الاثنين ٣ تموز (يوليو) ٢٠٠٦
بقلم فاروق مواسي

النثر مفتاح لمعرفة الشاعر

من الظواهر البارزة التي نعهدها في الشاعر الحديث – هي هذا التماثل في النسيجين الشعري والنثري لديه. بعبارة أخرى: إن شعر المبدع ونثره هما من نفس فصيلة الدم الكتابية . وسأخطو خطوة تميل إلى التقرير والتأكيد، فأقول: إن الشاعر يفضحه – أو على الأقل –يكشفه نثره، ولعل النثر هو العين التي تفضح الصبَّ.
بعد نكسة حزيران زرت الشاعرة فدوى طوقان، يدفعني إلى زيارتها تقدير لموهبتها وإعجاب بوطنيتها. ولا أدّعي إذا قلت إنني كنت شاهدًا على بداية كتابتها "رحلة جبلية-رحلة صعبة".
قرأت فدوى على مسامعي بعضًا من هذه المذكرات الرائعة، فارتبطت بذهني هذه الفكرة لأول مرة – إنها المراوحة في النفَـس الواحد بين شعرها ونثرها. إنها الطقس اللغوي الواحد.
وعندما قرأت نقديات صلاح عبد الصبور كنت أتلمس الفكر الذي يشيع في خيوط شعره ونثره، هي لغة صورة روحه وتفجراتها وطموحها، روح خلاقة تحمل انسيابيتها ودفئها.
وترسخت الفكرة في ذهني يوم أن توالت الكتابات النثرية بقلم نزار قباني. بعضها تعريف بشعره وبسير حياته، وبعضها نقد سياسي واجتماعي. قلت:
ما أقرب نثر نزار على أنفاس شعره. لغته هي هي ، تحمل نبضه وهيامه، تعكس خفايا روحه وأحلامه، تعيش في أعماقه، تحلق في آفاقه، تجري دافقة بين ذاته وموضوعه. وصدق نزار إذ سمى طريقته في الكتابة "مدرسة" ودعاها "النزارية".
وهذه النزارية لها عشاقها ومريدوها، ولها المتحفظون منها والنافرون عنها، ولكنهم جميعًا كانوا يترقبون كل إبداع جديد فيها، ولم يستطيعوا أن يمروا عنها مرورًا عابرًا.
وشاعرنا محمود درويش المتألق في شعره، قرأت له مؤخرًا - قراءة ثانية - "ذاكرة للنسيان"، فرأيت هذا التوافق عنده في الشعر والنثر، في تفصيل الجزيئات بلمحة ذكية. يقول وراء الأسطر أكثر مما يقوله فيها، يروعك بالمضامين وأنماط التعبير هنا وهناك، يشوقك إلى أن تقرأه تترى.
ويستطيع القارئ أن يواصل هذا الفحص لدى أدونيس وبلند الحيدري وعز الدين المناصرة وغيرهم.... وصولا إلى شعرائنا المحليين. وسيرى القارئ المحايد مبلغ الموازاة والتلاقي في التعبير عن الجوهر الواحد، وسيرى مدى التساوق والتجانس في المستوى سواء كان ذلك إيجابًا أم سلبًا.
أكدت فيما سبق على هذا التواؤم في المستوى لدى الشاعر الحديث بالذات، ذلك لأن الشعراء الأقدمين كانوا إذا نثروا تكلفوا وقيدوا كتاباتهم بقيود الصنعة ، وحتى المعرّي فإنه في نثره – وخاصة في رسائله – مسرف في الغلو والإغراب.وهذا التفاوت نلمحه بسبب سيرورة الشعر القديم، فإذا أراد الأديب أن يجلّي في النثر عمد إلى الصنعة حتى يبهر القارئ – وتهمنا هنا كلمة "القارئ" خلاف السامع في الشعر – فهو ينحت كلماته حسب أصول البلاغة وبيانها. يقول أبو هلال العسكري في " كتاب الصناعتين" ما يؤكد أهمية الشعر وأوليته:
" ومما يفضل به غيره أنه لا يؤثر في الأغراض والأنساب تأثير الشعر في الحمد والذم شيء من الكلام، فكم من شريف وضع، وخامل دنيء رفع. وهذه فضيلة غير معروفة في الرسائل والخطب..."(ص 137).
وقد ظل هذا التفاوت بين لغة الشعر ولغة النثر حتى بدايات القرن العشرين، فشوقي الشاعر غير شوقي الناثر، ويستطيع القارئ أن يمايز بين قول شوقي:
وطني لو شغلت بالخلد عنه نازعتني إليه في الخلد نفسي
وبين نثر شوقي في الموضوع نفسه:
" الوطن موضع الميلاد، ومجمع أوطار الفؤاد، ومضجع الآباء والأجداد. الدنيا الصغرى، وعتبة الدار الأخرى الموروث الوارث، الزائل عن حارث إلى حارث"(أسواق الذهب ص 11).
فشوقي يكتب ساجعًا، ولا يرى في السجع غضاضة، بل هو في رأيه:"شعر العربية الثاني، وقواف مرنة ريّضة، خصت بها الفصحى، يستريح إليها الشاعر المطبوع. وقد ظلم العربية رجال قبحوا السجع، وعدوه عيبًا فيها وخلطوا الجميل المتفرد بالقبيح المرذول منه"(م.ن- ص115).
لكن هذا التفاوت غير حاصل في لغة الشعر الحديث :
أولاً - لأن الشعر كالنثر مخصوص للقراءة- في الدرجة الأولى- فمن الطبيعي أن يكون من المقلع الواحد حجارة متشابهة يبني منها البناء بيته.
وثانيًا - لأن الشعر الحديث أقرب – نسبيًا - إلى ما اصطلحنا عليه " الصدق " في التعبير، لكون الشاعر يكتب من نفسه ولها قبل كل شيء، ولا يمكن إلا أن يكون النثر الحديث كذلك - فيه هذه الأصالة في التعبير والبوح.
وثالثًا - لأن اللغة هي جسر بين الجوهر الذي ينطلق منه المبدع وبين ذاته، واللغة لا يهمها وسيلة تخريجها وإخراجها نثرًا /شعرًا / حركة / ملامح. إنها تبعًا لغرابة المبدع تأتي غريبة، وبقدر مألوفيته تأتي مألوفة. ومن يصطفِ الكلمة شعرًا لا بد من كونه متنخلاً لها نثرًا.
ومن يدري فلعل نثر الشاعر الحديث مفتاح لمعرفة شاعريته الحقة، فنميز الغث من السمين.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى