الأحد ٨ تموز (يوليو) ٢٠١٨
بقلم جورج سلوم

انتقامات طبية!

في لحظةٍ ما.. ترى كلّ شيءٍ انتقاماً منك.. كأنّك مذنبٌ في حقّ الآلهة كلّه يجري عكس ما تريد وعلى غير ما تشتهي..

كلّها جرعاتٌ انتقامية.. فالشمس إن أشرقت تحرق جلدك..والمطر يفيض بزرعك ويهدم بيتك من أساسه.. والبحر الجميل غدّار.. والوردة الحمراء تدميك بشوكها.. ووراء الأكمة ما وراءها
الابتسامات شامتة تسفر عن أنيابَ حادة.. والسلام عليك ساخرٌ كالضرب على راحتك.. مؤلمٌ يعتصر أًصابعك اعتصاراً

كأنما القدر يشيح بوجهه عنك..فتتساءل عمّا اقترفت يداك..

فالعصفور المغرّد غدا مستنسراً ينقرك.. والذباب قاهرٌ طنّان.. والماء ما عاد عذباً ولا يروي الغليل والطعام لا يغني عن جوع

في لحظةٍ ما.. تتمزّق خارطة الطريق التي رسمتها لمستقبلك.. ويصبح لزاماً عليك أن تنخرط في مساراتٍ أخرى لن تكون فيها أكثر من ألعوبة بيد القدر.. ريشة في مهبّ الريح.

في لحظةٍ ما.. تتوقف المسيرة.. وتتحطّم الأحلام والأماني..وينسدل ستارٌ ضبابيّ أمام ناظريك.. فينقلبُ الفرحُ حزناً والأمل خوفاً وحذراً.. وتبدأ معركة أخرى ما كانت ولم تكن في الحسبان.. ويصبح مطلوباً منك أن تكون مدافعاً ضد انتقامٍ ما..وتلملمَ أجزاءك المتلاشية لتحاول إصلاح ما يمكن إصلاحه.

في لحظةٍ ما.. تتحوّل سيارتك المكيّفة إلى قبرٍ معدني متنقل.. تفتح عينيك فترى حولك زجاجاً محطماً ودماءً تسيل في كل مكان.. ويصمت إلى الأبد مذياعُ سيارتك الذي كان يصدح بأجمل الألحان..

قل لي بربّك:

 عندما ركبت سيارتك صباحاً..هل كنت تعلم بأنّ حادثاً مروّعاً ينتظرك بعد قليل؟.. لا أظن... لأنّ تلك الحوادث تحدث في لحظة ما!!

وهذا ما حدث مع بطلة قصتنا إذ تعرّضت لانتقامٍ مؤجّل منذ عشرين عاماً!

عندما أبعَدَت عن وجهها وصدرها قطع السيارة المحطّمة..وجدت نفسها سجينة ذلك الهيكل المعدني الذي تفتّتَ.. في لحظةٍ ما.!

ساقها مثبّتةٌ تحت ثقلٍ هائل.. وهي عاجزةٌ عن سحبها والألم يشتدّ.. وذلك السائل الدافئ الأحمر يترقرق من ساقها المكسورة.

زوجها بجانبها فاقدٌ للوعي بعد أن انفتحت الوسادة الهوائية في وجهه وتركَته ملتصقاً بمقود السيارة..

نادت بأعلى صوتها:

 (عليّ.. أين أنت يا حبيبي؟

أنا غير قادرةٍ على الالتفات إلى الخلف

الحمد لله..ابني -عليّ - يتحرك في المقعد الخلفي.)

وفجأة علا بكاؤه فتنفّسَتْ الصعداء...

وتكاثرت الأصوات من حولها:

 (تماسكي يا أختي.. هاهي سيارة الإسعاف قادمة)

وبعد دقائق كأنها الدهر أصبحت عائلتها...هي وزوجها وابنها الحبيب في سيارة الإسعاف...قالت للسائق:

 (انطلق بنا إلى أي مشفى..ما عدا مشفى الجامعة..أنا طبيبة وأتحمّل مسؤولية قراري)
لم تسمع أي إجابة وضاعت تنهّداتها بين ثنيّات وترددات صوت سيارة الإسعاف الرّهيب التي انطلقت بأقصى سرعة...

عندما عادت إلى رشدها بعد ساعاتٍ..شعرت بأن الزمن قد توقف في ساعتها

البيولوجية...وشطب القدر بقلمه الجارح يومها هذا من سجلّ الحياة الرّغيدة التي كانت تعيشها وفتح صفحةً جديدة من أيامٍ مجهولة النهاية...

إنه نوعٌ من الانتقام!

ملفوفةٌ هي بالضمادات وكأنها مومياءَ مدفونة تحت أحد الأهرامات..

لا تسمع من حولها سوى صوت جهاز المراقبة المعلّق فوق رأسها يعدّ النبض ويقيس الضغط في وحدة العناية المركزة..

 (أرجوكم اخبروني عن ابني وزوجي..ألا يوجد أحدٌ في هذه العناية الإلهية.؟..لقد قلت لكم إنني لا أريد أن أتلقى العلاج في مشفى الجامعة)

لا أحد يُجيب..والصمت المجهول نوعٌ خبيث من الانتقام

في اليوم التالي حدث ما كانت تخشاه..لقد عرفَت صوته يدخل إلى وحدة العناية برفقة بعض الممرضات..هذا هو بعينيه الحادتين ولهجته الساخرة..تماماً لم يتغيّر منذ عشرين عاماً وإن كان الزمن قد جزّ شعر ناصيته..

ربّت على كتفها..وقال:

 (الحمد لله على السلامة يا دكتورة..لقد انتهى الأمر باستئصال الطحال واستجدال كسر في الساق الأيسر..قولي لزوجك الأفندي أن يتعلّم قيادة السيارة...أو..أظنّ أنكِ رفعتِ ضغطهُ على الطريق كعادتك...تثرثرين وتثيرين جنونه..هه هه..سوف ننقلك غداً إلى الغرفة مائة وثلاثة عشر..ألا يعني لك شيئاً ذلك الرقم؟..سوف أراكِ هناك في الغد)

المشفى الذي أسعُفت إليه رغماً عنها..وتلك الغرفة التي اختيرت لها..ماهي إلا جرعات انتقامية وعقوبات قضائية تعرفها..وتعرف بواطنها وخوافيها

والطبيب الجرّاح الذي وقعت –أو أوقع بها – بين يديه جلادٌ حاقد يملؤه الغيظ.. عرفته وتعرفه..كم تمنّت أن تنشقّ الأرض وتبتلعها كي لا تكونَ عرضة لشماتته وسخريته القاتلة..

 (أليس بالإمكان أن تنقلوني إلى مشفى آخر ؟)..هكذا قالت
لكن لمن تقول وتستعطف..فالقدر اليوم وغداً ليس كما كان..هيا استعدّي لجرعاتٍ أخرى من الانتقام

وفي الغرفة التي حملت ذلك الرقم البائس لم تستطع النوم بسبب أصوات سيارات الإسعاف في ذلك المشفى الكريه...سعادتها لا توصف بوجود (ابنها علي) بجانبها في السرير سليماً معافى..

وجاء الطبيب مساءً..لمعان عيونه يوحي بسعادة المنتقم وهو يزور أسيره المقيّد بالأصفاد.. قال:

 (هناك بعض الألم أثناء تغيير الضّماد)

وضعَت قطعة من الشاش بين أسنانها وعضّت عليها كي لا تصرخ من الألم وهو ينزع قطع الضماد الملتصقة..استعدّت لجلسة انتقامية كلامية قادمة!

قال:

 (يا لسخرية القدر..عشرون عاماً مضت..وفي هذه الغرفة عينها..ألا تذكرين تلك الخلوة التافهة معكِ؟)

أدخلت قطعة الشاش إلى باطن فمها كي لا تتكلّم..كانت تودّ أيضاً ألاّ تتنفس...أشاحت ببصرها عنه وحضنت ابنها بعنف..كمتهمة تستمع لمقدمات وحيثيات الحكم الذي سيصدر عن القاضي

أردفَ يقول وقد تهدّج صوته.. وازداد انفعاله..وبدأت أصابعهُ ترتجف وهو ما يزال يطهّر جرحها بعصبيّة بالغة:

 (كنتُ مجنوناً بحبّكِ.. أرافقكِ طوال النهار في المشفى والكليّة..وأحلمُ بك طوال الليل.. وكنت أظنّ أنك تبادلينني نفس المشاعر.. كنت أصدّق ابتساماتكِ الكاذبة و كلماتكِ الخادعة... وفي لحظة ما فقدتُ فيها السّيطرة على عواطفي حاولتُ أن أمسك يدكِ أو أن أطفئ ظمئي بقبلةٍ ما... أو ما شابه... ولم يكن هناك داعٍ أن تنهريني أو تصيحي أو تتصرّفي ذلك التصرّف الطائش كنساءِ العصر الحجريّ....

نعم لقد أصبحتِ شريفةً وكبيرة ً بين الزّملاء..وغدوتُ أنا وضيعاً وصغيراً وحقيراً... لم تكن سوى محاولة لقبلةٍ بريئة من رجلٍ غبيّ عشقكِ وهام بكِ... وبعدها وبكلّ بساطة تكونين لغيري رغم حبي المُعلَن على الملأ!.. من أين أتيتِ به؟

ذلك التافه المسمّى (زوجك)!

والله لقد انتقمتُ منه..وأذقته الويل وأنا أردّ كسوره بدون تخدير.. عظامه المحطمة تلاعبْتُ بها نافرةً بين عضلاته المتهتكة وجروحه المفتوحة لقد عرّيته تماماً وسخرتُ من ذلك الجسد الذي ارتضيتِ احتضانه..ذلك هو بديلي الذي استبدلتيني به..

انتقمت منه كزوجٍ فاجأ زوجته مع شريكها في سرير الخيانة..لا داعي لأن أهوي عليه بهراوتي الغليظة فالقدر تكفّل بذلك..أعطاني إياه محطماً جاهزاً ولم أجهز عليه..اكتفيت بتعذيبه طبياً!
نتفتُ شعرات صدره التي نمْتِ عليها ونامت عليكِ..

صدره الذي التصق بصدرك..ثقيلٌ كالبغل وارتضيت الاضطجاع تحته وفتحت له ذراعيك..

قد تكون القثطرة البولية عقاباً..قد يكون المسّ الشرجي اغتصاباً لا طبّ فيهما وأنتِ تعرفين!!.. ورأيت منافسي يتضوّر ألماً..ويستعطفني..ولا رحمة للخصم..لقد أسقطكما القدر في ملعبي في لحظةٍ ما..)

أصلح نظارته وابتسم وقد انفرجتْ أساريرهُ..وصار يروح ويجيء في الغرفة كالجلاد في غرفة التعذيب..أدار ظهره لها ونظر من النافذة وقد دار الغرور برأسه فاعتدّ بنفسه..وتابع قائلاً متهكّماً:

 (لا أخفي عنكِ كم شعرتُ بالسّعادة عندما رأيتكِ عارية ً كما خلقتكِ أمّكِ مخدّرةً ممدّدة أمامي في غرفة العمليات... نعم لقد تفنّنتُ في تمزيق هذا الجسد الذي كنت أحلم بأن ألمسَ بعضاً من أذياله فيما مضى...لقد صُلتُ وجلتُ بين أحشائكِ النازفة..قبضت على أعضائك كلها رغماً عن أنفك..كنتِ لي في تلك اللحظات..ولولا حرمة المشفى ووجود المخدّرين والممرضات لأخذت لك صوراً للذكرى..

لا.. لا تتكبّري عليّ..ههه..عادية ٌ أنتِ كأيّ امرأة من الداخلِ والخارج..بل أنتِ أقلّ بكثير ممّن عرفتُ وخبِرتُ من النساء..الحمد لله الذي حجبني عنكِ..تافهة..وأقلّ من ذلك..

لستِ جميلة..لا شكلاً ولا مضموناً..صدّقيني
ومجنونٌ أنا إذ كنت أتهافت عليكِ يومها..).

كلماته كانت تخرج من النافذة المفتوحة وهو يدير ظهره لها..كمن يخجل من التقاء عيونه بعيون ضحيته

أما هي..فقد أغمضَت عينيها بحسرة وتركت دموعها تسيل لتبرّد ذلك الغليان الذي تفاعلَ في روحها ووجهها... وقذفت من فمها قطعة الشاش التي حبستْ حنجرتها وكبرياءها مثل لجامٍ في شدقِ فرسٍ جامحة...

كانت تريدُ أن تصيحَ في وجهه..أو تصفعهُ مثلما فعلت منذ عشرين عاماً...كانت تريد أن تدمّر ذلك الجبروت والقسوة التي يتشدّق بهما...وتعيده إلى حجمهِ الوضيع ولكنها اكتفت بأن تقول بصوتٍ هادئ وصارم إذ فيه كبرياء وعنفوان الأسير المقيد:

 (انظر في وجهي لو كنت رجلاً..هل تعلم بأنني رفضتُ أن أتلقّى العلاج في هذا المشفى كي لا أوقظَ ذاكرتك المريضة؟...)

لكنها جولة من جولات القدر!..وللقدر صولات وجولات

ضمّت ابنها الرضيع إلى صدرها كوسامٍ تعتزّ به..حاولت أن تجلسه على صدرها كمن يرفع راية النصر رغم الجراح..قرصته ليبكي..وبكاؤه أجفل الطبيب كإنذارٍ بالغضب الآتي..قالت:

 (لا تبكِ بابنيّ...سوف نخرجُ اليومَ بالذات من هذا المشفى..لأنّ بعض أطبائه مرضى وبحاجةٍ إلى علاج...وسوف نتابعُ علاجنا في مكان آخر.. إن شاء الله...)


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى