السبت ١٥ تموز (يوليو) ٢٠١٧
بقلم نوميديا جروفي

(ألوّح بقلب أبيض) ليقظان الحسيني

الشّاعر يقظان الحسيني ابن بابل العريقة، أبدعَ كثيرا في ديوانه ( ألوّح بقلب أبيض )، و هو ديوان امتزج فيه حبّ الوطن، أنين الغربة، ألم فقدان، حنين لكلّ ماضي جميل و أمنيات كثيرة يتوق لتحقيقها لعراق اليوم.

ففي كتابته:

بين عناكب أيّامنا
و تنهيدة وطن
سيولٌ جارفة

قصد بالعناكب غبار السنين الماضية التي تحمل في طياتها أفراح و أتراح، غبار للزمن الجميل الذي ولّى و لم يعد، غبار الضحك و الفرح الذي تحوّل لحزن دفين.
و عن تنهيدة الوطن قصد بها كل الآلام التي يحملها العراق منذ القدم، منذ بداية التأريخ ليومنا هذا.
و السيول الجارفة هي الدّموع اللتي لم توقّفْ أبدا منذ زمن بعيد، هي الدّماء الطاهرة للشهداء التي رُويتْ منها أرض العراق.
كمن قال:
كفى دموع
فقد ذبلت عيناي
كفى حزن
فالألم أصبح هواي
كفى خوف
فالظّلام أصبح مأواي

في كتابته:

على رمل الوداع
كتبنا
سلامًا لغصنٍ ضمّنا
و زيتونة
سقى زيتها مساءات أيّامنا

هنا يقصد الشاعر وداع الوطن الأمّ لأرض المنفى، للأرض البعيدة حيث يشتاق الإنسان لعبير وطنه، و يشتاق لنسيمها العليل، يشتاق لنخيل أرضه، و غصن أشجار الزيتون الوارفة التي كان يستظلّ بظلّها في أيّام الحرّ.
الفراق، لسانه الدّموع، وحديثه الصمت، ونظره يجوب السّماء.
أو كمن يقول:
لم يقتلني غيابك، لكن يقتلني تمرّد قلبي بالحنين إليك.
و عن الوداع قيل:
أكره مراسيم الوداع، الذين نحبهم لا نودعهم، لأننا في الحقيقة لا نفارقهم، لقد خلق الوداع للغرباء..وليس للأحبة .

في كتابته:

كي أصفكِ أيّتها الريح
كم تحتاجين من الهبوب؟

إنّها ريح الصقيع في بلاد المنفى التي يتجمّد فيها الإنسان، إنّها الرّيح التي لا تشبه ريح الوطن الأمّ الحنونة، إنّها الرّيح الباردة و ليست تلك الدافئة للعراق.
إنّها الريح المخيفة دوما بعواصفها غير المتوقّفة التي لا تكفّ عن الهبوب و كأنّها ساخطة على الإنسان لتزيده حزنا بصوتها القاسي.

في كتابته:

من انكسار الأمل
إلى زمجرة الحروف
أعوم على صيحاتك

قيل: الألم صعب جداً ولكن الأصعب هو أن لا تجد من يقاسمك هذا الألم ويخفف عنك قسوته.
و عن بغداد الحبيبة قيل:
أتبكي على بغداد وهي قريبة.. فيكفي إذا ما ازددت منها غداً بعداً.. لعمرك ما فارقت بغداد عن قلى.. لو أنا وجدنا من فراق لها بدا.. إذا ذكرت بغداد نفسي تقطّعت.. من الشّوق إن كادت تهيم بها وجداً.. كفى حزناً إن رحت لم أستطع لها.. وداعاً ولم أحدث بساحتها عهداً.

في كتابته:

لا تصدّقوا أنّ للموج أجنحة
تعود بنا إلى وطن

هو التمنّي الذي يتمنّاه الغائب عن وطنه قسرا لظروف جعلته يُغادره بعيدا لأرض لا ينتمي إليها لا من القريب و لا من البعيد، لوطن جديد عليه أن يتأقلم معه في كلّ عاداته و طبائع أهله و ناسه و رغما عنه.
و كلّما شاهد الموجة هناك ذكّرته تلك المياه بالنّهريْن العظيميْن، تذكّره بدجلة و الفرات و مياه الأهوار.
هو تمنّي و لو شبه مستحيل لو كان للموج جناح يعيد البعيد للوطن، كتابة تعكس ما في نفس الشاعر الذي يعيش بعيدا عن أرضه في المنفى الذي يقول:
أتمنّى لو للموج أجنحة .. تعود بي للوطن"
لكنّه تناول الكتابة بصيغة أدبيّة جدّ راقية في التعبير.

في كتابته:

لأزمنة نقشّر سذاجاتنا
كأغلفة متيبّسة
و نقشّر أغلفة أخرى
و أخرى

إنّها الأزمنة الغابرة التي ولّت و نحن بسذاجتنا ننتظر التغيير نحو الأفضل لكثرة الوعود، لكنّ الوطن يزداد سوءا نحو الأسوأ بسبب الكاذبين و النصّابين الذين سلبوا الوطن خيراته و أثقلوا كاهله بالألم و الأحزان غير المنتهيّة، رغم هذا و ذاك لم نسأم و لم نملّ من انتظار غد أفضل، ذلك الذي عبّر عنه الشاعر بأغلفة أخرى، أي بأيّام أخرى أجمل ممّا هي الآن.
كمن يقول:
بعد الفراق لا تنتظر بزوغ القمر لتشكوا له ألم البُعاد؛ لأنه سيغيب ليرمي ما حمله، ويعود لنا قمراً جديداً، ولا تقف أمام البحر لتهيج أمواجه، وتزيد على مائه من دموعك؛ لأنّه سيرمي بهمّك في قاع ليس له قرار، ويعود لنا بحراً هادئاً من جديد.

في كتابته:

ما لوطن يبتعد
و كلّ أرض حولنا
غريبة

الوطن لم يبتعد عنّا بل نحن من ابتعدنا عنه لظروف قاهرة، هذا ما يقوله الشّاعر ، لنبقى غرباء حيث نحن، مهما غيّرنا الأراضي تبقى غريبة عنّا و نحن أكثر، و كلّ أرض غير أرضنا هي أجنبيّة غريبة و تبقى كذلك لو عشنا فيها دهرا.

و عن تلك الغربة قيل:
ما أصعب أن تبكي بلا دموع، وما أصعب أن تذهب بلا رجوع، وما أصعب أن تشعر بضيق، وكأنّ المكان من حولك يضيق.
و كمن يقول:
لكم في الذّكرى شجوني من أجلها تدمع عيوني، فإذا طال الزّمان ولم تروني، فابحثوا عنّي على من أحبّوني، وإذا زاد الفراق ولم تروني، فهذا كلامي فيه تذكّروني.

.في كتابته:

قبل قليل
اهتزّت المدينة على دويّ انفجار
بعد قليل
صعدت في سماوات المدينة
صيحة أمّ

هي الإنفجارات العديدة، هي تلك الإنفجارات المتكرّرة، هي الإنفجارات غير المتوقّفة التي تباغت دوما الكثيرين في الأماكن العامّة و الأسواق، تلك التي تذهب بأرواح الأبرياء دوما، تلك التي تحصد حياة خيرة شباب العراق كما حدث السنة الماضية في الكرادة، و كما حدث و يحدث دوما في بغداد الحزينة.
هي تلك التي تجعلنا نسمع النّواح من أمّ موجوعة ثكلى، صيحات نساء باتت سيمفونية حزينة في بيوت عديدة من العراق، هي صيحة أمّ شهيد .. هي صيحة لا نستطيع التعبير عنها لأنّها صيحة استثنائيّة نذرف عليها دموع حارّة لا تطفئ جمرة اللوعة.
في الأخير:

أبدع الشّاعر "يقظان الحسيني" في ديوانه العميق هذا، حيث جسّد الفراق و الحزن العميق بأسوب أدبي إبداعي خاصّ ، بومضته السحريّة بمفردات بديعة جعلنا نتوقّف عندها لنكتشف سرّ المعنى من وراء كلّ كتابة.
أتمنى له دوام التألق و الإبداع بقلمه الراقي.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى