الخميس ٣ آب (أغسطس) ٢٠٠٦
بقلم علي عبد اللطيف

العدوان الأمريكى على اليابان فى قصص محمود البدوى

لقد ضربها الأمريكان من الجو فى الحرب الأخيرة، ضربوها بوحشية لا تصدر من شيطان، دكوها من مراكز الثقل والصناعة فيها وجعلوا قلبها حطاما، ولكن السواعد القوية أعادت المدينة الشامخة أجمل وأنضر مما كانت، وعاد قلب طوكيو، كأجمل ما رأت العين من أشياء.

ويقول محمود البدوى بعد عودته من طوكيو فى سنة 1957:

إن طوكيو مدينة اجتمع على رسمها كل فنان فى اليابان وكل عقل متفتح، فجاءت تحفة المدن. اجتمع هؤلاء الفنانون ليزينوها ويزخرفوها كأنها تصميم هندسى على الورق، وجاءت الحقيقة أروع من التصميم وأجمل.

إن طوكيو مدينة جميلة وجمالها نادر المثال، وليس هذا لأن فيها أجمل النساء، فإن أجمل النساء فى العالم فى مدينة بوخارست، أو لأن بها ناطحات السحاب، فإن أعظم ناطحات سحاب فى العالم فى مدينة نيويورك، أو لأن مناظرها الطبيعية خلابة فإن أجمل المناظر الطبيعية التى يمكن أن يشاهدها الإنسان فى سويسرا أو فى ريف النمسا.

إن طوكيو جميلة لأن روحها جميلة.

إنها تستقبلك فاتحة لك ذراعيها وتضمك فى حنان..

وإذا كنت ستعبرها لمجرد ليلة فإنك لا تفكر فى النوم، فحرام على النفس البشرية أن تحرمها كل هذا الجمال، حرام أن تحرمها ليلة لا تأتى مثلها ليلة فى مدينة على الأرض.

ويقول محمود البدوى فى ديسمبر عام 1974 "عندما زرت أوربا والهند والصين واليابان لم أكن أفكر مطلقا فى كتابة قصص عن هذه البلاد. ولكنى وجدت نفسى وأنا فى اسطنبول وبوخارست وهونج كونج وشنغهاى وطوكيو، فى حالة انفعال، ويزخر رأسى بمئات الأحداث الصغيرة والكبيرة، فكان لا بد أن أخرج هذه المادة على الورق.."

وعن الأثر الذى تركته الحرب الأمريكية على الشعب اليابانى فى قصص محمود البدوى:

أتى لنا بنموذج للرجل اليابانى الذى أصابته لعنة نجازاكى ويبدو شخصا غير منتم يقضى معظم ساعاته نائما أو كالنائم بلا بيت ولا صاحب ولا ولد يقضى ليلته حيث تسوقه قدماه..

والمرأة اليابانية صاحبة النزل التى شوهت الحرب وجهها وأخذت تسدل عليه قناعا من البلاستيك حتى لا يتقزز من رؤياها أحد..

فيقول فى قصة "الدليل"

"أن مستر ميشى كان دليله منذ خرج من المطار وكان يجيد اللغة الإنجليزية فى مدينة فى مدينة ندر أن تجد فيها من يتحدث بغير اليابانية والجمهور فيها يكره الأجانب ويغلى من الغيظ.. بسبب الاحتلال الأمريكى. وكان يغفو بمجرد جلوسه فى الترام ويحدثه وهو مغمض العينين.. ثم ينقطع صوته فيتصور أنه قد نعس فعلا من فرط سكون ملامحه.. وإرخاء جفونه.."

ويقول الراوى:

" وفجأة أسمعه يرد على خواطرى بقوله:ـ

ــ بقيت ثلاث محطات على شمباسى.. تفضل سيجارة..

وكان يخرج علبة سوداء فى حجم الكف.. فأعتذر له بأنى لا أدخن.. وكنت أقدر بأنه أصابه شىء حتما من شعاع نجازاكى أو هيروشيما.. وجعله بهذه الحالة..

فقد حدثنى أنه عاصر الحرب العالمية الثانية واكتوى بنارها.. وشاهد النكبة التى حلت بالمدنيين المساكين.

وفجأة أسمعه يرد على خواطرى بقوله:ـ

ــ بقيت ثلاث محطات على شمباسى.. تفضل سيجارة..

وكان يخرج علبة سوداء فى حجم الكف.. فأعتذر له بأنى لا أدخن.. وكنت أقدر بأنه أصابه شيء حتما من شعاع نجازاكى أو هيروشيما.. وجعله بهذه الحالة..

فقد حدثنى أنه عاصر الحرب العالمية الثانية واكتوى بنارها.. وشاهد النكبة التى حلت بالمدنيين المساكين".

ويقول:

"وكان جنود الاحتلال يحتلون قاعات الفندق الذى أنزل فيه ويمضون عطلة نهاية الأسبوع فى يومى السبت والأحد فى صخب وصراخ.. فتضايقت من وجودهم.."

وأبدى الراوى رغبته للمستر ميشى فى أن يترك الفندق ويرغب فى أن يكتب مذكراته فى مكان هادئ، فاصطحبه إلى نزل.. من طابقين وبه قليل من النزلاء..

ويصف الراوى صاحبة النزل فيقول:

"وكانت مديرة النزل سيدة أيضا فى حوالى الأربعين من عمرها.. وتجلس على حشية فى المدخل.. وتحرك كل هؤلاء العاملات بابتسامتها ومجرد إيماءة من رأسها.

وكنت أراها.. لا تبرح مكانها إلا قليلا.. وكانت أكثر لطفا من أية سيدة يابانية وقع عليها بصرى.. ووجدت فى تقاطيع جسمها الجميلة.. وملامح وجهها الحنون ما جعلنى أتأمل..

فقلت لميشى:

ــ لابد أنها كانت جميلة جدا فى صباها..

ــ كانت أجمل فتاة فى طوكيو..

ــ أتعرفها من قبل..

ــ أعرفها من خمسة عشر عاما.. منذ سقطت علينا القنابل فى الحرب الأخيرة..

ــ أمتزوجة..؟

ــ أبدا إنها لم تتزوج قط..

ــ ولماذا..؟

ــ لم يوجه لها أحد هذا السؤال..

ــ إنها لا تزال نضيرة.. وأجمل من كل عروس ووجهها يضئ كالشمع.. وأحسبه فى مثل نعومته..

ورفع ميشى الكأس الخزفى إلى شفتيه وأغلق عينيه كعادته ولم ينبس.....

وكان ميشى دائم القعود فى هذا النزل.. منزويا فى ركن.. يدخن ويشرب الساكى وهو يغمض عينيه.. وكل من يراه يتصوره نائما.."

ويقول الراوى أنه لاحظ ذات صباح السيدة المديرة وهى تقترب منه وتربط له رباط العنق:

"أن فى وجهها شيئا ولما دققت النظر تيقنت أنها تضع ما يشبه القناع من البلاستيك على وجهها وقد غطته ببراعة بطبقة من الدهون والمساحيق ليظهر طبيعيا.. وأبعدت عينى عنها حتى لا تلاحظ أنى أتفحصها.. ولكنى شغلت بما رأيت.. وددت أن أتأكد منه وقد أكد لى الأمر.. عندما رأيتها ذات ليلة فى غرفتها تخلع هذا القناع.. وكان الستر منزاحا قليلا.. فلما استدارت لترده ابتعدت مسرعا حتى لا يقع بصرها على.. ولكننى رأيت الحروق تشوه خدها الأيمن كله.. وأسفت لها.. وازداد تعلقى بها..

ولم أشأ أن أسأل ميشى عن سبب هذه الحروق.. إذ لا يوصل السؤال إلى شئ وإن كنت قد خمنت أنها أصيبت فى غارة على طوكيو.. فى الحرب الأخيرة..

وقد تأكد لى ذلك دون أن أوجه سؤالا مباشرا لشخص بعينه..

وكان ميشى يغمض عينيه كعادته.. والدورق الخزفى الممتلئ بالساكى أمامه.. والسيجارة بين أصابعه..

وكان ينسى كعادته أنى لا أدخن ويخرج العلبة ليقدم لى سيجارة ثم يستدرك.. فيغمض عينيه وهو يضحك..

ولم أكن أدرى فى أى مكان فى طوكيو مرقده.. وكان كواحد من التسعة الملايين التى تتحرك مع العجلة الدوارة..

ولقد مزقت الحرب أوصالهم.. ولكنها لم تقتل روحهم.. ولم تغير شيئا من فتوتهم الجبارة..".

ويقول الراوى فى نهاية القصة:

"وكانت المدينة الكبيرة تظل هادئة فيما خلا يومى السبت والأحد حيث يخرج جنود الاحتلال من معسكراتهم أو يطيرون إليها من قواعدهم...

ومع أننا كنا بعيدين عن قلب العاصمة ولكن جاء فوج منهم فى الساعة الثامنة ليلا وقرع باب النزل فردوهم من الباب..

وكانت السيدة لا تقبل الجنود فى النزل قط ولا تدخل أحدا منهم.. ولقد تبينت السبب فى وجود اليابانى العملاق فى هذه اللحظة فإن كل من يأتى كان يدفعه إلى الخارج دفعا فى قوة وصرامة.. وحتى الساعة الثانية عشرة عند منتصف الليل لم يكن قد طرق باب الفندق طارق جديد..

وكانت الفتيات قد ضممن أطراف أرديتهن.. وذهبن إلى الفراش.. وبقيت السيدة المديرة قليلا وكانت آخر من يدخل غرفته..

وظل العملاق فى مكانه هادئا يرقب الباب..

وكان المستر ميشى.. قد ثقل رأسه من الساكى وأغلق عينيه كعادته ولعله كان ينتظر.. صفير المترو لينهض..

وبرز شئ فى المدخل أحدث ضجةهائلة قطعت هذا السكون فقد دفع الباب فى عنف .. ثلاثة جنود من الأمريكان ومعهم فتاة أمريكية طويلة ولها ساقان أطول من ساقى الزرافة..

وتحرك العملاق.. ليصرفهم كعادته بالحسنى فنحوه عن الطريق.. وحاولوا الولوج إلى الداخل.. فوقف فى طريقهم.. وحدث اشتباك رهيب.. وأمسك العملاق بعنق واحد منهم وضغط عليه.. ثم حركه فأخرج أحد العساكر.. خنجرا وطعن العملاق.. فى صدره وصرخت الآنسة وتقدمت نحو العسكرى.. فأسرع إليها شاهرا خنجره..

وفى أثناء هذه اللحظة الرهيبة دوت طلقة وسقط الجندى.. ولمحت المستر ميشى فى مكانه بعد أن أطلق النار.. يضع فى جيبه شيئا وكان نفس العلبة التى اعتاد أن يقدمها لى دائما كمحفظة للسجائر..

وتجمع العساكر الأمريكان عليه وطعنوه بالخناجر فسقط فى مكانه..

وكان ينظر إلى المديرة.. بعينين تفيضان بالحب الدفين..

وانحنت المديرة عليه وأخرجت المسدس سريعا وناولته لى فوضعته فى جيبى فى خطف البرق.. وأدركت براعتها فى هذه الحركة..

وعندما قدم البوليس وفتش المكان.. ظللت أنا فى غرفتى.. ولم يدخل على أحد..

وأحسست بعد ساعة بالهدوء.. وعلمت أنهم خرجوا وحملوا معهم الجرحى.. وسمعت بأقدام المديرة.. ورأيتها تدخل على الغرفة.. وكان وجهها ساكنا.. وقد أدركت من عينيها أن ميشى لم يمت ولكنه سينتهى فى ساعات..

وقلت لها:

ــ سنذهب لزيارته معا فى المستشفى غدا..

فقالت:

ــ نعم سنذهب.. معا.. وسأعرفه بما فعلته..

ــ إننى لم أفعل شيئا..

ــ لقد فعلت الكثير..

وتناولت يدها فى غمرة عواطفها لأقبلها..

ولكننى لم أفعل ذلك بل اقتربت من خدها وشفتيها وأنا أضمها إلى صدرى وكانت شفتاى فوق الشىء غير الحى ولكننى أحسست بالحرارة النابعة من القلب..

وفاضت عبراتها.. وهى بين ذراعى.. فما أحسب إنسانا ضمها هذه الضمة.. منذ وقع لها الحادث الرهيب وقد شعرت فى هذه اللحظة أنها استردت حياتها كأنثى...

وفى قصة "فتاة من جنزا" يقول الراوى أنه تعرف على مستر تاكاشى بعد أن انتشله من أمام آلة القمار قبل أن يفقد كل ما معه من القطع البرونزية ذات العشرة ينات التى يسقطها فى الآلة دون أن يكسب شيئا، وأراد أن يجازيه على صنيعة وكان قد شعر بالجوع، فطلب منه أن يشربا كأسين من النبيذ ويأكلا شيئا، وعلى مائدة العشاء يقول الراوى:

"وسألت تاكاشى على الطعام:

ــ هل هذا هو المكان الوحيد الذى يلعب فيه مثل هذه اللعبة فى طوكيو..؟

ــ إنه أشهر مكان..

ــ وهل تلعب فيه كثيرا..؟

ــ إنى دائم التردد عليه.. بعد قنبلة نجازاكى..

وعلا وجهه السهوم فأطرق وهو يدير الكأس بين يديه..

ثم استطرد:

ــ وجدته المكان الوحيد الذى أقضى فيه الليل.. مستغرقا وملتذا باللعبة نفسها.. ولم يكن فى مقدورى أن أفعل شيئا آخر..

ــ هل خسرت تجارتك فى الحرب..

ــ فقدت زوجتى.. وكانت كل شىء بالنسبة لى.. عروس فى شهرها الثانى.. ولم تصب بإصابة مباشرة ولكنها عانت من تأثير صدمة نفسية قاسية.. وعاشت أسبوعا فى عذاب لا يوصف ولا يحتمله بشر ثم ماتت فى ساعة رهيبة وأنا الآن أجتر الذكريات..

ــ وما زلت تذكر الحادث..؟.. رغم مرور كل هذه السنين..؟

ــ أجل كأن الأمر حدث بالأمس ولا زال فى أذنى الدوى المرعب.. ولقد تعذبت المسكينة طويلا وكانت أنضر من رأيت من النساء.. هل شاهدت (الكوين بى) ورأيت البنات الجميلات هناك فى هذا المرقص..

ـ أحلى بنات طوكيو..

ـ ولكن زوجتى كانت أجمل من هؤلاء جميعا.. لم يكن هناك من هو فى مثل جمالها ونضارتها..

ولقد حصلت معها على أكثر مما حلق له خيالى.. عرفت طعم الحب.. وطعم السعادة.. تزوجنا على حب ملتهب جارف.. ثم أنبت هذا كله.. وأنسلخ فى لحظة دامية..

ولقد أحسست بعذاب لا يوصف.. فكنت أهيم على وجهى فى الليل كالضال.. وأخيرا اخترت هذا المكان.. لأنسى نفسى.. وأنسى الحرب.. والذين يصنعونها..

وسألته:

ــ وهل نسيت..؟

فوضع الكأس:

ــ أحاول أن أنسى.. وإننا لا نقاوم الشر.. بل نغذيه.. والحرب من صنع أيدينا نحن البشر.. وعلى الطبقات الكادحة من الشعوب فى العالم كله يقع العبء الأكبر فنحن الذين نصنع القنابل والمتفجرات بأيدينا.. ولذلك نتلقى كل ويلاتها..

ــ وماذا تفعل إذا اعتدى عليك مثلما اعتدى علينا..؟

ــ أين..؟

ــ فى حرب السويس..

ــ هذا شيء آخر.. هل أنت مصرى..؟

ــ أجل.. ولقد هوجمنا غدرا.. ولم نكن نفكر فى الحرب إطلاقا..

ــ إن الموقف هنا يختلف.. وفى هذه الحالة نقاتل إلى آخر رمق ويقاتل معنا حتى الأطفال وأنت تعرف أن العالم كله كان معكم.. فى ذلك الوقت..

وسألنى بعد أن فرغنا من الطعام وأشعل لنفسه سيجارة:

ــ هل اشتركت فى هذه الحرب كمقاتل..؟

ــ كنت فى الدفاع المدنى.. ولكنى لا أعصم نفسى من القلق.. كنت أفكر فى مصير الأسرة بعد أن يذهب عنها الرجل الذى يعولها..

ــ هذا إحساس طبيعى.. إحساس كل إنسان مقاتل.. وكل ما نرجوه هو الاشتراك فى حرب أخرى.. وأن تعيش البشرية فى سلام..

ونظر إلى الفتاة.. وهى تقدم لنا القهوة وسألنى:

ــ جميلة..

ــ غاية فى الجمال.. والدماثة..

ــ وطوكيو..؟

ــ إنها أجمل المدن على الإطلاق..

ــ تصور هذا الجمال كله.. عندما يذهب به صاروخ واحد.. فى ليلة عاصفة..

ــ إن هذا محزن حقا..

ــ والتفكير فيه جنون مطبق.. ولماذا يعيش الناس على هذا الجنون.. وهذا القلق المدمر..

ــ والخوف من الحرب هو الظاهر فى عصرنا..

وقال تاكاشى:

ــ هذا صحيح إن القلق طابع العصر حقا.. وهو الذى يدمرنا.."

والرجل اليابانى الذى فقد بصره فى الغارات المدمرة على طوكيو وليس له معاش، وخرجت ابنته الشابه الى الطريق تعمل صباحا ومساء فى الملاهى والبارات.. وتشاء الظروف أن يدخل الراوىالمكان الذى تعمل فيه ويجلس معها.. ودار بينهما الحوار الآتى فى قصته "الصورة الناقصة"

ــ هل أطمع فى جولة حول المدينة بصحبتك غدا..؟

ــ آسفة لا أستطيع..

ــ وكيف أراك..؟

ــ هنا فقط..

ــ إن بلدتكم جميلة.. لا يشبع الإنسان من جمالها..

وهنا رن صوت..

ــ إنك لم ترها وهى مضروبة بالقنابل.. كانت حطاما.. ضربها الأنذال بكل ما لديهم من قوات الجو..

وتلفت فوجدت الرجل الذى كان يسمر هناك فى الظلام.. ولقد نسيته.. وكان يتكلم الإنجليزية بطلاقة..

ــ إن هذا كان ردا على بيرل هاربرد.

ــ لا.. إنك لم تر طوكيو.. فى ذلك الحين.. لم يحدث لمدينة كما حدث لها من الضرب الوحشى المركز..

ــ ولكنها الآن تبدو كأجمل الحسان..

ــ بقوة سواعدنا بنيناها من جديد.. إن طوكيو.. هى اليابان كلها.. هات كأسا للسيد ياهينا.. ولنشرب نخب طوكيو.. ونخب الشرق كله..

فرفعت الكأس إلى شفتى ورفعته الفتاة.. وكانت تبتسم.. وقبل أن ينصرف الرجل انحنى لى ثلاث مرات.. فنهضت عن الكرسى وأخذت أرد له التحية بعدد انحناءاته..

وأخذ الراوى يفكر بعد أن رسم الفتاة وهى لابسة الكومينو مقابل خمسة آلاف ين، يفكر فى صورة يضع فيها كل روحه وفنه:

وجاءت فى اليوم التالى فى الميعاد.. وجلست أرسم بسرعة.. حتى أتممت الصورة..

وقلت وأنا أضع الفرشاة جانبا..

ــ هل تساعدينى على أن نكمل هذا العمل.

ــ كيف..؟

ــ أريد أن أرسمك على الطبيعة.. ولا أحد سيراها هنا.. لأنى سأحمل الرسم معى.. ولا أحد يعرفك هناك..

ــ لا تقل هذا.. لقد خاب ظنى فيك.. هل أنا محترفة..؟

ــ العفو.. إننى أريد أن أرسم عذراء.. وأرسم الخفر الذى على وجهها.. والخجل الذى فى عينيها.. وأنا أراها عارية.. أربد أن أرسم هذا.. وهذا لا يأتى إلا منك.. فلا تحرمينى من هذه المنحة..

ــ هناك كثيرات صنعتهن هكذا.. فاذهب إليهن..

ــ لا.. أنا لا أريد محترفة.. أريدك أنت وسأعطيك عشرة آلاف ين.. لجلسة واحدة.. وأغمضت عينيها فى غمرة الانفعال تناولت يدها وقبلتها.

وهمست..

ــ سأنتظرك غدا..

ــ سأجىء يوم الخميس..

وخرجت ونسيت أن تأخذ الكومينو معها.. فضممته إلى صدرى..

وفى يوم الخميس جاءت.. وكان العذاب الأكبر لى ولها لأنها رفضت أن تقف عارية تماما.. ورأيت أن أضع غلالة رقيقة على جسمها فى هذه الجلسة.. لأتفادى غضبها وليكون وجهها طبيعيا ومشرقا.. وأرسم فى هذه الجلسة وجهها وجيدها وكتفيها.. وفى الجلسة المقبلة تكون قد اعتادت وأرفع الغلالة وأكمل الصورة..

وفعلا رسمت نصفها.. وخرجت مسرعة على أن تعود بعد يومين لتكمل الصورة وتأخذ العشرة آلاف ين..

وفى الصباح كنت أتجول فى المدينة.. وخرجت إلى حديقة مشهورة.. فرأيتها بصحبة رجل أعمى فى ممشى الحديقة.. وكان واضحا أنه والدها.. وبعدت عنها حتى لا ترانى..

وذهبت إلى المشرب فى مساء اليوم نفسه.. فاستقبلتنى باسمة.. وقلت لها قبل أن أجلس..

ــ لقد رأيتك فى الصباح فى الحديقة..

ــ أعرف هذا وكنت أود أن أحدثك ولكنك زغت..

ــ والآن أنا أريد أن أشرب كوكاكولا.. أو عصير الليمون..

ــ إن فعلت هذا سأطرد من هنا..

ــ وماذا يحدث لو طردت..؟

ــ سيموت أبى من الجوع..

وأخضلت عيناها بسرعة.. ونظرت إليها ثم أطرقت.. وفى يدى السيجارة..

وقالت وهى تبلع عبراتها..

ــ أصيب أبى بالعمى فى الغارات المدمرة على طوكيو.. وأمى عجوز فوق الستين.. وليس لنا معاش.. أو أى شىء نعيش منه.. ولهذا أنا أعمل فى الصباح والمساء فى مطعم أوتاكا وفى الليل أجىء إلى هذا المشرب.. لأوفر لأبى مبلغا من المال.. ليسافر به.. إلى موسكو.. وهناك يسترد بصره فى معهد " فيلاتوف ".. ولقد وفرت مبلغا، والخمسة آلاف التى أخذتها منك مع العشرة آلاف التى سآخذها غدا، أكملت ثمن التذكرة وعجلت بسفره إلى هناك.. فأنت الآن إنسان لا ينسى.. جزء من حياتى وسعادتى..

وشعرت بقلبى يتمزق.."

ويصور المقاومة الباسلة التى أتصف بها الرجل اليابانى فى مقاومته للاحتلال الأمريكى، وهى مقاومة جماعية تشمل جميع فئات المجتمع اليابانى وجميع طبقاته.، خلال شبكة معقدة، وخلال شخصيات متعددة، كل منها تقوم بدور البطولة فى سلسلة الأحداث المتشابكة.. فيقول فى قصة "الحقيبة":

مقاومة الاحتلال الأمريكى فى اليابان

الحقيبة

قصة محمود البدوى

دخلنا فى عاصفة عاتية قبل أن نبلغ طوكيو..

وأخذت الطائرة الضخمة تتأرجح وتلعب بها الأنوار..

وكان بجوارى راكب من سنغافورة.. لم يستطع أن يصمد فى كرسيه فأخذه القىء.. وخشيت أن تصيبنى عدواه.. بعد أن أصبحت المضيفات الثلاث عاجزات عن إسعاف الركاب لكثرة من أصيب منهم بالدوار فى ساعة واحدة..

فتحركت من مكانى إلى أربعة صفوف أمامية فى الدرجة السياحية.. كانت خالية تماما من الركاب..

واسترخيت على الكرسى الطويل.. معلقا عينى بعد أن أغلقت أزرار المصابيح المضاءة فوق رأسى.. وزر مكيف الهواء أيضا.. فقد كنت أود أن أنام.. وأغيب عن وعيى حتى تنجلى العاصفة.. ولقد أفلحت فى هذه المحاولة فعلا وانقضت فترة طويلة وأنا لا أحس بشىء مما يجرى حولى.. ثم فتحت عينى فوجدت المكان قد شغل براكب آخر.. ولعله آثر أن يفعل كما فعلت.. ولكنه لم يكن فى مثل حالى..كان متيقظا تماما وليس على وجهه أى أثر للإعياء..

ولما رآنى أفتح عينى وأحدق فيه برهة قال بإنجليزية فيها لكنة.. لقد مرت العاصفة..

وأشار إلى اللافتة المضيئة التى تحمل فى مضمونها هذا النبأ.. والتى تعلن فك الحزام الذى يربطنا بالكرسى..

وقدرت من جلسة الرجل وملامح وجهه أنه صينى من هونج كونج أو تاجر من أهل سيام.. ذاهب فى مهمة إلى طوكيو.. ثم ظهر لى من حديثه أنه يابانى من سكان طوكيو نفسها وأنه كان فى مهمة فى الخارج وعاد إلى وطنه.

ولما علم أننى مصرى فى رحلة سياحية إلى طوكيو.. تهلل وجهه.. وقال:

ـ لقد تخلصتم من الاحتلال الإنجليزى بضربة قوية.. وسنفعل مثلها لنتخلص من الأمريكان..

ـ إن شعبكم قوى ولا يمكن أن يرضى بأى احتلال..

ـ لقد فرضته علينا الحرب.. وهذا أشد شر فيها..

وانطلقنا فى فنون الأحاديث.. وكلما مرت دقيقة ازداد الرجـل مودة لى وألفة.. وطلب من المضيفة كأسين من النبيذ..

ثم أخذ يقص علىّ سيرة حياته ويفتح لى من طوايا نفسه.. حتى علمت منه أنه عضو فى جمعية لمقاومة الاحتلال الأمريكى لليابان، وأنه كان فى مهمة خطيرة ويحمل معه فى هذه اللحظة حقيبة صغيرة.. وفيها أشياء لو ضبطت معه سيعدم..

وسألته:

ـ أين هى؟

ـ هناك على الرف..

وأردف ببساطة:

ـ هل يمكن أن تحملها عنى.. إنى أنمر فيك مذ ركبنا الطائرة.. ولن يفتشوك فى الجمرك ولن يفتحوا حقائبك اطلاقا..

ـ وإذا فتحوها..

ـ لن يمسوا منك شعرة.. لنا وسائلنا..

ـ ما دامت الحقيبة تساعد على انهاء الاحتلال فى اليابان.. فإنى احملها كجندى متطوع..

فتهلل وجهه أكثر.. وقال بابتهاج:

ـ هذا ما قدرته.. إنك باسل..

وأعطانى بطاقة فيها العنوان الذى أحمل اليه الحقيبة.. إذا حدث شىء يمنعنا من المقابلة فى بوفيه المطار.. بعد أن تتم جميع الإجراءات.. وطلب كأسين من النبيذ..

وناولنى الحقيبة ولم تكن عليها أية بطاقة فوضعتها بجانبى ببساطة..

والواقع أننى كنت أتصور أن المسألة سهلة.. ولكن لما هبطت الطائرة على الأرض وأمسكت الحقيبة فى يدى شعرت برجفة هزت كيانى كله.. ولم تكن ثقيلة ولكننى أحسست بها تخلع كتفى..

وكان معى حقيبة أكبر منها على الرف ومعطف.. فاضطررت أن أرتدى المعطف مع أنه لم يكن هناك برودة.. لأستطيع أن أحمل الحقيبتين..

ونزل مسيو كوجا أمامى على سلم الطائرة.. ونزلت وراءه.. ولكنه اختفى عن نظرى..ثم ظهر مرة أخرى فى صالة المطار الكبرى عندما اجتمع جميع الركاب.. وأخذ موظف فى المطار.. ينادى الركاب بأسمائهم وشعرت بالاضطراب الشديد وأنا واقف وحدى.. وقلت لنفسى من يدرى.. لعل الرجل خدعنى بالحديث الوطنى وأشعل فىّ النخوة.. وهو فى الواقع ليس أكثر من مهرب وليس فى الحقيبة سوى مهربات جمركية.. عملة مهربة أو جواهر ..وإذا ضبطت ستكون فضيحة لى.. لقد البسنى الرجل التهمة بكل بساطة وهرب.

وظللت فى دوامة عاصفة من الخواطر أكثر من ثلث ساعة.. وأنا جـالس فى صالة المطار..

ورأيت أن حركة انجاز أوراق الركاب تتم ببطء ودقة.. مع أننا لم ندخل منطقة الجمرك بعد.. فكيف إذا دخلناها.. وندمت على تسرعى.. وبحثت عن الرجل لأرد له الحقيبة ولكننى لم أجده فقررت أن أتركها.. بجانب الكرسى..

ولكن عندما دخلت من باب الجوازات كانت فى يدى وتركت الأمر للمقادير تفعل بى ما تشاء..

ولما دخلت المنطقة الجمركية بعد إجراءات طويلة معقدة.. وجدت حقائبى كلها قد أخرجت من الطائرة ووضعت داخل الحاجز الجمركى مع حقائب الركاب..

وكان موظفو الجمارك فى الناحية المقابلة لى يفتشون حقائب أخرى.. ولاحظت أنهم يفتشون كل حقيبة تفتيشا دقيقا..

وجاء دورنا.. رفعوا حقائبنا عن الأرض ووضعوها على الطاولة المستديرة.. ولكننى بقيت فى مكانى لم أتحرك.. ظللت بعيدا وعقلى يشتغل بسرعة..

وعندما جاء فوج من الأجانب وقدرت أن فيهم بعض الأمريكان وقفت فى زحمتهم وحقائبى كلها وسط حقائبهم ولاحظت أنهم يفتحون جميع الحقائب ويفتشونها بدقة ويسألون دائما عن السجائر والويسكى..

وهنا أخرجت المفاتيح من جيبى وفتحت جميع الحقائب بما فيها حقيبتى الصغيرة التى كانت فى يدى.. وأبقيت حقيبة الرجـل تحت الحاجز الخشبى بين رجلى..

وجاء الموظف وفتش حقيبة من حقائبى فقط ثم شغل بمشادة بين زميل له وأحد الركاب وكان قد وجد فى حقيبته سجائر لم يخطر عنها.. وعلا صياح الراكب وتجمع حوله الركاب.. ولما عاد الموظف إلى مكانه.. نظر إلى حقائبى المفتوحة..

وقال:

  يمكنك أن تغلقها..

ورأيته قد استدار ليختم مشط سجائر وجده فى بعض الحقائب.. وأخذت أغلق حقائبى.. وأنا أرقبه.. رفعت حقيبة الرجل ووضعتها وسط الحقائب المفتشة دون أن يلحظ ذلك أحد.. وقفز قلبى وأنا أفعل ذلك.. وتصبب العرق..

ولكن لما وجدت أن أحدا لم يشاهد هذه الحركة طرت من الفرحة..

وسألنى الرجل عندما واجهنى مرة أخرى..

ـ كم حقيبة معك..؟

ـ سبعة..

ـ وفتشت كلها..؟

ـ أجل..

ـ وليــس مـعك سجائر.. ولا ويسكى.. ولا أى شىء ممنوع..؟

ـ إطلاقا..

وكان فى أثناء كلامه يضع العلامة على كل حقيبة بالطباشير ثم توقف.. وكأنه ارتاب فى حقيبة الرجل.. فنظر اليها قليلا بامعان..

ثم سألنى:

ـ وهذه هل فتشت..؟

ـ أجل.. هل أفتحها مرة أخرى..؟

ـ أظن أنه لا داعى..

ووضع العلامة على الحقيبة بالطباشير..

حدث هذا فى سرعة رهيبة.. وكأنما فك حبل المشنقة عن عنقى..

وتركت الموظف يشير بيده للعمال الذين وضعوا الحقائب كلها على السلم الكهربى.. ليذهب بها سريعا إلى خارج حاجز الجمرك..

واتجهت إلى السلم الذى سيقودنى إلى الخارج وأنا شاعر بفرحـة كبرى.. وقبل أن أبلغ آخر درجة.. رأيت كوجا يسير أمامى.. ولكنه لم يكن وحده كان بجانبه اثنان من البوليس الحربى الأمريكى وجنديان يابانيان وكانوا جميعا يحملون المدافع الرشاشة.. وأدركت أنه وقع فى أيديهم..

وأسرعت خلفهم.. حتى رأيتهم يدخلونه سيارة مغلقة.. ومضوا به سريعا..

وشعرت بشىء ثقيل يضغط على قلبى ويكتم أنفاسى.. وعدت إلى الداخل وأنا أخرج من قاعة وأدخل أخرى.. كأنى أدور فى بيت جحا.. حتى وجدت نفسى فى القاعة الكبرى المعدة لراحة المسافرين..

وجلست على كرسى جلدى وأغلقت عينى.. نصف دقيقة ولما فتحتها كنت أنظر بقوة إلى اللوحة المضيئة لمدينة طوكيو والسهام النارية التى تنطلق منها إلى جميع أنحاء العالم..

وأخذت أفكر فيما أفعل بالحقيبة بعد أن قبض على صـاحبها بسرعة فائقة.. ورأيت أن ألحق سيارة شركة الطيران قبل أن تتحرك من المطار.. بدلا من ركوب تاكسى إلى الفندق..

وأخرج عمال الشركة حقائبى ووضعوها فى السيارة.. وحملت حقيبة الرجل فى يدى ودخلنا فى المدينة الحالمة ذات الأنوار على الجانبين والسيارات تنطلق كالسهام..

وأنسانى جمال المدينة.. وجمال النساء فى الكومينو.. ونظافة الشوارع.. وبهجتها كل ما يتعلق بالحقيبة.. واخترت غرفة فى الدور السابع فى الفندق لأكون بعيدا عن زحمة النـزلاء الذين يتركزون عادة فى الأدوار السفلى.. ولأبعد أيضا عن ضجيج المدينة التى تظل ساهرة إلى الصباح..

وتعشيت فى الفندق وخرجت إلى المدينة أمشى كما أتفق مستعرضا واجهة الحوانيت..

ولم يكن الجو شديد البرودة.. وكنت أرتدى المعطف.. وقد ساعدنى هذا على أن أتجول أكثر وأكثر.. وكان عقلى فى الواقع يشتغل وأنا لا أدرى ويحاول أن يبعدنى عن مكان الحقيبة..

وجذبتنى الأنوار البراقة فى ملهى على شكل سفينة قريبا من محطة شمباسى فاتجهت نحوه وبجوار كشك التذاكر وجدت ثلاث فتيات يرتدين فساتين سواريه وصدرهن العارى يبرز كل مفاتنهن..وتطلعن إلى وجهى.. ووجدت واحدة منهن تعرف الإنجليزية فشرحت لى نظام السفينة..

وحجزت "كمرة" بألفين فى الدرجة الأولى.. وصعدت مع الفتاة إلى الأدوار العليا..وفى ممشى السفينة الدائرى.. فتحت لى بابا صغيرا.. وأصبحنا وحيدين فى غرفة صغيرة أنيقة على شكل الكاميرا فى عابرات المحيط..

وكان لابد أن نشرب شيئا وكل كأس بألفين..

وسألت الفتاة عن الشراب الذى ترغبه فرفضت وقالت إنه لا داعى لأن تشرب هى.. وتحت الحاحى قبلت أخيرا.. وطلبنا كأسين من الويسكى.. ولاحظت ساسا بعد أن فرغنا الكأسين.. أنى شارد الذهن..

فسألتنى:

ـ ما بك..؟

ـ لا شيء..

ـ ألا أروقك..؟

ـ بالعكس أنت فتنة فى النساء..

وكان الموقف الطبيعى يقتضينى أن أعانقها وأشرب من رحيـق شفتيها.. ولكننى جلست جامدا ولم تبد منى أية حركة..

ولما حركتنى بسؤالها.. اكتفيت بأن مددت ذراعى الأيمن إليها وطوقتها.. وأخذت أمسح بيدى على ذراعيها.. فاستراحت إلى هذه الحركة وأخذت تديم النظر إلى وجهى الجامد.. فابتسمت وطلبت من الساقية كأسين آخرين..

وفى خلال الشراب حدثتها بصراحة عن الحقيبة وما حدث من القبض على صاحبها فى المطار..

ورأيت سحنتها تتغير.. كأنما أصابتها رجفة.. ثم عادت إلى امتلاك أعصابها..

وسألتنى:

ـ فى أى فندق نزلت..؟

ـ يوكاهاما.. غرفة 703

ـ إنه بعيد جدا عن هنا..

ـ نصف ساعة بالسيارة..

ـ لا.. أكثر من ذلك.. اذهب فى الحال وابعد هذه الحقيبة عن غرفتك..

ـ وأين أذهب بها..؟

ـ أترى هذه الترعة.. القها فيها.. أو فى أى مكان من السهل أن تتخلص منها.. لأن هذا يسبب مشكلة..

ـ ربما يكون الرجل مهربا.. وفيها جواهر

فضحكت.. وقالت

ـ لا داعى لأن تمزح.. أسرع وتخلص منها..

ـ ماذا تصورت فيها..

ـ ديناميت.. خرائط.. تصور معسكرات الأمريكان وأماكن احتلالهم فى طوكيو وغيرها.. أنت سائح مسكين.. وستعدم دون ذنب..

فارتجفت..

وسلمت عليها وهرولت إلى الخارج..

وركبت تاكسى إلى الفندق وقال لى موظف الاستقبال بأدب زائد.. وأنا أتناول منه المفتاح..

ـ هل يمكن.. أن تنتظر لحظة يا سيد بدر الدين..

ـ لماذا..؟

وقد أحسست بالعاصفة تقترب..

ـ الظاهر أنه حدث سوء تفاهم منذ القبض على كوجا فى المطــار.. يريدون فقط أن يسألوا الركاب الذين كانوا معه..

ـ إن هذا حماقة..

ـ إنهم حمقى هؤلاء الأمريكان..

وقلت لنفسى أننى أكثر حماقة لأننى مراقب منذ غادرت المطار والعيون ورائى فى كل خطوة.. وأنا لا أدرى..

وسألته ببلاهة..

ـ وكيف عرفوا مكانى..؟

فقال ببساطة:

ـ إن شـركة الطيران.. وزعتكم على ثلاث فنادق معروفة..

وأدركت مبلغ حماقتى لأنى ركبت عربة الشركة.. فطوكيو مدينة ضخمة كالمحيط وكنت أستطيع أن أغوص فى أعماقها ولا يعرف أحد مكانى لو لم أركب عربة الشركة وأجعل الخيوط فى أيديهم..

ولمحت ثلاثة رجال فى ملابس مدنية يتقدمون نحوى ببطء.. وكنت أود أن أمرق كالسهم من الباب الدوار وانطلق بأقصى سرعة ولكننى استبشعت هذه الحركة فى فندق كبير كهذا..

وقال لى أطولهم وهو الأمريكى حتما:

ـ هل يمكن أن نلقى نظرة على غرفتك..؟

فاستبسلت وسألته بصوت قوى ضخم فيه لهجة الاستنكار..

ـ لماذا..؟

ـ إن هناك حقيبة مغلوطة فلتت من المطار..

وفى تلك اللحظة كان من السهل علىّ جدا أن أقتل أى واحد منهم لو كان معى سلاح..

ومشينا صامتين إلى المصعد.. وفى الطرقة الطويلة تقدمتهم إلى غرفتى.. وأعطيت فتاة لطيفة من عاملات الفنـدق المفتاح لتفتح لهم الباب.. لأتفادى رعشة يدى وأنا أدير القفل..

وفتحت الفتاة الباب ودخلوا ودخلت معهم وأنا أحس بقلبى قد توقف عن الخفقان..وعندما توسطت الغرفة انتابنى إحساس من البلادة وفقدان الحساسية عجبت له وأدركت أنه نفس الإحساس الذى ينتاب من يصعد سلم المشنقة..

ولكن عندما وقع نظرى على الحقائب عاد إلى الإحساس بالموقف أشد وأعظم واضطربت جدا.. ثم كادت أن تفلت من فمى صرخة مدوية صادرة من الأعماق.. فقد اختفت حقيبة الرجل من الموضع الذى وضعتها فيه.. وبحثوا فى كل ركن فلم يجدوا سوى حقائبى.. وفتحتها جميعا وجعلتها تحت أنظارهم وحيوا وانصرفوا..

وودعتهم على باب الغرفة مزهوا..

وجلست بعد أن ذهبوا أستريح وأشرب القهوة وأنا أفكر فى الملاك الذى طار بالحقيبة فى اللحظة الحاسمة..

ونمت نوما عميقا..

وفى الصباح خرجت أتجول فى المدينة وقد كف ذهنى عن التفكير فى اختفاء الحقيبة وقد عللته بأى سبب.. ربما تكون إدارة الفندق قد عرفت الحقيبة لأنها الوحيدة التى لا تحمل بطاقتى فانتزعتها من الحقائب بسهولة وخلصتنى من شرها..

ونسيت الأمر كلية..

وفى الليل ذهبت إلى ملهى السفينة.. لأرى ساسا.. وقالت وأنا داخل عليها وقد أشرق وجهها..

ـ جئت مرة أخرى..

ـ بالطبع..

ـ لماذا..؟

ـ لأنى أحبك..

ـ أوه ما أكثر ما سمعت هذا الكلام.. ولماذا تحبنى..

ـ لأنك جميلة..

ـ ما أكثر الجميلات فى طوكيو..

ـ الواقع أننى عاجز عن التعبير.. لا يوجـد سبب ملموس لحبى.. هناك ما هو أعظم من الجمال ومن الصفاء اللذين فيك..

ـ هذا أحسن.. والمهم هل عثروا على الحقيبة..؟

ـ أبدا.. لقد اختفت من الغرفة..

ـ اختفت..؟

وضحكت بخبث.. وعلمت منها ما حدث.. خشيت ألا أصل إلى الفندق فى الوقت المناسب.. فاتصلت فى الحال تليفونيا بالطابق السابع الذى فيه غرفتى.. وكانت تعرف هناك فتاة من العاملات تدعى نيدا وحدثتها بأمر الحقيبة وطلبت منها أن تخرجها من الغرفة فى الحال.. وكان من السهل أن تستدل نيدا على الحقيبة لأنها الحقيبة الوحيدة التى لا تحمل بطاقة وعليها كتابة باليابانية فأخرجتها فى الحال..

ـ وأين هى الحقيبة الآن..؟

ـ فى مكان ما..

ـ هل عرفت أنهم فتشوا غرفتى..؟

ـ أجل.. وكنت أقدر هذا ولذلك أخفيت الحقيبة..

ـ إن هذا عمل عظيم لن أنساه لك..

ـ لا داعى لمثل هذا الكلام..

ونظرت إلىّ فاحتضنتها.. وأنا أقول..

ـ لابد أن أحمـــل الحقيبة إلى العنوان الذى تركه لى الرجل..

ـ ليس من الضرورى الآن انتظر أسبوعا..

ـ لابد من هذا سريعا..

ـ انتظر أسبوعا.. وسأذهب معك..

ووافقتها على ذلك..

ومر أسبوع.. واتفقنا على أن نتقابل فى محطة من محطات المترو الذى تحت الأرض.. وتكون معها الحقيبة.. ونركب من هناك إلى المكان الذى عينه لىّ الرجل..

وفى الموعد المحدد انتظرتها.. وجاءت رشيقة جميلة وبيدها الحقيبة وأخذتها منها.. وذهبنا نضع بضعة ينات فى الآلة الأوتوماتيكية.. وتناولت نيدا التذكرتين..

وفى أثناء دورانى فى فناء المحطة المسقوف رأيت رجلا عرفته من عينه وكان هو كوجا بعينه وكان يرتدى معطفا سميكا ويضع على عينيه منظارا أسود.. وبيده عصا وعلى رأسه قبعة عريضة.. وكان مشوش الهندام غير حليق على غير ما عهدته فى الطائرة..

وبحركة سريعة تناول منى الحقيبة وشد على يدى وهو يقول:

ـ كنت أعرف أنك ستأتى بها.. إنك شجاع.. لقد أعدت إلى قلبى.. وأقبل المترو.. فأخذها ومضى..

وقلت لساسا وأنا أصعد بها سلم المحطة..

ـ والآن أين نذهب..؟

ـ كما تحب..

ـ هل تذهبين معى إلى الفندق لنشكر نيدا على الأقل..؟

ـ فكرة رائعة..

وفى شارع جنـزا رأيت فى كشك صغير صورة كوجا.. فى صحف المساء وكان تحتها نبأ هروب بخط كبير..

ولما رأت ساسا الصورة ضحكت.. وضغطت على يدى..

======================


المرجع: كتاب "قصص من اليابان" من إعداد وتقديم واختيار على عبد اللطيف وليلى محمود البدوى ـ مكتبة مصر ط 2001

======================

ونتيجة لما قابله فى اليابان من شخصيات، وما واجهه فيها من أحداث.. ألهمته فى كتابة القصص الآتية:

* قصة "الصورة الناقصة" ونشرت فى صحيفة الشعب المصرية 16|11|1958

* قصة "الحقيبة" ونشرت بصحيفة الشعب المصرية فى 28|4|1958

* قصة "الجرس" ونشرت بصحيفة الشعب فى 26|5|1958

* قصة "حكاية من طوكيو" ونشرت بمجلة الجيل فى 12|1|1959

* قصة "اللؤلؤة" ونشرت بصحيفة المساء فى 8|4|1960

* قصة "الدليل" ونشرت بمجلة الجيل فى 19|8|1960

* قصة "فتاة من جنزا" ونشرت بمجلة آخر ساعة فى 21|6|1961

* قصة "الليل والنهار" ونشرت بمجلة آخر ساعة 16|5|1962

* قصة "وقفة فى جنزا" ونشرت بصحيفة التعاون فى 17|4|1966

* قصة "سأصنع له تمثالا" ونشرت بمجلة روز اليوسف فى 26|6|1972

* قصة "التفاحة" ونشرت بمجلة القصة أكتوبر 1980

* قصة "ليلة فى طوكيو" ونشرت بصحيفة أخبار اليوم فى 30|6|1984

* كتاب مدينة الأحلام ــ الدار القومية للطباعة والنشر ط 1963

=================================


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى