الأربعاء ٩ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٩

جواد الحطاب.... نص مفتوح على الأزمنة

إيهاب حماده

لن نقارب «قبرها أم ربيئة وادي السلام» (دار الفراهيدي/ بغداد) من منظور بنيته أو أنساقه الكلاسيكية أو رؤيته، ولا من خلال معادله الموضوعي رغم كثافة ما يختزنه، سواء على مستوى تواشج دلالات رموزه مع مفردات معجمه الآنية، أو تكثيف المنجز الحضاري فيه، بحيث يعجزنا عن القبض على زمنه. إذ هو نص مفتوح على الأزمنة، مشتمل على هوية متسعة، جامع للكليّة من دون إغفال التفصيل، ونفسي بحرفة التلقائية. لكن نقاربه لجهة إبداع صاحبه الشاعر العراقي جواد الحطّاب (1950) في الانتقال من الصورة إلى التخييل، وفق نظرية الانتقال المجازي (Métalepse) لجيرار جونيت.

«الانتقال المجازي»، بحسب جونيت في كتابه Métalepse de la Figure la Fiction (ترجمته زبيدة بشار القاضي)، ممارسة لغوية «ستعود من الآن فصاعداً في آن معاً، أو بالأحرى تتابعياً وتراكمياً، إلى دراسة الصور البيانية وتحليل السرد، وربما تعود أيضاً عن طريق ما إلى نظرية التخييل (...) الكلمة اليونانية Metalepsis تشير عامة إلى أنواع الاستبدال كلها، وبالتحديد استخدام كلمة مكان أخرى بواسطة انتقال في المعنى».

هذا التعريف يجعل من المصطلح «انتقالاً مجازياً» مرادفاً للكناية والاستعارة معاً. وقد عرّفه دومارسيه (Dumarsais) بأنه «نوع من الكناية نشرح بها ما يلي لنوضح ما سبق، أو ما سبق لنوضح ما يلي». ويشير إلى أن «الانتقال المجازي للكاتب» يومئ إلى القارئ الذي يؤدي دوراً تخييلياً بنائياً في النص. وعليه، فإن الانتقال المجازي ينطلق من بحث بلاغي تقليدي في الكناية أو الاستعارة المستخدمتين في إحالة الصورة إلى تخييل بواسطة الراوي نفسه، والقارئ في مرحلة تالية.

والتخييل، استناداً إلى هذه العناصر، هو المشهدية الجديدة التي يؤديها النص، وتتكوّن من شراكة كل هؤلاء، بحيث تُمحى الأزمنة والمراحل، وتتماهى الشخوص، وتتواشج الأحداث والرموز والأساطير.

كأننا أمام مشهدية متحركة ضاجّة بالأحداث، نؤدّيها مجتمعين

من هنا نلج إلى مشهدية تخييلية أبدعها جواد الحطاب في نصّه «قبرها أم ربيئة وادي السلام»، من خلال دراسة نموذج كنائي واحد، كأننا أمام مشهدية متحركة ضاجّة بالأحداث، نؤدّيها مجتمعين ــــ قراءً وشاعراً وموضوعاً شعرياً ــــ خارج دائرة الزمن. هو نص مفتوح جاء في لحظة رحيل أمه بدرية نعمة، ومن علاماته الفارقة أن الشاعر قدّمه بوصفه نص «جواد الحطاب وبدرية نعمة»، وفي ذلك دلالة على بعد وظيفي فاعل لها في إنتاج النص. الكاتب والموضوع كلاهما بدرية نعمة. ولهذا دلالة أخرى ينبغي الوقوف عليها في ما يأتي. غير أننا سنقصر البحث، هنا، على دراسة الانتقال المجازي في نصه، من صورة كنائية تلقائية طافية، إلى ما عبّر عنه جونيت بـ «التخييل»، وهو المشهدية التي تسبق التعبير الكنائي أو تليه كما قال دومارسيه. يقول الحطاب: «حين كنت أرتكب الحماقات/ وأباشر أهوائي باجتياز خطوط الرب الحمراء/ أُخرج للوعيد لساني:/ ههه... معي بدرية نعمة/ ... أعرف أن الله/ صديق شيلتها السوداء كأفراح القديسين». لن نقف، هنا، على شرح تقليدي للاستعارات والكنايات. غير أننا نقتطع قوله «أخرج للوعيد لساني: ههه ... معي بدرية نعمة» حيث الاستعارة بيّنة، وكذا الكناية، لكنها لم تحل إلى معنى تالٍ أو سابقٍ فحسب، إنما جاءت لترسم عبر الانتقال المجازي مشهدية ما قبلها وما بعدها أيضاً. فهو يرتكب الحماقات والذنوب، ولكنه يأوي إلى حصن حصين هو أمه. مشهدية كاملة أحالنا إليها، هي حياته في حياة والدته.

نزقه وذنوبه وتصرفاته المسيئة ونزواته وأخطاؤه وتجاوزه كل الخطوط الحمراء، ولكن بواسطة الحدث (أخرج للوعيد لساني... ههه معي بدرية نعمة)، لا الوصف. وهو التخييل الذي تكلم عنه جونيت. يريد الحطاب أن يسرد تفاصيل حياته بكل ما تقدم، لكن في ظل حصن أمه الذي يقيه حتى من الله الذي تربطه بها علاقة صداقة (أعرف أن الله صديق شيلتها...). وهي مشهدية ما قبل الحدث الكنائي. على أن في النص مشهدية تخييلية أخرى، مكملة، لاحقة تتبع الحدث الكنائي، تبدأ على شكل سؤال ربما يثيره القارئ (أو يثار فيه): مَن الذي يقيه ويحرسه ويتدخل ليحميه بعد رحيل أمه؟ مشهدية تكاد تكون مخالفةً تماماً لتلك التي سبقتها، بكل تفاصيلها. هنا يدخل القارئ النص عبر حدث تخييلي تابع يرسم ــــ هو ــــ تفاصيله وأحداثه وفق ما يتخيل، ويبني واقعه التخييلي الذي أسست له الكناية، ما يعني أننا أمام أكثر من كاتب للنص: جواد الحطاب وبدرية نعمة والقارئ نفسه (وهذا من العناصر الرئيسة في السرد التخييلي الذي نظّر له جونيت). كما أننا أمام نصوص تخييلية بكثرة الكنايات.

ما قام به الحطاب هو ما سماه دومارسيه «الوصف المؤثر»: «تحيل أيضاً إلى هذه الصورة طريقة حديث الشعراء التي بواسطتها يذكرون المتبوع دلالة على التابع. عندها، بدلاً من الوصف، يضعون أمام أعين القراء الحدث الذي يفرضه الوصف». فيما يقول جونيت: «أعتقد أنني وجدت السبب: إن قلباً كهذا يشير إلى أن شخصيات تخييل ما، إذا كان بوسعها أن تصبح قراء أو مشاهدين، فيمكننا نحن قرّاءَهم أو مشاهديهم أن نصبح أيضاً شخصيات تخييلية».
وما فعله الحطاب هو أنه أضاف إليه ــــ كشاعر ــــ وإلينا ــــ كقراء ــــ شاعراً آخر داخل النص هو غيره وغير القارئ. شاعراً حقيقياً غير متخيل، ومتخيلاً غير حقيقي، هو أمه بدرية نعمة، موضوع قصيدته، فأبدع وأضاف إلى قصيدة النثر وإلى النظرية النقدية الجديدة مثيراً جديداً للدراسة، أو تعديلاً على نظرية جونيت نفسه، هو «الشاعر الموضوع».

إيهاب حماده

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى