ولأبي نواس).

أبو تمام:

لقد جربت هذا الدهر حتى
أفادتني التجارب والعناء
يعيش المرء ما استحيا بخير
ويبقى العُود ما بقي اللحاء

أبو فِراس الحمْداني:

لقد زدت بالأيام والناس خبرة
وجربت حتى هذّبتني التجارب

لكني سأقف على أبيات من لزومية للمعرّي، وهي من روائعه، وقد أستطرد قليلاً في شرح موقفه من الدهر:

يؤدّبك الدهر بالحادثات
إذا كان شيخاك ما أدّبا
بدت فتنٌ مثلُ سودِ الغمامِ
ألقتْ على العالم الهيدَبا
ومن دونِها اختلفتْ غالبٌ
وأبْعدَ عُثمانُها جُندُبا
فلا تضحكنّ ابنةُ السَّنْبَِسيّ
فأوجبُ منْ ذاك أنْ تَنْدُبا

الدهر في مصائبه ووقائعه يؤدب الإنسان، فإذا كان والداك قد قصّرا في التربية فالدهر كفيل بالتأديب من خلال التجارب.

ها هو المعري يصف حالاً كأنها اليوم، فالفتن والحروب ظهرت وكأنها سود الغمام (غبار الحرب)، وقد ألقت على عالمنا الهيدَب (ما تدلى من السحاب)، والإشارة هنا إلى كثرة المتعادين.

ثم يقدّم مثلاً من الفتن أن بني غالب (قريش، وغالب- أحد أجداد الرسول) كانوا على خلافات شديدة، بل بلغ الأمر أن الخليفة عثمان نفى أبا ذَرّ الغِفاري (جُندُب) إلى الرَّبَذة.

يصف أبا ذر بأنه السنبسي- يعني به الهزيل، فقد كان هزيلاً جدًا بسبب زهده، فكان أحرى بابنته أن تبكيه فلا تضحك.

خلاصة أبيات المعري أن الدهر لا أمان له، مع أنه يربّي الإنسان إذا لم يربّه والداه.

يصف المعري في لزومية أخرى الإنسان بعد الأربعين:

وافى بذلك أربعين، فما له
عُذرٌ إذا أمسى قليلَ تجارب

وهذا الجمع بين الدهر والتجارب أشار إليه شاعر:

صحبت الدهرَ في سهلٍ وفي حَزَنٍ
وجرّبت الأمور وجرّبَتني

فاسأل المجرب ولا تسأل...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى