السبت ٢٧ نيسان (أبريل) ٢٠١٩
بقلم أسماء عبد القادر مزاري

أَسْميْتُها مَرْيَمْ

بجسمها المُكتَنِزْ و قامتها القصيرة، أخدت نادية ترقص بكل دلال و تصفيقات الحضور تزيدها حماسا فتتمايل أكثر في سعادة غامرة.

هكذا احتفلت نادية ذات العشرين عاماً بحصولها على شهادة البكالوريا و هو الحلم الذي طالما كان هاجسها مُذْ أدركت معنى الحياة.

دخلت نادية الجامعة و هي تحمل حقيبة مليئة بالأحلام و الطموحات تُزاحم كراريسها و كُتبها، عازمة علي النجاح وتحقيق حلمها في دخول عالم الاعلام، بدأت تدرس بكد و اجتهاد بعد أن فارقت عائلتها في الريف و سكنت بالإقامة الجامعية للبنات، و كل حلمها أن تعود الي قريتها و هي تحمل شهادة الماجستير كما وعدت والداها.

خلال فترة الدراسة تعرفت نادية على "سمير" الشاب المُرفّه وحيد أبويه و مُدلّلهما، و الذي أوهمها بالحب و نسج لها بيتا كجنة عدن ملأُه الورود و الوعود انتهت بتسليمه مفاتيح قلبها و لم يكن بالأمر الصعب جدا بعدها اقناعها بتسليمه مفتاح شرفها و تاج عزتها كعربون محبة و وفاء بعد علاقة دامت أكثر من ثلاث سنوات.

تقول نادية: لم أكن أعلم أن اللّحظة الرّائعة التي غرقتُ فيها بين أحضانه ستكون خاتمة كل أحلامي وطموحاتي، و مفتاح شر أَلِجُ به الى عالم مُظلم مُكفهرّ المعالم تحُدُّه الخطيئة من كل حدب و صوب.

خرجت من بيته و أنا ألتفت هنا و هناك و الخجل يُغرقِ وجهي عرقًا و كلما نظر اليّ أحدهم خيِّلَ لي أنّه رآني مع "سمير" في خلوتنا المشؤومة تلك..

دَخَلْتُ البيت و أخدتُ أَتفحَّصُ مَلَامِحِي و هندامِي و لم أخرجُ من غرفتي طيلة اليوم مخافة أن تشي ملامحي بي.

كانت تلك المرة الأولى التي أودّع فيها البَرَاءة للأبد و تتالت بعدها اللقاءات، تعوّدت على الأمر و صرت أمشي بلا استحياء في الحي الذي يسكنه "سمير" و أصعد العمارة و أسلم على البوّاب و كأنني فردٌ من السكان، لم يخطر ببالي و أنا غارقة في نشوة ذنوبي أن الله سيهتك ستري كما هتكت سِتر أهلي، الى أن جاء اليوم الذي عرفت فيه أنني حامل بعد أن تأخرت علامة طُهري لشهرين و هناك أدركت حجم جُرْمِي و ضاقت بي الدنيا بما رحبت خصوصا عندما أخبرت "سمير" و صار يتهرب مني بل يدّعي عدم وجوده في البيت و يوصي البوّاب بعدم السماح لي بالصعود الى شقته، بكيت بدل الدمع دم و تجرعت كؤوس الندم و أنا أرى بيت أحلامي يُهدَمُ فوق رأسي، شربتُ حبوب منوّمة.. قفزت من على الكرسي مرارا.. سدّدتُ لكمات قويّة لبطني علّني أتخلص من هذا السرّ الذّفين الذي استوطن أحشائي و غدى يهدّد حياتي لكن هذا الكائن الصغير كان يتشبت برحمي بكلّ قوته الضعيفة ليثبت الله لي أن أن يديه فوق يدي الملوثتين.

و مرت الشهور تَجُرًّ بعضها و بدأت ملامح الخطيئة ترتسم عليّ وبصعوبة بالغة تمكّنت من تأمين ثمن ايجار بيت متواضع علّني أتفادى انتشار الخبر وسط الحرم الجامعي و بالتالي امكانية وصوله الى مسامع أهلي و سكان قريتي المُحافظة و بالفعل انتقلت الى سكن خاص الى أن جاء المخاض و عشت خلاله مرارات الألم و العذاب ووجدت نفسي أجر أذيال الخيبة و الشقاء بمفردي الى أن وصلت الى المشفى حيث أخرجتُ روحها الطاهرة من ظلمات بطني الى ظلمات الحياة.

كانت تلك اللحظات الأصعب في حياتي، تحرّرت صرخاتي من قبضة صدري الذي أحكم تكبيلها مُفجِّرةً طاقة من الغضب انتشلت حبّي لسميرو استقرت بقلبي بدلا عنه ..خوف دفين استوطن روحي فأوحلها، ندم قطع أوصال هذا العقل الذي تخدّر لمدّة طويلة و لم يفق الا على وقع كارثة كانت شهوتي بطلتها بامتياز، صرخت، صرخت، صرخت... و صَرَخَتْ هي مُعلنة قدومها للحياة، كانت أقرب الى الملاك منها الى البشر، حاولت ملامحها البريئة اغرائي لحملها و تقبيلها والاعتذار منها و لكن لم أجرؤ على فعل ذلك فاكتفيت بالتحديق في ملامحها للحظات، سرقت من أمي لون البحر الهائج بعينيها و أخدت من "سمير" غمازته التي كنت أعشقها، و أخدت منّي ضعفي، ضعفي الذي جعلني أقف هذا الموقف المُحرج و أنا مطأطأة الرأس حياءا من نظرات اشمئزاز رمقتني بها القَابِلة ما ان سألتني عن والد طفلتي فأجابها صمتي، سلّمتني الصغيرة فأمسكتها على مضض و أنا خائفة أن ألوثها بنجاستي و هي البريئة المجني عليها و الضحية الوحيدة بيننا، حملتها و أنا أتجنب النظر الى عينيها خجلا و خوفا من عاطفة لا أريدها أن تولد.

خرجت أجرُّ أذيال الخيبة و العار و أنا أرى الأمهات الجدد تترقرق السعادة من تقاسيمهن و أزواجهن يركضن لمعانقة حلم الأبوة الرائع، مشيت و مشيت و أنا لا أدري الى أين و مرت السّاعات و أنا أمشي و ثمرة الخطيئة تبكي من الجوع و البرد الى ان وصلت الى مكان غابيّ حيث ودّعت الشّمس بساط السماء، و كأنها ترفض أن تكون شاهدة على جُرمي، نزعتُ عنها قطعة القماش التي كانت تستر بدنها الهزيل و تركتها عارية كعُريِّ من الأخلاق، أخدت أصابعها الباردة الرقيقة تستنجد بي في مُحاولة منها ليحنّ فؤادي الذي امتلأ قسوة و جبروت،

أبعدتهما عني و أمسكت بقطعة القماش و بدون تفكير أو بالأحرى هروبا من لحظة ضعف تجعل قلبي يستسلم أمام نظراتها البريئة كتمت أنفاسها بكل جُبن و بدأتُ أضغط عليها و شيئا فشيئا أخد لونها يميل الى الزُرقة و هدأت أوردتَها و توقفت حركة جسدها النحيل عندها تأكدت أن روحها الطاهرة صعدت الى بارئها ..رميت القماش و بكل دم بارد و قسوة قلب يرتجف من الدهشة أخدت أحفر الأرض لأُداري بها خطيئتي.

وضعت الصغيرة بداخل الحفرة و بدأت أرمي التراب بسرعة على جسدها الرقيق والدموع تنهمر كالسيل دون أن تستأذن جفوني و ما ان أكملت مُهمّتي القذرة هممت بمغادرة المكان الى عالم مجهول الى وجهة سوداء كفعلتي تذكرت.. لم أطلق على الفتاة اسم، ربما كانت الفكرة الأغبى في حياتي و لكنني لم أتمكن من انتزاعها من رأسي.. و عدت أدراجي بعد أن تخطيت المكان بمسافة بسيطة، رفعت التراب من على جسدها حتى ظهر وجه صغير تغطي قسماته تعابير العتب و اللّوم، أمعنت النظر فيه ثم أخفضت رأسي و في أذنها الصغيرة همست قائلة: أَسْمَيْتُكِ مَرْيَمْ.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى