الأحد ١٢ آب (أغسطس) ٢٠١٨
بقلم وفاء شهاب الدين

أشرف العشماوي والسباحة عكس التيار..

على عكس الرأي السائد جماهيريا ونقديا،لا أرى رواية سيدة الزمالك من أفضل إبداعات الوائي المصري أشرف العشماوي، فروايتي "كلاب الراعي" و"تذكرة وحيدة للقاهرة" ومن قبلهما "المرشد" من أفضل ما كتبه على مدار السنوات الفائتة، العشماوي مايسترو يجيد العزف على آلة التاريخ ببراعة، يوظف شخصيات رواياته مثلما يتعامل معها قائد الأوركسترا، الخلفية الموسيقية المصاحبة للمشاهد السينمائية الرائعة، يفعلها العشماوي باقتدار في رواياته بخلفية تاريخية مبهرة فتقرأ كأنك ترى، يرى التاريخ بعيون ناس عادية مهمشون وموظفون وفاسدون وغيرهم، وينجح كل مرة في تقديم الموضوع الذي نعرفه برؤية تفاجئنا وهذه أقوى وسائله وأدواته في فن الرواية مع عبقريته في فن التشويق، وعلى الرغم من أن العشماوي يصر على السباحة عكس تيار الأدب الحديث إلا أنه نجح في الوصول لشاطئ النجاح باصرار وعزيمة وتطوير مستمر فى كتاباته ومن قبل ذلك كله موهبة فارقة أصيلة في فن الحكي.

في رواية المرشد قدم لنا منظومة رائعة مختلفة عن صعود الفساد وهبوطه المدوي ثم محاولات التسلق مرة ثانية، قدم مرشدا من داخل البوليس تم تجنيده لصالح مجرمين في أول حبكة روائية متقنة عميقة لم يسبقه أحد إليها، لأنها من داخل التيار السياسي الاسلامي وفي عمق جهاز مهم للمعلومات وربما فاده عمله السابق بالنيابة في هذه الرواية، واذا ما كانت الحبكة الأولى عن شخصية مهرب الآثار المصرية وما تحمله من اسقاط على هويتنا وتراثنا فإن الشخصية الرئيسة التي شكلت الحبكة الثانية بالرواية كانت ارهابي يشوه ديننا ويقتل معاني الخير والسلام بداخلنا، اثنان كطرفي مقص كل منهما في اتجاه ولو انطبقا لمزقا مصر إربا، رواية مدهشة إتبعها بآخرى أكثر دهشة "كلاب الراعي"، يكفيه فى هذه الرواية ما قصده من معنى مهم لا نلتفت له، ماذا لو ان الراعي قرر أن يأكل قطيعه؟ هل وقتها ستنبح الكلاب عليه أم تنتظر نصيبها من لحم الشاه بعد سلخها؟ وهو في النهاية لا يجيب عن السؤال بصراحة لكنه نجح في تسليط ضوء غامرعلى منطقة مظلمة من التاريخ الحديث قبل تولي محمد علي للحكم، فترة مربكة، فترة ريبة تاريخية مذهلة، نجح أشرف العشماوي في ربطنا بها بسهولة ويسر بلغة سلسة جذابة وباسقاط بديع على أحوالنا عامي 12، 13 بعد ثورة يناير، حتى أن البعض منا راح يبحث عن كمال سيف الدولة والحسن جمال الدين الرومي عبر محرك جوجل من فرط مصداقيتهما!

أما في روايته البديعة "تذكرة وحيدة للقاهرة" فقد قدم العشماوي درسا للأدباء والروائيين الجدد في فن البناء والخلط بين الرواي العليم وضمير المتكلم ببراعة وسلاسة، ثم فى اختيار فكرة هجرة النوبي عجيبة سر الختم بطل القصة للشمال بعيدا عن البكائيات والمرثيات النوبية المعتادة، أتى به للقاهرة لنادي الجزيرة والاكندرية فى اربعينات وخمسينات القرن المنصرم، وكلما تقدم عجيبة للشمال نال منه الزمن والبشر، وفقد عضوا من جسده حتى راحت هويته، مع إنه قادم من أقصى الجنوب ببقعة صغيرة على حدود السودان لينتهي به الحال بجبال الآلب في سويسرا، لكن العشماوي اختار البطل الضعيف ليكون سيدا للرواية فكان بطلا حقيقيا مقنعا مدهشا.

العشماوي الذي يصر بثقة على السباحة عكس التيار، مع إنه ينتمي لجيل يخاف من الكتابة المشهدية مثله ولا يقربها إلا على استحياء، لكنهم متفوقون أدبيا ربما أكثر من العشماوي نفسه مثل أشرف الخمايسي وعمرو العادلي وطارق إمام وهشام الخشن وأحمد القرمالاوي وأدهم العبودي، لكن العشماوي يراهن على جاذبية الفن بلغة راقية ومشهدية متفردة وحبكة تحترم عقل القارئ، ضاربا بقواعد الكتابة الأدبية عرض الحائط رغم أنه يدركها جيدًا وفعلها باقتدار كل مرة، لكنه قادر على كسر التابوهات والقفز فوق حواجز النقد والاحتماء بالقراء منتصرًا للحكي كل مرة، بعيدًا عن التقعر والأساليب الثقيلة والافكارالغريبة أو التجريب، في ظاهرة أدبية ملفتة تستحق الاشادة، بدأت قوية ولا زالت مستمرة لتثبت صدقها بعدما ترسخت، وصار العشماوي حقيقة واضحة عنوانها الفن الروائي الجميل والمختلف حتى لو لم يعجب بعض النقاد.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى