التمرد والاحتجاج في شعر وديع العبيدي
(منفيون من جنة الشيطان) نموذجاً..
قبل معرفتي بشعر (وديع العبيدي)، اطلعت أول الأمر على قصصه التي منذ الوهلة الأولى تشدّ القارئ بلغتها الشعرية المباشرة والبسيطة وأحداثها التي قد تبدو عادية لكنها تمتلك عمقاً انسانياً وفلسفياً ينطق بعبثية الحياة ووجع التمرد على الواقع.
بعدها اطلعت على قصائده المكتوبة بالعربية ثم المكتوبة بالألمانية، فوجدت فيها ذات الثنائية الشعرية الجميلة الجامعة بين وضوح اللغة وبساطة المفردات، مع عمق المضامين الصارخة بالتمرد ضد جبروت اللا جدوى وقبح المصير. أفضل تعبير عن هذا نراه في مجموعته العربية [منفيون من جنة الشيطان]*، حيث يختصر الشاعر موقفه عبر استشهاده بمقطع من قصيدة (برابرة العصر) للشاعر النمساوي فرانتز يوسف هاينرخ:
"هللويالقد نجونا..رأس المال ينموالفقراء يغرقون..في بحر الفوائض الماليةكل العالم يمضي للأمامالأرباح ترتفعالأسعار تعمل أثرهاتدوي..رأس المال ينموهللويا.."
من البديهي، أن معرفة حياة وظروف المبدع تساعد كثيراً على تفهم مضامين ابداعاته والتفاعل معها بصورة أعمق وأكثر موضوعية. وديع العبيدي الذي تخذ من النمسا موطنه (الثاني)، وبما أنها كما هو معلوم ناطقة بالألمانية، فأن الشاعر قد تضلع بهذه اللغة إلى حدّ أنها صارت لغة تعبيره الأدبي الثانية بعد العربية. وهذه الثنائية الثقافية اللغوية لا بدّ أن تترك أثرها في الابداع الأدبي. رغم الاختلافات الكثيرة بين الثقافتين، العراقية العربية و النمساوية الجرمانية. إلا أنه كما يبدو ثمة تشابه بين الروحين العراقية والجرمانية، حيث تهيمن تلك الازدواجية الحادة بين احساسين متصارعين: الروح العذرية (الرومانسية) الحالمة بحياة فردوسية خالدة ومجتمع ملائكي فاضل، بمواجهة واقع قبيح وحياة عابثة ومجتمع قاسٍ وموت رابض لا يرحم.. أن التصادم بين هذين الطرفين المتناقضين، أي الروح الحالمة والواقع المشوّه، يخلق في الانسان نفسية متشائمة ورؤية سوداوية متمردة خائبة بائسة. وقد يكون (نيتشه) أفضل من عبّر عن هذه الروح الجرمانية فلسفياً وأدبياً، بينما يمكن اعتبار شاعر الحداثة العراقية السيّاب [1926- 1964] أفضل من عبّر عن هذه الروح العراقية شعرياً.
ان اسطورة (جلجامش) العراقية الشهيرة [الألف الثالث ق.م.] قد عبّرت عن هذه الروحية الواقعية التشاؤمية، عبر مغامرات ذلك الملك الذي جال الأرض بحثاً عن سرّ الخلود، ثم يعود خائباً ليستمع إلى سيدة الحانة تردد عليه حكمتها الأزلية الواقعية جدا:
"لقد قدّرت الآلهة الفناء للانسانواستأثرت هي بخلود الحياةفاملأ بطنك بملذات الطعاموابتهج ما شئت ليل نهار....فهذا نصيبنا من الدنيا...".
ان شعر وديع العبيدي يعبّر أفضل تعبير عن هذه الروح الموروثة، بل يمكن القول أنه قد يتجاوزها أحياناً عدة، حيث تجتمع فيها بانسجامية رائعة نداءات الفروسية المتحدية التي كان ينطق بها سلفه (المتنبي) [915- 967 م]، ذلك الشاعر العراقي العباسي الشهير، مع الحكم والأفكار المرّة المتهكمة للفيلسوف الألماني (نيتشه):
"أقول لكماليوم لكموأمس لكمأما الغد فللذين يولدونوأعمالكم لكمأما حياتكم فلم تستطيعوا امتلاكهالأنها كانت دائماًفي يد الشيطان..."ـــــــــ ص 13 [منفيون من جنة الشيطان]
من الناحية الاسلوبية فأن قصيدة العبيدي لا تعتمد على وحدة الصورة بل على تعدد الصور ضمن وحدة الفكرة والاسلوب والموسيقى..
"بعد اليوم لن أنتظرأن يدفع الشرطي بقدمهالبابويغلقها بدوني..بعد اليوم لن أنتظرأن يدبّ اليأس في عروقيوأتسلّى عنك بنظم الشعر.."ــــــــــــــــــ ص59 (ن.م)
وديع العبيدي مثل كثير من الشعراء يستخدم الرموز التاريخية والاسطورية في قصائده [آدم، حمورابي، جلجامش، يوسف النجار.. وغيرهم]، إلا أنه يضفي تمرده الخاص به على هذه الرموز، ويغير تماماً معانيها المعروفة. لهذا نرى مثلاً (أوتونبشتي - نوح) نبي الطوفان وخلود الانسان يتحول إلى لاجئ سياسي:
"في سجن تسفير الأجانبقابعاً في زاوية باردةخلفه تحتشد عناوين..العشاق والسجناء.."ــــــــــــــــــ ص83 (ن. م.)
قصائده جميعها ذات مضامين انسانية شمولية، بما فيها القصائد الذاتية التي يتحدث فيها عن نفسه..
"هناكفي منتصف الليلإذا سمعت صوت الصحونفلا تحسبني جائعاًوإنما..أنتحر..على الطريقة الملكية!عملاً بوصيّة أبي قراطفميتة التخمة..أفضل من ميتة الجوع."ـــــــــــــــــ ص21 (ن. م.)
ان تمرد شاعرنا، ليس فقط ضد مجتمعه الشرقي العالم ثالثي، بل أيضاً ضد المجتمعات الحداثية المتقدمة:
"يحيا القرن الحادي والعشرونقرن العبودياتفي الشرق عبودية الغيبياتفي الغرب عبودية الآلةفي كل العالم عبودية رأس المالإله الجميع."ــــــــــــــــــــــــــ ص50 (ن. م.)
أجواء قصائد العبيدي عموماً أقرب إلى أجواء الحكاية والاقصوصة، حيث تكون لغة القصيدة أقرب إلى لغة الحوار. يمكن اعتبار قصيدة (لا تنتظريني يا أمي) من أجمل وأفضل النماذج الحكائية الحوارية..
"اخلع جواربك قبل النوم..تقول أميوتضع عليّ غطاء آخر..أقول لها..كيف أخلع جواربيوضابط الصف..يدعوني كل لحظة..وأناشيد الحربكلّما أحست بالضجرتدعوني..وأنتِ..من الأفضل أن تذهبي للنومولا تتفقديني دائماًأينما أذهب..هل أبقى دائماً طفلك المدللنحن الآن في زمن آخرولقد كبرت كثيراًوالشيب ظهر في صدغياني لم أخلق لك فقطكثيرون..لهم حصة في دميودقائق عمري.."ـــــــــــــــــــ ص180 (ن.م.)
أنني لا أدّعي بأن ما أوردته هو تحليل نقدي كامل، بل بالحقيقة، ما هو إلا لمحات ذوقية لوصف شعر العبيدي، عسى أن تسهّل للقارئ عملية دخول خيمته الشعرية وبلوغ المراد النهائي المطلوب من كل ابداع فني وأدبي، وأعني به: الامتاع والادهاش والوجد.. وهذا بالضبط ما شعرت به في أجواء قصائده..
* الدكتورة مارغريت كافيه مستعربة سويسرية من جنيف، متخصصة في التراث والأدب العربي، لها: تحقيق كتاب: (أبي زيد الهلالي) بالفرنسية.
* (منفيون من جنة الشيطان) مجموعة شعرية للشاعر وديع العبيدي، صدرت عن منشورات الحركة الشعرية في المكسيك بإدارة الشاعر قيصر عفيف – 2003، والمجموعة رد على الممارسات العدوانية الاميركية على العراق.
*(صدفة نجوت) مجموعة الصادرة في النمسا للشاعر وديع العبيدي باللغتين الألمانية والعربية، وترد إليها الاشارة خلال الموضوع