الخميس ٦ تموز (يوليو) ٢٠٠٦
بقلم فاروق مواسي

نقص ما في المكتبــــة العربيــــة

لا شك أن المستشرقين قدموا خدمات جلى لأدبنا وتراثنا – مع تحفظنا من نوايا بعضهم ودوافعهم الاستعمارية أو التبشيرية – أقوال ذلك أولاً وقبلا ، لأن بعضنا ما زال متزمتًا ويطهو نفسه في حَسائه .

ومهما تزمت المتزمتون فلا إنكار أن المستشرقين نفضوا الغبار عن أمهات /أمات الكتب المكدسة في المساجد من التي طال عليها الأمد ، وهي سادرة ، ولسان حالها يشكو هذا التخلف الذي ألم بنا وعانقنا .

جاء المستشرقون ودرسوها وحققوها وترجموها إلى لغاتهم لتكون دلالة على حضارتنا ، وآية على إبداعنا ، فترجموا بادئ ذي بدء كتبًا لا نكاد نقرأها بل لا نكاد نسمع بها ككتاب " المجموع المبارك في التاريخ " لابن العميد المعروف بالمكين ، وكتاب " تاريخ الدول " لابن العبري و" نظم الجواهر " لسعيد بن البطريق وغيرها وغيرها ، فأخذوا يعلقون عليها الحواشي ويلحقون بها ألوان الفهارس تيسيرًا للفائدة ، فالفهارس كشاف لا بد منه . ولا أدري كيف يُنتفع بكتاب " محاضرات الأدباء " أو " الإمتاع والمؤانسة " ، مثلا ، من غير الفهارس الموجهة .

كما عالجوا بحوثًا عن بلاد الشرق في أخلاق أممها وعاداتها وشرائعها ولغاتها وعلومها وفنونها وكل ما يتصل بأسبابها .

ولعل دائرة المعارف الإسلامية من أهم ما أنجزه المستشرقون ، فما من مادة إلا كتبها متخصص بها ، وألحقها بعشرات المصادر المساعدة والموجهة ، وقد طبعت هذه الموسوعة أربع مرات – إن لم يكن أكثر – يضاف في كل طبعة ما يستجد ، ويهذب فيها الكثير .

ومما يدعو للأسف أن هذه الموسوعة ذات الجهد الجبار تطبع بالإنجليزية والألمانية والفرنسية ، ويكتفي العرب بترجمة بعض أجزائها – وعن الطبعة الأولى التي لم تعد صالحة بعد تنقيح المستشرقين المستمر والمُحَـتَـّن – ويصدّرون المواد حتى حرف العين في ترتيب هجائي ، وليس ثمة من يتابع المشروع ويدعم الترجمة في أحداث الطبعات .

ونظرة إلى فهارس ( بيرسن ) مثلاً فإننا نذهل لهذا الفيض من أسماء المقالات ( فقط ) وأماكن نشرها ، ففي الفهرس الأخير مثلا هناك نحو خمسين ألف اسم مقال - مبوبة بمنهجية تساعد الباحث في حقله .

وما أكثر المجلات والدوريات في الغرب ، تلك التي تعالج دراسات تخصصية كلاسية ، ولا ننكر بوادر جادة تصدر عن جامعات الرياض وبغداد والكويت ودمشق وعمان والشارقة وغيرها ... ، غير أن الأدب العربي الحديث يفتقد بالعربية مجلة أكاديمية عالمية جادة على غرار مجلة الأدب العربي journal of Arabic literature الصادرة بالإنجليزية في ليدن ، وفيها تحقيق علمي – غالبًا – مبني على أسس النقد الحديث .

ومن مآثر المستشرقين الدعوة إلى عقد مؤتمرات لدراسة الحضارة العربية ، ويدعى إليها علماء عرب ، وها نحن نشهد انتباه الجامعات العربية لهذه المؤتمرات والمهرجانات ، كمهرجان تاريخ بلاد الشام الذي أقامته الجامعة الأردنية ، وما كان يبذله د. أحمد صالح علي في قسم الدراسات الإسلامية في بغداد ، وما بذله د . فاروق عمر في جامعة الكويت ، وما قام به المركز القومي للبحوث الاجتماعية في القاهرة ، حيث أقام قبل سنين مهرجانًا علميًا على مستوى دولي عن ابن خلدون ، بل أصدروا كتابًا يضم أعمال هذا المهرجان ، ومثل ذلك أخذ يربو ويزيد .

وهذه النماذج التي سقتها هي قليلة بالقياس لما ينتجه الغرب عنا .

ويتبادر إلى ذهني السؤال : إذا كنا شعبنا يستهلك التكنولوجيا فلماذا لا يستهلك أكثر فأكثر الأدبيات الغربية أيضًا وجدية التناول لديهم ؟

إننا نذهل لهذه القدرات وهذا التفاني في دراسة أدبنا ، وقراءة في كتاب نجيب العقيقي " الاستشراق والمستشرقون " فإننا سوف نعجب ونعجب لهذه الجهود الجبارة التي يبذلونها ، ولنتصفح على سبيل المثال مواد ( رايت ) و ( دي ساسي ) و ( فريتاج ) و ( دوزي ) و
( فلاتشر ) و ( نولدكه ) ..... فهل يقرأ هذه الملاحظات بعض من يعنيهم الأمر في وطننا العربي ، فيتابعون ترجمة الموسوعة الإسلامية وصولا إلى نهاية حرف الياء - كما هي وبلا تعليقات على الحاشية خوفًا من " الدس ! " ؟

وهل نتفرغ للكتابة الموسوعية في كل ميدان ؟

وهل تكثر المجلات المتخصصة ، يكتبها كلٌّ في ميدانه المتعمق فيه .

وهذا لا يمنعنا أن نتذكر – ولو على سبيل المكابرة – أننا في تاريخنا - كنا أول من استقصى في البحث والتأليف ونقّب ودقّق ، وليس أدل على هذا من الإسناد والعنعنة في توثيق الحديث وتحريه ، حتى كانت علوم الحديث ومصطلحه وعلم الجرح والتعديل وسواه ، وقراءة للأصمعي وابن سلام والأصفهاني ترينا مدى هذا التوثيق وفي رواية الشعر والأخبار .

ولكن هل يعني ذلك أن نبقى نجتّر هذا الكلام ، فليس الفتى من قال كان أبي –.

وإذا كنا ما زلنا نشك في نوايا المستشرقين* ، أفلا نجدُ نحن ونجدد ونقول لهم ولسواهم : ها نحن في الميدان .

...............................................................

* في محاضرة للمستشرق غويتين عرض الاتهامات الموجهة للاستشراق ، وأشار – بطرافة – إلى أن للاستشراق أيضًا معنى صوفيًا ، وهو حب المعرفة لذاتها .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى