السبت ٢٧ نيسان (أبريل) ٢٠١٩
بقلم سناء محمد عبد الله عيسى

إرث

عندما فتحتُ عينيّ للمرة الأولى رأيتُ السماء، أدركتُ بأنها هي بشكل غريزي بعد أن أعماني ضوء الشمس الساطع للحظات، وعرفتُ بأنني قد خرجتُ من رحم الأرض بعد صراع مخاض طويل وساخن، كنتُ لم أزل طفلا لكنني أُعجبت باستوائي واستقامتي الواضحة، مرت الأيام وكبرت، وخسرت بالتدريج الاستقامة التي اعتززت بها طويلا، أخذت الأشجار تنبت فوقي ثم ما لبثت أن اكتسحتني أدغال ضخمة، واكتشفت مع الوقت بأن استقامتي تلك لم تكن إلا تمهيدا لشيء أكبر كنتُ أصبحه مع مرور الوقت، أدركتُ بأنني عندما أخسر أنضج وأصبح أعظم.

أمضيتُ مع أدغالي قرونا طويلة من العطاء وكنتُ مأوى وملاذ الكثير من المخلوقات، وفي صبيحة يوم ابتدأني بشعور غريب، سرت بي رجفة قوية فظننتُ أنني سأخسر أجزاء مني كما حصل من قبل خلال عدة هزات أرضية، إلا أنني كنت مخطئا فقد كانت تلك الرجفة مقدمة لدرس أكبر وأعمق بكثير من الخسارة، لقد كنت أُسحق، كانت الأرض تعصرني بقوة واعتقدتُ بأن نهايتي قد حانت، لم أذق من قبل ألما كذلك حتى أوشكتُ على الاستسلام وأنا أراني وأشجاري نتحول إلى فتات، وقبل أن أغمض عيني للمرة الأخيرة لمحتُ نسرا يحلق فوقي، مبسوط الجناحين مرفوع الهامة، اعتصرني الألم والغضب وانهمرتْ الدموع من عينيّ، وددتُ لو أن بإمكاني التحليق، لقد كنتُ سعيدا على الأرض لكن الآن أردتُ فقط التحرر من كل شيء والصعود للأعلى، نعم للأعلى، لأبعد ما أقدر عليه.

أيقظني ذلك الشعور ودبت القوة في أوصالي وقبل أن أعرف وجدتني أرتفع وأرتفع، وغمرتني النشوة وتمكن الإحساس مني حتى لم أشأ التوقف أبداً، وعندما هدأ كل شيء كان رأسي فوق السحاب، تنبهتُ إلى دموعي فإذا بها استحالت شلالا قوي الاندفاع انسكب من بين الغيوم وشقّ طريقه في الأرض يجري نحو الأفق، أدركتُ حينها منفعة الألم الرهيب ذاك وعرفتُ الفائدة من تذوق الهلاك وبدأتْ مرحلة جديدة في حياتي كجبل عظيم يفيض بالخير ويجري بالحياة في عروق الأرض، واقفٌ بشموخ ووتد من أوتاد الأرض الراسخة.

ومرت القرون، ولأن الحياة الطويلة منحتني الخبرة فلم أعتقد هذه المرة بأنني بلغتُ منتهى النضج والحكمة وأرهفت حواسّي وشحذت عقلي استعدادا للمرحلة القادمة، لكن مع مرور السنين لاحظتُ بأنني آخذ بالتضاؤل واستمر الأمر بصورة سريعة حتى صار بين قمتي وبين السحاب مسافة طويلة واستطعتُ رؤية الأرض من جديد، كنتُ لا أعلم كيف بات حالها من بعدي وكيف يصنع البشر هناك، سألتُ مبنى جميلا مثُل أمامي فقال إنني في القدس.

منذ ذلك اليوم حملتُ اسم المدينة وروحها، صاحبتُ المسجد الأقصى وعشقتُ ابنيه؛ المسجد القبلي الشامخ وقبة الصخرة الجميلة، لكن الحال لم يلبث طويلا، هُوجمت القدس وحُفرت أساسات المسجد الأقصى، هزت الدبابات الأرض وملأت نيران البنادق الجو، واعتصرتني حرقة شديدة ولم أدرِ ماذا أفعل، لو كنتُ مليئا بالأشجار كما السابق لربما حميت أشجار الزيتون، ولو كانت مياهي تجري بقوة لربما تمكنت من إطفاء نيران الصواريخ، شعرتُ بالغضب وتملكني شعور بالضآلة، هل وهنت؟

غضبتُ أكثر، لو كنتُ لا أزال جبلا هائلا لوقفت في وجه الجنود ولمنعتُ الدبابات من العبور، لأحطتُ المسجد الأقصى وأبعدت عنه الطائرات ولثبتُّ أساساته بالجذور، لو كنتُ كبيرا، لو كنت شديدا، هزني ضعفي، ثم هزني أكثر وهزني بغضب حتى زلزلت الأرض وتفتتُ وتكومت أجزائي فوق الشوارع وفي الطرقات، صرتُ حجرا صغيرا لكنني صرخت وظللت أصرخ إلى أن رأيتُ نفسي أرتفع وألتحم مع مطاط وخشب، مقلاع في يد طفل يشده مهددا في وجه فوهة دبابة وجنود محملين بالبنادق، سمعتُ هتاف الغصن الذي كان ابن شجرة جوز ضخمة:

 تمدد أيها المطاط، تمدد بحجم الإرادة التي تحملها هذه اليد.

تمدد المطاط حتى خلته سينقطع، ثم سمعتُ همسه في أذني:

 تشجع أيها الحجر الصغير، تشجع واخترق رصاصاتهم البغيضة.

أدركتُ معنى الدرس الأخير الذي علمني إياه التضاؤل، وأيقنتُ بأن ولادتي وكل ما مررتُ به كان لأجل هذا المشهد، لحظة التحليق هذه، رأيتني أكثر استقامة من سهل وأكبر من جبل، أعظم من شلال وأكثر شموخا من نسر، رأيتُ فتاتي المتناثر والذي سيكمل ما سأبدأه الآن، كان ذلك إرثي للأرض وسمعتُ نداء السماء، انطلقتُ مخترقا الهواء وأمام الدبابة والجنود الكُثر كنتُ أنا السهل والجبل والنهر والشجر والمسجد والمقلاع، ورسمت المجد والانتصار، انتصار طفل الانتفاضة على أعتى الجيوش بحجر!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى