الاثنين ١٣ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٧
بقلم حسن عبادي

اضحكي..ضحكتك أحلى من خط الدكاترة

عندما أقرأ كتابًا للمرة الأولى أشعر أني قد كسبتُ صديقًا جديدًا، وعندما أقرأه للمرة الثانية أشعر أني ألتقي صديقاً قديماً (هذا ما قاله أوليفر سميث) ولحُسنِ حظّي ألتقيت "طواف" خربشات قصصية بحجم راحةِ اليد للدكتورة كلارا سروجي-شجراوي (يشمل 58 قصة في 171 صفحة وصدر عن مكتبة كل شيء الحيفاوية) للمرة الثالثة: الأولى في شهر حزيران حال خروجه من المطبعة، والثانية حين قرّرتُ أن أكتب قراءة عنها والثالثة هذا الأسبوع فعشت مع جرأة كلارا وسخريتها اللاذعة وخربشاتها المتمنّعة وتحدّيها لمواصفات الكتابة وأصولها، فأنا جئت من مدرسة النقد الانطباعي وكلارا جاءت من مدرسة الكتابة الانطباعية!

تزامنًا مع قراءتي الأولى لخربشات كلارا صادفتُ "لوحة فنية" على جداريّة موقف السيارات بجانب مكتبي (على حائط مدرسة أورط الكرمل الحيفاويّة) خُطّ عليها بخط مراهق بريء "إضحكي... ضحكتك أحلى من خط الدكاترة" وحين كتبت قراءتي أخترته، دون تردّد، عنوانًا لها، حيث تمّنعت كلارا ولم تُسمّها مجموعة قصص قصيرة أو شذرات أو ومضات أو خواطر وأطلقت عليها "خربشات" ساخرة من القارئ! فجاءت كتابتها ضاحكة في وجه "دكاترة" الكتابة وأحلى من مخطوطاتهم.

قررت كلارا الاعتماد على التقديم الغَيري كعتبة نصيّة فاستعانت بالبروفيسور إبراهيم طه (وكذلك للتظهير) ليكتب مقدمة توجيهيّة للقارئ المتلقّي مشيرًا إلى مقوّمات المجموعة الفنيّة متعديًا على النص وهي بغنى عن ذلك، فتساءلتُ: هل هي وسيلة تسويقيّة لكلارا وخربشاتها ؟!؟ وهي طبعًا بغنى عن ذلك.

صدمتني كلارا بالقصة الأولى من قصص المجموعة:

"أنا وشوبنهاور"

قلت لصديقي شوبنهاور: أنوي أن أشتري كتب التراث العربيّ فهي ذات تصميم خلاب، غلافها سميك وألوانها إمّا ذهبيّة أو خضراء أو بلون النبيذ.

شوبنهاور: معك حقّ، فهي تناسب مكتبتك الجديدة من خشب الزّان الصّافي بلونه الطبيعيّ. ولكن هل بإمكانك شراء الوقت اللازم لقراءة مثل هذه الكتب؟

مزجت في النص حبها للأدب والتراث والفلسفة، السخرية والكوميديا السوداء الجارحة، نظرة الغرب للشرقيّ وثقتها بنفسها وتحدّيها لشوبنهاور واعتزازها بشرقيّتها ونسويّتها في آن واحد، وكل ذلك في خربشة قصيرة مرتّبة.

استضافت كلارا في إحدى نصوصها "الرّازي ونجيب محفوظ" في لقاء قمّة افتراضيّ جمع كل من الطبيب الفيلسوف أبو بكر الرّازي والكاتب العالميّ نجيب محفوظ والفيلسوف ابنُ رشد، وهم ضحايا شرقنا المُعتبَرين في الغرب، في حوار سرمدي وسمعتهم يرفعون نخب اللقاء وكأني بابن رشد يقول: لا نبي في وطنه! والله يا عمّي زمّار البلد لا يُطرب!

تحدّت كلارا عقلية الشرقي الذكورية بكبرياء واستعلاء مدروس ومؤلم، لتصدمه وتستفزّه بوخزات لاذعة ليستفيق من سباته العميق كنحلة تقرص وتبث رحيقها من حولها متبخترة كما رأيت في قصة "الحق كله على جوزي".

تحدّت كلارا التابوهات المتوارثة وتحدّثت عن المسكوت عنه في قصة "ارتداد" لتحارب سفاح المحارم:"هناك، في غرفتهما قبّلها في فمها. أبعدته عنها، لكنّه ألقاها على السّرير وانتزع ثيابها. حاولت أن تصرخ، فوضع يده على فمها. حاولت أن تبعد جسده عنها لكنّه كان أقوى منها. بابا، لا تفعل بي ذلك، لكنّه لم يسمع توسّلاتها، ولا رأى الدّموع في عينيها" (ص 115).
تناولَت وضعنا ومآسي شعبنا بحنكة بعيدة عن الشعاراتيّة والمباشرة في قصة "جيزيل تلعب بالخشب" فأطفالنا حُرموا من أبسط الأمور كباقي أطفال العالم! والطفل عصام في قصة "حُلمُ طفلٍ" كغيره من الأطفال يحلم بوطن وعَلَم! (ص 155)

حين قرأت قصة "الجدار" أصابتني قشعريرة وعدتُ إلى جولتي الأخيرة مع أحمد دحبور في أزقّة وادي النسناس وحيفا "- يمّة... خذيني إلى حيفا. غدًا تكبر، يا حبيبي، وتأخذني أنتَ إليها". النكبة والتهجير وحلم العودة... بدون لفّ ودوران! أما قصة "انعتاق" فهي عالمنا، حكايتنا، تاريخنا، مستقبلنا.... وحلمنا!

تحدّثت كلارا عن ازدواجية المعايير عند اليهود وأعادتني عند قراءة "عازف الغيتار" إلى مطار بن غوريون حين رافقني زميلان يهود للقاء عمل في لندن ضمن نشاطي في أمنستي، وساعة التفتيش فصلونا عن بعضنا البعض والتقينا بباب الطائرة وإذ بهما "يعتذران" عن فِعلة الأمنيّين فابتسمت، وصحَوت من غيبوبتي:" في تلك الأثناء كانت القيثارة تئِنّ وتتوجّع من وحدتها بين الحقائب الضّخمة القاسية تتناولها بالوخز والضّرب، ولم تعد كما كانت بعد أن فقدت اليد الرّقيقة التي تداعبها، فأُجبر سمعان على استبدالها بأخرى كي يعزف عليها في الحفل الموسيقيّ. خرجت الأنغام غريبة باردة فاقدة لبراءتها وعفويّتها" (ص 133).

كلارا ثائرة متمرّدة على الرجل فتسخر منه ومن عنفوانه ومحاولاته للسيطرة والسيادة وتنتصر عليه وتهزمه ليبدو ضعيفًا ذليلًا.

تناولت كلارا قضايا "نسوية" ومحاولة استغلال المرأة وتفاعلها في قصّة "الحياة حلوة" فتقول:"ما كانت تجهله هو أن المدير الكريم سيقترح عليها خدماته، وسيوصلها إلى أيّ مكان تريده (أو لا تريده) الآن وفي الأيام القادمة أيضا." (ص 151)

جاءت كتابتها بسيطة ومباشرة، دون تأتأة، أطلقت سهامها وأصابت الهدف، انتقدت المجتمع الذي يحيط بها دون مواربة. تناولت ما يدور حولها، غاصت في الأعماق بمهارة فخلقت مخلوقًا جميلًا يتناوله الجميع، كل بمقدار حاجته، بوتيرتِه وعلى موّالِه وهواه، إن كان موضوعه اجتماعيا أم سياسيّا أم فلسفيّا أم وجوديّا.

استحدثت كلارا التسمية للكتاب كخربشات لأن كتابتها انطباعية وكأني بها تصرخ: أنا أكتب ببساطة عفوية وبفوضوية، أغرّد خارج سرب المألوف فحاسبوني على مضاميني ولا تهمّني مسمّياتكم وقوالبكم، رافضة تلك القيود الشكلية والنصّية، أقرؤوها وافهموها كما شئتم فهذه رسالتي دون رتوش. نعم، هذه الحداثة... وما بعد بعد الحداثة، قلبًا وقالبًا!!

وكذلك الحال مع الإهداء، جاء في آخر المجموعة وليس في بدايتها كالمعتاد وأتبعته بوصيّتها للقارئ.. متحدّية كل ما هو مألوف ومتعارف عليه، قارعة للطبول شادّة آذاننا، شاء من شاء وأبى من أبى.

قصصها بلغة بسيطة تصل إلى القارئ العادي بسلاسة، بعيدة عن التعقيدات اللغوية وشد العضلات. فبعضنا يعقّدون حياتهم، فيحجبون الخير عن عقولهم، يتخندقون مما يعيق إبداعهم، وكما يقول ستيف تشاندلر في كتابه "مائة طريقة لتحفيز نفسك": "معظم الناس لا يرون أنفسهم مبدعين وذلك لأنهم يربطون الإبداع بالتعقيد ولكن الإبداع هو بالبساطة". فلنتوجه نحو التبسيط ولنبتعد عن التعقيد! وها نحن نجد د. كلارا قد جمعت بين البساطة والابداع… فكانت مبدعة في بساطتها وبسيطة في ابداعها.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى