الثلاثاء ٢٢ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٩
فى قطار باريس - ٦
بقلم محمد متبولي

حوار صامت

ركبت القطار كالمعتاد مع مئات البشر من كل حدب وصوب حول العالم، ورغم اختلاف الوجوه، فلا يمكنك أن تعرف من هو حقا فرنسى ومن هو غير فرنسى، فالوجه الأوروبى لم يعد هو الدلالة الوحيدة على الهوية، فملايين المهاجرين أيضا أصبحوا أوروبيين.

تحرك القطار، ومن بين الجالسين وجدت سيدة إفريقية عجوز تنظر إلى وأنا واقف، فنظرت إليها مبتسما وملوحا بيدى، لكنها بادلتنى بإبتسامة فاترة على غير العادة فى مثل هذه الظروف، فالود كان أمرا معتادا بينى وكل أبناء العرب وبين كل من ينتمى بالأصل أو الجنسية للقارة السمراء من غير العرب، ثم تبعت إبتسامتها بنظرة فهمت منها ما يدور فى عقلها، فلغة العيون هى اللغة الوحيدة التى لا يمكنك أن تخطئها أبدا مهما كانت لغتك الأصلية.

فنظرت إليها محدثا إياها بعينى، لا يا أمى أتفهم جيدا أنك تعتقدين أننا نحن بنو العرب نركب البحر ونأتى لتلك البلاد البعيدة لنزاحم أبناءكم، أفهم جيدا ما تظنين، فالآن بعد كل تلك القرون من عناء العبودية، وبعد أن أصبح لكم فى ذاك المجتمع صوت مسموع، أتى أبناء العرب ليشاركوكم فى تلك المساحة الضئيلة، ولكن صدقينى يا أمى لا يوجد فارق كبير بيننا، فمثلما أستعبدوكم فى بلادهم، أستعبدونا فى بلادنا، ولولا إحتياج ذلك المجتمع لنا، لما كنت أنا وأنت هنا.

ثم حولت نظرى عنها لبضعة ثوان، فإذ بشاب أوروبى ينظر لى ولها نظرات حادة، فعادوت النظر إليها مبتسما بخبث، ففهمت نظرتى، وردت الإبتسامة تلك المرة بالأريحية والود المعتادين، ثم نظرت فى إتجاه آخر كأنها تريد أن تلفت إنتباهى لشئ ما، فإذ بى أرى شابا إفريقيا يقف مع فتاة أوروبية، ويتبادلان الحديث والنكات فى ألفة وود اضحين، فعادوت النظر إلى السيدة العجوز، وتبادلنا الضحكات الخفيفة، ولوحت لى بيدها، ثم توقف القطار، فنزلت محطة وجهتى، بينما هى ظلت ترقبنى عبر النافذة والقطار يتحرك، كما لو كانت أم تريد أن تطمئن على إبنها قبل أن يتيه فى الزحام.
تمت


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى