الاثنين ٢٩ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٨
بقلم حسن عبادي

هذي الأرض إلها صحاب

درس سامي علم الاجتماع الحديث في جامعة روبرت كارل في هايدلبرغ الألمانيّة، أقدم جامعات البلاد، وانتظرته في مطار اللد قافلة من السيّارات والأقارب والوجهاء للاحتفاء بعودته حاملًا شهادة الدكتوراه بامتياز. وعند وصوله البلدة انتظره العشرات في الساحة العامّة وبدأت الزغاريد وهو يلوّح بكلتا يديه ڤي ثلاث مرات 3’V) )، عبر سيارة الليموزين المكشوفة.
عاش في ألمانيا عشر سنوات، ووالده يبعث له كلّ أول الشهر قسط التعليم ومصاريفه، حيث تجندّت كلّ العائلة للعمل في "الفلحة" لتأمين احتياجاته باهظة التكاليف. كرّس وقته للتعلّم ولكنّه لم يبخل على نفسه وعاش حياته هناك بطولها وعرضها؛ السهر والمجون، المسرح والسينما. كان على وشك أن يتزوّج فتاة ألمانيّة عاشرها لسنوات عديدة لكنّ الحنين لأهله وبلده، وحلمه بخدمة أهل البلد، جعله يتخلّى عن أحلامه البحثيّة والجوائز العلميّة ليعود.
حاول بعد العودة أن يشتغل في مجال تخصّصه ولكن الأبواب كانت موصدة، رفضت الجامعات والمؤسّسات تشغيله، صار عاطلًا عن العمل ولم يستطع التأقلم بوظيفة معيّنة، آلمه وضعه ووضع العائلة التي تجنّدت بكلّ طاقاتها لمشروعه، وظلّ يحلم بسيّارة فخمة، الزواج بصبيّة عذراء وفيلا بجنائنها الفسيحة.

استطاع في النهاية، وبالاعتماد على مدّخرات العائلة التي أخذت تتآكل يومًا بعد يوم، أن يقتني سيّارة جديدة من الوكالة بالتقسيط ويبني له بيت أحلامه، ملحًّا على والدته البحث عن عروس عشرينيّة.

عاد والده يومًا بعد صلاة الجمعة فوجده بانتظاره في باحة البيت، تحت الدالية، وبصحبته رجلان، فاجأه سامي حين عرّفه على الحضور: محامي سخنينيّ ومعه "صالح". تبادلا أطراف الحديث وفجأة أخرج صالح من حقيبته ملفّات، مستندات وخرائط. ناول المحامي القلم لأبي سامي وطلب توقيعه، فسأل مستغربًا: "على شو أمضي؟ أنا ما بفكّشْ الحرف، لا قاري ولا كاتب!".

بدأ صالح الذي عرّف على نفسه أنّه "يهودي ابن عرب" يشرح للوالد بأنّه تبيّن لهم ملكيّته بالوراثة لعشرين دونمًا في الرويس، صودرت في الخمسينيّات بموجب قوانين "الحاضر غائب"، وبإمكانه استبدالها بثلاثة دونمات أرض "عمار" في البلدة ومائة ألف دولار! بدأ سامي يشرح لوالده فوائد هذا العرض السخيّ، بإمكانهم سدّ الديون التي تراكمت، بناء بيوت للأولاد وبيع دونمين لتغطية مصاريف البناء والزواج المُقبل.

ذًهل الوالد من حديث سامي و"ضيوفه" وقال: "هيك بدّك إيّاني أفرّط بأرض جدادي؟". أجابه سامي "بأنّ هذا العرض مغرٍ ولن يتكرّر، سينقذ العائلة من فضيحة الديون، والأرض البديلة المقترحة مُصادَرة منذ ستّين عامًا"؛ نهره الوالد، ثمّ صرف ضيوفه وتمتم قائلًا: "هذي الأرض إلها صحاب".


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى