الأربعاء ١٥ آب (أغسطس) ٢٠١٨
بقلم لام مجبور

همس الشظايا

وحدي من سمع همس الشظايا حين سمع الجميع أصوات الصراخ وتجبُّر الرُعب الذي نصبَ رحاله في سوق الخضار، كان يوماً سورياً هادئاً – أو هكذا بدا لي – ابتعدت فيه عن زحمة الأخبار، فضلتُ الابتعاد عن شبكات التواصل الاجتماعي التي عزلتني عن كل شيء وأسرتني بين تغريداتها ومنشوراتها وصورها لدهر.

قررتُ يومها أن أعود لطاولتي الصغيرة في الغرفة العفنة التي استأجرتها مع زوجتي – بائعة السمك – كما وقررتُ أن أحاول العودة إلى الحروف الصدئة التي هجرتها منذ سنوات.

ستتساءل يا عزيزي لماذا تركت ولماذا عدت ويمكنني القول بأنه لا جواب عندي، مهلاً! ربما ستعرف الجواب حالما تعلم بأنني سوريٌ.

أصوات الباعة في السوق تصدح وكل ينادي على خضاره، بندورة، بطاطا، خسّ، وملفوف، اسمَعْ واشتهِ، وهي تبيع السمك على طرف السوق في الأسفل، غير أن رائحة أسماكها تصل إلى أنفي، فمهما حاولتْ غسل يديها أو وضع العطور فللسمك رائحة مُخرمشة، تتغلغل في الأجساد ولا تخرج إلا مع موت صاحبها، هكذا تقول لي كلما اشتكيتُ من رائحتها.

في البداية كانت تكابر على تجريحي لأنوثتها وتشبيهها بسمكة قوية الرائحة غير أنّها في الليالي التالية، أخذتْ تضحك قائلة:

نعم، سمكة قرش تحولت معك إلى حورية بحر تقف في السوق وتحارب من أجلك أيها الجندي.

كنت أيضاً أُظهرُ انزعاجي من حربها المعلنة دفاعاً عنّي، خصوصاً بعد أن خسرت ساقي اليمنى وذراعي اليسرى في الحرب ـ وتركتهما على الجبهة لتُعلِنا موتيَ الحيّ.

وكانت تقول أيضاً:

صحيح أنك خسرت ذراعك اليسرى ولكن يدك اليمنى ما تزال قادرة على حمل القلم.

هي من أقنعني أن أعود إلى حلم قديم غطّاه غبار سبع سنوات قضيتُها في الخنادق، ووجهاً لوجه مع أطياف الموتى وأنا أراها تحوم فوق المُقتَتلين في أثناء المعارك.

هي التي اشترتْ لي الأوراق والأقلام الملوّنة بعد أن ضحكتْ للمرة الألف حين طلبت منها أن تشتري لي قلماً بحبرٍ أسود، قالت:

يا رجل! ألا يكفي سواد قلوبنا، اكتب قصصنا الحزينة بأحبار ملونة والعن أبوها! اشهر كلماتك كقوس قزح بأطيافه السبع و اعطِ كل طيف لعام من أعوام أحزاننا السبع فيتلوّن ثوب روحه البائسة ونفرح.

نهضتُ ذلك اليوم متكاسلاً ومنتشياً بسحر حضورها، اكتشفت منذ مدة أنني لم أعد أشم رائحة السمك على أصابعها، ولا أدري إنْ هي اكتشفتْ بأنّني أنفع أن أكون زوجاً عاشقاً بجسد سريالي مبتور الأطراف.

وضعتُ عكّازي تحت كتفي الأيمن، وعرجتُ نحو طاولتي، لم تُجهّز لي الفطور كعادتها قبل مغادرتها، لكنّها وضعتْ قبلةً أصابعها على الأقلام والأوراق. منذ مدة وأنا أؤجل حلم العمر وكأنّ سبع سنوات لم تعد كافية.

اللحظة الأولى لها رعشتها المُنكّهة بطعم الرهبة وفيها النهاية أيضاً.
كتبتُ مطولاً حتى فرغ رأسي من كل شيء وسحبتني رغبة مُلحَّة إلى النافذة المطلّة على سوق الخضار.

استأجرنا هذه الغرفة في حيّ شعبيّ في عشوائيات المدينة في طابق أوّل فنّي أصعد عدة درجات متكئاً على العكاز، أقول في نفسي:

لا بأس، ليكُن ما فقدتُ فداءً للوطن، رغم أن فقراءه فقط من فَدَوْه.

وقفتُ أراقب المنظر من شُباك أكل الصدأ مصراعيه المصنوعين من الحديد.

احتلّ سوق الخضار جانبيّ طريق تمر به السيارات بعد معاناة كبيرة، واصطّفت البسطات متتالية، نصبَ كل بائع مظلةً صغيرةً فوق الخضار والفاكهة التي يبيعها، بعضهم رشّ ماء فوق البندورة وغسل الخسّ والبقدونس والملفوف والبصل الأخضر والنعناع، رتّبهم بتناسق يجذبُ نظر الجائع الذي ما إن يراهم حتى يتخلّى عن حلمه بأكل اللحمة المشويّة مكتفياً بصحن فتّوش منعش، وباعة آخرون كوّموا البطاطا أمامهم وبدؤوا ينادون عليها، أذكر بأنها كانت تُلقب بخبز الفقير قبل الحرب، ولكن الآن أصبح سعر الكيلو الواحد منها كسعر كيلو لحمة في الأزمان البائدة!

نساء لبسن العباءات السوداء اللون، يحملن الأكياس، تبدو على ملامحهن بوادر الإنهاك وظهرت في عيونهم أعراض الموت اليوميّ البطيء، ولا أنكر أن بعضهن مازلن محتفظات بالقوة والحيوية الكافيتين حيث يقدرن وبكل جسارة أن يجادلن البائع فيصبح مخيّراً – أو ربما مجبراً – إما أن يخرج عن ملّته كافراً ومُسلِّماً لهن بالسعر الذي يردنه، وإما أن يكون في ذروة أوقات الغلاء غولاً صغيراً يأكل ما في جيوبهن من قروش لا تكفي رمق يوم من أيام حياتهنّ الذي لا يعرفنَ متى ستنتهي معركته.

أنا أعرف كل هؤلاء، رغم أني لم ألتقِ بهم من قبل، كانت هي من تجلب لي أخبارهم وتروي لي قصصهم، لكنها لم تعرف أبداً كيف تروي لي قصة القذائف المشردة في سماء الوطن فقد أخبرتكم بأني أنا الوحيد من يسمعها ويعرف قصصها.

رفعتُ نظري إلى السماء المتلبّدة بغيوم سوداء غريبة بدأت مراوغاتها، عاودت النظر إلى السوق الملبّد بأناس مختلفون، منهم نازحون من مناطق المعارك، ومنهم ريفيون سكنوا هذه المنطقة من زمن يكادون أن ينسونه، ومنهم من لجأ إليه من المناطق المركزيّة في المدينة باحثاً في الأزقة الضيّقة عن بيت بحجم قروشه.

لمحتُ بين الجموع أبي عامر، صاحب بسطة البصل، شارد الذهن يحاول أن يبتلع دموعه، أخبرتني الشظيّة العالقة في كتفي عنه وبدأنا حوارنا:

مسكين يا أبا عامر.

سألتها:

ما به أراه مقهوراً؟

ابنته مسكينة، غزا السرطان نخاعها الشوكيّ ولا أمل في الشفاء.

لا حول ولا قوة إلا بالله.

أردفتْ الشظية بصوتها البائس:

إنه حائر، لا يعلم ماذا سيبيع بعد ما باع كل ما يملك من أثاث وملابس ليعالجها. إنّها مرميّة في فراشها تنازع ببطء، ولا تعلم بأنّ موتها قد يكون قريب جداً.

يعيش أبو عامر في غرفة صغيرة يكمن بابها خلف البسطة التي يتعيّش منها.

بعدما أنهتْ الشظية كلامها عاودتُ النّظر إلى الرجل، رأيته قد وضع سيجارة الوقت في فمه وقد شغل يديه في ملء كيس كبيرة بالبصل أمامه فهمستُ في نفسي:

الله يرزقك.

لفتَ نظري الطفل ابن الثلاثة عشر عاماً والذي سمح له أبو عامر أن يفترش الأرض قرب بسطته ويبيع باقات البقدونس. هل كساه الحزن أيضاً أم أنني أعكس ما بنفسي سواداً على ما حولي في غيابها؟

غافلتني الشظية المتمسكة ببطني وروت لي قصته:

اختطفتْ عصابة مجهولة والده قبل عام، كأنّهم لم يشموا رائحة الفقر في طيّات ملابسه! لم يدفع أحد فديته فأخذوا أعضاءه ورموه عند شاطئ البحر لتستيقظ المدينة على خوف من نوع آخر مختلف عن الخوف من الطيور المعدنية والتفجيرات والساطور والمذابح.

نعم، أذكر أن زوجتي أخبرتني بهذا، لقد ترك المدرسة واندسّ في لحاف السوق وفي رقبته أمه الضريرة وأخته الصغيرة، قالت الشظية بصوت ساخر:

كلنا عميان.

ثم ضحكتْ بقوة أتعبتني.

كيف للشظايا أن تعرف كل هذه القصص من حولها وهي ليست أكثر من قطع معدنية تخترق الأجساد في لحظات الجنون العُظمى؟ هل تتحول في عمق لحمنا إلى حكواتية تروي تاريخاً جديداً لأشخاص كانوا يوماً بشراً ثم تحولوا إلى أرقام تأكل وتشرب وتتنفس ثم أصبحوا بعد ذلك أشلاءً متناثرة في فضاءات تعمّ فيها الفوضى بعد سقوط القذائف فترة من الزمن؟ ثم لا تلبث أن تعود إلى سابق عهدها مستأنفة حياتها بأرقامٍ جديدة!

مازالت السماء تجمع غيومها موشكة أن تمطر مطراً غير الذي نعرفه، مطر يتناغم صوت انهماره فوق الرؤوس مع أصوات الشظايا المبعثرة في كل جسدي، نظرتُ إليها ولم أجدها، بحثتُ عن بائعتي محاولاً تحذيرها بالابتعاد فقد فهمتُ لغة المطر والشظايا تلك. صرختُ لكنهم لم يسمعوني، ربما شظية دخلتْ فيّ وقطعت لساني.

_لا، هذا لا يعقل.

وضعتُ يدي على حنجرتي ولم تنجح محاولاتي في الصراخ فقد خرج من فمي صوت كالفحيح ووحدي فقط من سمعه. خرجتُ ألوّح بيدي مشيراً إلى السماء وإلى غيومها غير أنّ المطر كان أسرع وأصوات الانفجارات المتتالية كانت أقوى من كل شيء.

أمطرت السماء قذائف تحولت إلى شظايا جعلت من أجساد الكثيرين أشلاء اختلطتْ مع الخضار والفاكهة، ومع أسطح البيوت والحرائق التي عمّت السوق بمظلاته المتسخة من غبار الزمن.
لم أنبطح أرضاً تلقائياً كما اعتدت أن أفعل على الجبهة حين كنت أشعر بخطر الموت يقترب بل رحتُ أبحث عنها بين جثث الموتى ولم أجدها، فجأة شعرت بخطواتها تركض على الدرج. لا بدّ أنها هاربة إليّ لتعانقني خائفة من هول ما رأت فاستدرت نحو الباب لأكون بذلك مهيئاً لحضورها، لن أتأفّف من رائحة ملابسها اليوم.

لا أدري لماذا انهمرتْ دمعة من الشظية المتشبّثة باللحم قرب قلبي فتجاهلتها وعرجتُ نحو الباب على العكاز، كنت قد وصلتُ قبالته مباشرة حين فتحتْ هي الباب، لم تلحَظ ابتسامتي ولا ذراعي التي فتحتها لها، كأنها لم ترَني؟ ما بها؟ هل هالَها الخوف لهذه الدرجة؟

آلمني الانتفاخ في بطنها وددتُّ لو أنّني أمسح بكفي عليه فيطمأنّ كلينا.

ركضتْ نحو سريرنا، حملتْ صورتي التي كانت قد وضَعتْها منذ زمن قربها وضمّتها إليها، ولكن لماذا يا حلوتي؟ أنا هنا! صرختُ... "أنا هنا".

تداخل صراخي مع صوت الشظايا الباكية مع أصوات العويل في الخارج... "أنا هنا!!! ألا تسمعين؟ "... لم تسمعني، كما أنّ النّاس في الخارج لم يرَوْني وبقيتُ عند الباب واقفاً، أراقبها وهي تعانق صورتي وتقبلها بدموعها السخيّة، طيفاً وحيداً وبائساً، ومُدركاً تماماً بأنها لم تشعر بأن جسدينا قد اندمجا لثانية واحدة وهي تمر من خلالي بلهفة، ولم تعرف بأنّ صاحب الصورة التي تعانقها قد شعر بحرارة شوقها وبعمق خوفها، هي لم تشعر بي وأنا أجلس قربها كل ليلة أحرسها، هي لم تعرف أبداً بأنّني عرفتُ حين اخترقتني قبل قليل بأنّ في رحمها طفل يشبهني!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى