الأحد ٧ تموز (يوليو) ٢٠١٩
قضايا مسرحية
بقلم زهور بن السيد

الدكتور حسن المنيعي عميد النقد المسرحي المغربي

ارتبط اسم الدكتور حسن المنيعي بالنقد المسرحي المغربي بصفة خاصة والعربي عموما. ساهم مساهمة جبارة في تأسيس وترسيخ وتطوير تجربة النقد المسرحي بالمغرب, بعطاء يمتد من الستينات إلى الآن, من الوقت الذي لم يجرؤ فيه الباحثون على طرق موضوع المسرح المغربي, لعدم اقتناعهم بعد بوجود تجربة مسرحية جديرة بالدراسة.
اقتحم المجال مبكرا, عازما في البداية على إثبات وجود المسرح المغربي, يقول: ((وهكذا, فقد كان بعض الأصدقاء يتصورون باندهاش وسخرية فكرة إقدامي على القيام بأبحاث في موضوع مسرح يسمى "مغربيا", لأنه من اللازم أن أثبت لهم في البداية وجوده كفن, قبل الإشارة إلى ظروف تولده أو الوقوف على مجاليه وبنياته ومشاكله.)) وكان الباحث في ذلك متسلحا بإيمانه بأصالة الثقافة المغربية, مقتنعا بما تنطوي عليه من تراث فني يفيض بعناصر دالة, بتعبير المنيعي, الشيء الذي جعله يواجه الصعوبات ليؤكد حضور وتأسيس المسرح في المغرب وتحقيقه لمتن وتجارب مهمة. وعازما بعد ذلك على ترسيخ البحث المسرحي على أسس معرفية ومنهجية متينة في النقد المغربي.

أنجز الدكتور حسن المنيعي قراءات ومقاربات نقدية نوعية في طرحها ومواقفها, متعددة في مصادرها: مقالات نقدية وكتب مطبوعة وأعمال مترجمة, إضافة إلى محاضراته في مدرجات الجامعة المغربية والندوات والعروض التي يقدمها في المناسبات المسرحية والثقافية, والرسائل والأطاريح الجامعية التي يشرف عليها ويؤطرها, فاتحا بذلك ورشا كبيرا في الجامعة المغربية لمناقشة القضايا المسرحية المغربية والعربية والعالمية, وتوجيه الطلبة إلى قضايا محددة, وبحثها ومناقشتها من زوايا مختلفة.
يعد المنيعي واحدا من أعلام النقد الأدبي الحديث بالمغرب إلى جانب باحثين آخرين, ورائدا مؤسسا للنقد المسرحي ببلدنا, فهو أول باحث مغربي أنجز دراسة جامعية حول موضوع المسرح المغربي, مدشنا بذلك تخصص النقد المسرحي الجامعي في المغرب.
قدم المنيعي كما مهما ونوعيا من الكتابات النقدية التي واكبت التجربة الإبداعية المسرحية بالمغرب بشكل خاص, ويكفي أن نلقي نظرة على عناوين بعض أعماله ودراساته, حتى ندرك قيمة المشروع النقدي للدكتور حسن المنيعي, ومنها: "أبحاث في المسرح المغربي" (1974) و"التراجيديا كنموذج" (1975) و"هنا المسرح العربي... هنا بعض تجلياته" (1990) و"المسرح والارتجال" (1992) و"المسرح المغربي (من التأسيس إلى صناعة الفرجة) (1994) و"المسرح والسيميولوجيا" (1995) و"الجسد في المسرح" (1990) و"المسرح مرة أخرى" (1999) "المسرح فن خالد" (2003) و"قراءة في مسارات المسرح المغربي" (2003) و"ويبقى الإبداع (دراسات عن المسرح والأدب في المغرب)" (2008) و"المسرح الحديث: إشراقات واختيارات" (2009) و"الجسد في المسرح" (2010) و"المسرح ورهاناته ـ إعداد وترجمة حسن المنيعي وخالد أمين" (2012) و"حركية الفرجة في المسرح (الواقع والتطلعات)" (2014) و"عن المسرح المغربي: المسار والهوية" (2015) وغيرها, إضافة إلى محاضراته ومقالاته المنشورة في الجرائد والمجلات الوطنية والعربية.

إن ما يميز أعمال الناقد الدكتور حسن المنيعي هو امتدادها على فترة زمنية مهمة, تبدأ من الستينيات إلى الآن, ورصدها لمختلف قضايا وإشكالات الممارسة المسرحية بصفة عامة والمغربية بصفة خاصة, فمن الاهتمام بتأريخ الظاهرة المسرحية المغربية منذ بداياتها الأولى مرورا بمرحلة التأسيس إلى مرحلة التأصيل والتطور وطرح قضية الأشكال ما قبل مسرحية والفرق والمدارس المسرحية المغربية (الهواة ـ المسرح الاحترافي وتجارب أخرى عديدة), ورجالات المسرح, إلى قضايا التنظير والتجريب والنقد ورصد الموضوعات والأبعاده الفنية والجمالية للأعمال الإبداعية المسرحية نصوصا وعروضا, بمناهج ومقاربات وأدوات إجرائية متعددة, تاريخية وفنية وجمالية.., أسعفته إلى حد كبير في تقريب خصوصيات التجربة المسرحية المغربية, وترسيخ الممارسة النقدية المسرحية على الصعيدين المغربي والعربي عموما.
عالج المنيعي في أعماله قضايا مسرحية متعددة, سأقف منها على ثلاث قضايا وهي:
ـ قضية الأشكال ما قبل المسرحية
ـ قضية التأسيس والتأصيل والتطور
ـ قضية النقد المسرحي

1 ـ قضية الأشكال ما قبل المسرحية
أولى الدكتور حسن المنيعي اهتماما كبيرا لقضية الأشكال الفرجوية التراثية المتأصلة في الثقافة المغربية, وخصص فصولا ومحاور في كتبه لأهم هذه الفرجات, كالحلقة والبساط وسيدي الكتفي وسلطان الطلبة, ووصفها على مستوى مكوناتها الدرامية وكيفية تشخيصها وعرضها. واعتبرها, بالنظر إلى ما تنطوي عليه من خصائص درامية, مسرحا تقليديا كان له فضل تهيئ التربة الثقافية الفنية المغربية لاستقبال الفن المسرحي بمفهومه الإيطالي الذي حملته رياح المثاقفة, على يد الفرق المشرقية التي زارت المغرب في عشرينيات القرن الماضي, يقول: ((لقد كان ظهور المسرح المغربي نتيجة توفرنا على التراث الفني والفلكلوري الذي درسناه سابقا. ورغم أسلوبه القديم, فإن هذا التراث كان قد ساعد على إعداد جمهور فتي, ربما كان بعيدا عن إدراك الفن الدرامي وأشكاله الأساسية, ولكنه قابل لاحتضانه ورعايته, بحكم تعوده المبكر على كثير من الفرجات)).
وتظل هذه الأشكال والأنماط التمثيلية التراثية جديرة بالاهتمام, يدعو المنيعي إلى ((التعريف بها ودراستها من حيث مكوناتها الدرامية وتجذرها في الثقافة الشعبية, وكذا من حيث جاهزية توظيفها كإواليات فنية في عملية تأصيل الحركة المسرحية ببلادنا.))

2 ـ قضية التأسيس والتأصيل والتطور

من القضايا الشائكة والمعقدة التي ناقشها الدكتور حسن المنيعي وحظيت باهتمامه الكبير, هي قضية تأسيس المسرح في المغرب وتأصيله وتطوره.
إن تعدد العوامل وتداخلها في مسألة تأسيس المسرح في المغرب, والمتمثلة في: توفر الثقافة المغربية على أشكال فرجوية (أشكال ما قبل مسرحية) ذات مقومات درامية هائلة, ثم تشييد مسرح سرفانطيس سنة 1913 من قبل المستعمر, إضافة إلى حدث زيارة الفرق المسرحية العربية في العشرينيات من القرن الماضي, وتأثيرها الواضح على مجموعة من الشبان المغاربة, الذين تحمسوا كثيرا لهذا الفن الوافد, إضافة إلى غياب التوثيق للممارسة المسرحية المغربية الأولى, باستثناء بعض المقالات وبعض الملصقات والشهادات الشفوية, كل هذا يجعل من مسألة تحديد بداية المسرح المغربي مسألة إشكالية, تتأرجح بين القول بأقدمية الفن المسرحي في المغرب وصلته بجذوره المتمثلة في التراث الفرجوي, وبين القول بأن الفن المسرحي المغربي فن حملته رياح المثاقفة.

الدكتور حسن المنيعي يرى في بحثه لهذه الإشكالية, أن العشرينات من القرن الماضي هي نقطة انطلاق الحركة المسرحية الحديثة بالمغرب, يقول: ((ومهما اختلف الناس في ظروف نشأة المسرح بالمغرب فإن علينا أن نقر بأن مرور الفرق الأجنبية كان سبب كل التحولات الهادفة التي عرفها فن الدراما في إفريقيا الشمالية.)) ويؤكد أن المسرح عرف عندنا في حدود العشرينيات وعن طريق المشرق العربي"
مع ذلك فهو لا يعدم الصلة بين المسرح بمفهومه الحديث والأشكال الفرجوية المحلية, يقول: ((نستطيع التأكيد بأن فن المسرح المغربي عموما كان فنا مستوردا, ومع ذلك بإمكاننا أن نشير إلى وجود عدد من الأشكال التي تمتاز بحيوية دافعة. (...))), كما أنه لا يسلم بحداثة الفن المسرحي في المغرب كل الحداثة, ومن ثمة نجده قد تحدث بخصوص بداية المسرح المغربي, عن نوعين من البداية: "البداية الممكنة" و"البداية الفعلية". تتمثل "البداية الممكنة" في الفرجات التراثية القديمة, يقول: ((لا نعرف أي تقليد مسرحي في الثقافة المغربية القديمة باستثناء الظواهر الماقبل مسرحية التي يمكن اعتبارها البداية الممكنة للمسرح المغربي, والتي انعكست في الطقوس الاحتفالية ك: "البساط" و"سلطان الطلبة" و"سيد الكتفي" وغيرها من الطقوس القديمة التي تنتظم في باطن الخيال الشعبي)). وحيث أنه يرى أن هذه الفرجات, رغم ما تختزنه من خصائص درامية, إلا أنها ((لا تقوم على التمثيل الحقيقي (أي بمعناه الحديث))), وأنها ((تخضع في الغالب لعملية الارتجال والمشاركة الجماعية)), وهو ما جعله يتحدث عن "بداية فعلية" ((انطلاقا من دخول المسرح بمفهومه الإيطالي إلى سوق الفرجة أي عن طريق زيارة فرق مشرقية)).

ولم تتوقف أبحاث المنيعي بحسم رأيه حول مسألة تأسيس المسرح المغربي, بل استمرت متعقبة مظاهر وعوامل تطوره بعد أن أرسى دعائمة في الثقافة المغربية. فقد عمل برؤية نقدية واضحة على تلخيص الصفات الأساسية للمسرح العربي عامة منذ بدايته في ثلاث مراحل:
((1 ـ مرحلة تحضير (اقتباس وترجمة)
2 ـ مرحلة إبداع وخلق
3 ـ مرحلة تأصيل وتجريب.))

فكان تقييمه لما تحقق في المرحلة الأولى (1923 ـ 1950) يتمثل في أنه ((وعلى الرغم من الهزال الصارخ لبعض العروض المسرحية التي قدمت في المرحلة الأولى(1923 ـ 1950) فإن مساهمة الرواد قد ساعدت على غرس الفن المسرحي عندنا وعلى تعميمه أيضا))
وعلى الرغم من أن الاقتباس والترجمة ساهما في تطوير المسرح المغربي, وتعويض النقص الحاصل في التأليف, فقد تنبه الدكتور حسن المنيعي وبعض النقاد والمسرحيين إلى بعض الظواهر السلبية في تجربة المرحلة الأولى, على أنه مهما أصاب الحركة المسرحية من نشاط في ظل مرحلة الاقتباس والتقليد والترجمة, فإنه نادرا ما كانت هذه الأعمال المسرحية المقتبسة والمترجمة تستجيب لمتطلبات الشعب المغربي وتطلعاته السياسية والاقتصادية ضمن منظومة ثقافية واضحة, وأن ((المسرح المغربي ظل خلف الأحداث كما سادته ممارسة تمويهية تساير الوضع القائم دون أن تطرح تصورات مستقبلية على مستوى معالجة القضايا.)).
لكن سرعان ما تنبه المبدعون إلى أهمية استثمار التراث العربي, كمنفذ لتجنب الاستلاب وتأصيل المسرح العربي وإثبات الهوية. ويؤكد المنيعي في هذا الصدد على أنه لو استمر غياب السعي وراء هذه الأصالة أو إبطالها لما تمكن هذا المسرح من القيام بدوره خلال العشرين سنة الأخيرة خصوصا بعد هزيمة 1965.

كما أن تطلع المسرح المغربي إلى التجديد وبحثه عن الممكنات والوسائل التي تخلق مسافة بينه وبين المسرح الغربي, وتحقق أصالته, هي غاية لا يمكن تحقيقها في رأي الدكتور حسن المنيعي ((إلا من خلال اللجوء إلى التراث الشعبي نظرا لما يختزنه من أدبيات وظواهر احتفالية يتمفصل في نطاقها النشاط الروحي والاجتماعي والفني للإنسان العربي.)).
وهكذا عرف المسرح المغربي في السبعينات انطلاقة حقيقية, تمكن خلالها من تجاوز مرحلة التقليد للنماذج الغربية, وامتلاكه لأساليب جديدة خاصة على مستوى الكتابة المسرحية. يقول عنها الدكتور حسن المنيعي: ((عرفت الكتابة الدرامية انطلاقا من السبعينات توجها تجريبيا وتأصيليا جعل منها كتابة مفتوحة الآفاق تعكس قدرة الدراميين على تحكمهم في أساليب الإبداع الدرامي, وتشبعهم بتقنيات المسرح مع انشدادهم إلى التراث العربي وحرصهم على استنطاق تراكماته المكتوبة والمسموعة.)). وأن المسرح على مستوى العروض, وانطلاقا من وعي المبدعين بما يزخر به التراث الشعبي من أشكال فرجوية تنبني على أصول تمثيلية, قد أخذ ((يستلهم هذه الأشكال في بعدها الاحتفالي والمادي خصوصا على مستوى الإخراج الإبداعي الذي ولد عروضا مسرحية ذات أساليب مختلفة)) خاصيتها أنها ((تراعي في الأساس "أيقنة" اللغة المسرحية لبناء تخيلات (Fictions) واقعية وغرائبية في نفس الوقت, ولتحقيق استراتيجية جديدة للتلقي تؤدي بالمتفرج إلى نبذ النص المسرحي القائم على أبعاد أدبية صرفة, وإلى التعامل مع فرجة مسرحية ينفذ إلى أعماقها من خلال الحوار الذي تفرضه عبر التقنيات الموظفة ولعبة الاكتشاف المتصاعد لقواعد الإنجاز والإعداد المسرحي.)).

ولم يفت الدكتور حسن المنيعي الاهتمام برجال المسرح الذين كانوا وراء هذه الحركة التأصلية في المسرح المغربي, ومنهم الطيب العلج والطيب الصديقي وعبد الكريم برشيد, وشكلت إبداعاتهم مادة نقدية في أعماله للتدليل على دورهم في تطوير المسرح المغربي وتأصيله.
وهكذا نستنتج أن الدكتور حسن المنيعي تطرق لقضية تأسيس وتطور المسرح المغربي برؤية وموقف نقدي قائم على قاعدة قوية وصلبة من المتابعة الجادة, تؤمن فيما يتعلق بالتأسيس بأن الفن المسرحي المغربي فن طارئ, يربط النشأة بالتأثيرات الأجنبية والمرجعية الغربية, وبزيارة الفرق المشرقية للمغرب, وفيما يتعلق بتطور هذه التجربة فإنه يربطها بالثورة التي حدثت في المسرح العربي وفي المغرب على التقليد والترجمة والتبعية للغرب, واستثمار التراث لتحقيق الخصوصية والتأصيل المطلوبين.

3 ـ قضية النقد المسرحي

من القضايا الأساسية التي اشتغل عليها الدكتور حسن المنيعي وأولاها اهتماما كبيرا في أعماله هي قضية النقد المسرحي بالمغرب, وناقشها من خلال مجموعة من المقالات والفصول الواردة في كتبه, ومنها:
ـ "النقد المسرحي" ورد هذا المحور كعنوان فرعي في الفصل الثاني (المسرح المغربي والتجارب المتبعة منذ سنة 1919) في كتابه الأول: "أبحاث في المسرح المغربي" الصادر سنة 1974.
ـ "النقد المسرحي في المغرب" ضمن كتابه "هنا المسرح العربي .. هنا بعض تجلياته" الصادر سنة 1990.
ـ "تطور النقد المغربي الحديث (النقد المسرحي نموذجا), ضمن كتابه: "المسرح المغربي (من التأسيس إلى صناعة الفرجة) الصادر سنة 1994.
وتعكس هذه المحاور متابعته المحايثة لحركة النقد المسرحي, ورصده لأبرز ملامحها في الثقافة المغربية, عبر مراحل زمنية متعاقبة, وفي ظروف متعدد ومتطورة. الشيء الذي مكنه من تقديم صورة واضحة عن واقعه وخصوصياته وتطوره وتحديد آفاقه.
فكان النقد في مرحلة البدايات (فترة الحماية) حسب رأيه, ((انعكاسا للحصيلة الدرامية. وبما أن المسرح كان نوعا جديدا بالنسبة للمغاربة, فإنه لم يعمل إلا على إثارة فضول المعلقين الصحفيين وبالتالي فمنهم من رحب بظهور هذا الفن بالثناء على سموه ومنفعته, ومنهم من انطلق فورا في غمار النقد الخالص, موجها رماحه إلى أصحاب الفرجات, وبعد ذلك الجمهور, وذلك إما بتسجيل عيوبه أو التركيز على شدة انتباهه. ...))
ومن خلال تمحيصه لنماذج النقد السائد في تلك المرحلة, يستنتج المنيعي ((أن النقد المسرحي فيما بين 1923 و1940 كان نقدا واعيا بوظيفته, ورغم أنه لم يكن قادرا على تحليل النتاج في جميع عناصره, فإنه كان يسعى مع ذلك إلى حصر أحكام بناءة بالنسبة للمستقبل, كما أنه يبدي رأيه في الريبرتوار الذي أخذ منه ذلك الحين يطرح القضايا التي ستزداد حدة فيما بعد.))
وإذا كان النقد المسرحي في مرحلة البدايات (مرحلة ما قبل الاستقلال), كتابة واصفة للفرجات والشخصيات المسرحية وأنه ((لم يكن يتعدى حدود التركيز على أهمية المسرح والدفاع عن اللغة, وتلخيص المسرحية ثم الإشارة إلى جمالية الديكور ومستوى التشخيص)), فإن النقد المسرحي في الستينات, حسب ما توصل إليه الناقد المنيعي, قد عرف تحولا ملموسا على مستوى مناقشة بعض القضايا المسرحية كقضية الاقتباس, وتفسير الأعمال المسرحية بالتركيز على شروطها التاريخية والاجتماعية, إلا أن النقد المسرحي ظل عاجزا عن امتلاك أدوات منهجية قادرة على قراءة العمل المسرحي قراءة متأنية والإحاطة بعناصره البنائية, يقول الدكتور حسن المنيعي ملخصا مظاهر أزمة النقد المسرحي في ما يلي:
(( ـ عدم تبلور النقد في مناهج أو تيارات واضحة.
ـ سقوط الناقدين في التعميم والتعليق.
ـ تضخيم المقولات النقدية بالخطابات المحشوة التي لا يتحملها النص المسرحي.
ـ فهم تبسيطي للعلاقة بين الفن والواقع.
ـ تغليب الجانب الأدبي على الجانب الفني.
ـ دورانية ونقص في الثقافة المسرحية.))
لكنه يرى أن هذه الظواهر ما هي إلا انعكاس لواقع إبداعي مسرحي, ظل في معظمه قائما على الترفيه والتسلية باستثناء بعض أعمال الصديقي المقتبسة.
وفي إطار علاقة النقد بالإبداع يركز المنيعي في تقريبه لواقع النقد في السبعينات, على ما عرفته هذه المرحلة من تطور وازدهار في الإبداع المسرحي القائم على تقويض الأخذ من الغرب واستثمار التراث, فإن النقد كان نوعيا أيضا ومختلفا عما كان سائدا, يقول: ((ففي غمرة الدراسات النقدية الصحفية القائمة على الانطباع والتأثر ظهر ما يمكن تسميته بنقد حالة إثبات Critique de constat وهو نقد لا يهتم أساسا إلا بالتنظير وإعادة النظر إلى وضعية المسرح المغربي وإلى علاقته بالمسرح الأوروبي. وكما هو معلوم, فقد أفرز هذا النقد مدارس مسرحية مثل الاحتفالية, والمسرح الثالث والمسرح النقدي, ومسرح المرحلة.)).
وتكمن أهمية هذا النقد في كونه يسعى إلى البحث وترسيخ أساليب عربية ومغربية أكثر ارتباطا بقضايا الإنسان العربي. ويرى المنيعي أن هذه الوضعية هي التي ((أحدثت تحولا إيجابيا في مسار المسرح المغربي والنقد المواكب له الشيء الذي جعلنا نقف على كتابات جامعية إما على مستوى مونوغرافيات الإجازة أو على مستوى الرسائل والأطروحات إضافة إلى بعض الكتب التي عالجت قضايا عامة أو فرعية...))
ونجده حريصا على إبراز أهمية النقد الجامعي المتمثلة في أنه يوسع قاعدة المعالجة النقدية, ويتعامل مع المسرح لا كإنتاج أدبي فحسب, بل كعرض شامل. وحتى دراسة النص الدرامي لا تعنى بشروط إنتاجه وإنما تتجاوزها إلى التركيز على عناصره الداخلية كالتناص والرموز التراثية وغيرها. ومما ساهم في تدعيم هذه التجربة النقدية أيضا هو انفتاحها على المقاربات النظرية الأجنبية, لذلك أمكن للنقد المغربي ((أن يحدد مفاهيمه العلمية وأن يستمد أحكامه من منطلقات علمية تخول له تناول قضايا ترتبط بخصوصية النص الدرامي والعرض المسرحي, وأبعاد الشخصية وغير ذلك من المنظومات التي تسمح بدراسات العلامات والشفرات التي تترابط داخل الخطاب المسرحي.))

ولم يفت المنيعي أن يقف على الصعوبات التي تعترض تطور هذه التجربة النقدية, وأهمها عدم توفر تراكم إبداعي من شأنه أن يفتح المجال أمام الناقد, ويسمح له بدراسة الإبداع الدرامي من حيث مساره وأساليبه وتقنياته.
ويؤكد الباحث على أن النقد المسرحي, مع ذلك, قد حقق متابعة واعية حول التجربة الإبداعية المسرحية, واستطاع أن يمتلك أدوات إجرائية مهمة, قائمة على أسس نظرية واضحة مستمدة من بعض النظريات الغربية.

لقد شكلت تجربة الدكتور حسن المنيعي في مجال النقد المسرحي محطة أساسية في تاريخ الأدب والفن المغربيين بصفة خاصة والعربيين بصفة عامة, وشكلت أبحاثه مرجعية قيمة للباحثين في الميدان المسرحي وحلقة من حلقات الدرس النقدي المسرحي الأساسية في المشروع النقدي الحديث, ما يجعل الدكتور حسن المنيعي عميدا للنقد المسرحي المغربي بامتياز.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى