الأحد ٦ آب (أغسطس) ٢٠٠٦
بقلم زكية علال

من وحي العاصفة

يغرقني الطوفان والدم ، ولون السماء الذي فقد زرقته، وعبث به حمق البشر، ليأخذ لون الرماد العقيم… ينكسر صمتي على مرايا الموت الشاحب ، تتخرب خلايا السكينة في داخلي، ويستيقظ الخوف جبارا في دمي ، لأجد نفسي ، في زمن العري والعار –عارية إلا من فجيعتي التي تلبسني، أجوب الشوارع المتمردة والأزقة الخائفة، مكشوفة الرأس ، حافية القدمين، حتى ظفائري التي كانت تركض خلفي كلما رقصت فرحا، تمردت هي الأخرى ، وشدها الحزن إلى ظهري لتلتصق به في هدوء قاتل …
قذفتني الفجيعة على أول شارع، فخرجت امرأة يتقاذفها الدم والدمع، فالدم يرسم خارطة غامضة الحدود على جسدي ،والدمع ينحت تمثالا للضياع على وجهي الغائر في عمق الفجيعة .. كنت أسأل المارة بلهفة وحرقة :

 يا أهل المدينة .. لقد ضاع ولدي .. ولدي كان هنا على صدري ، يمرح في شرايين دمي .. ينام على عرش قلبي ويفصل أحلامه من بقايا ملاءتي السوداء البالية، لكنه ضاع .. ولد علمته كيف يخبئ وطنه في صدره عندما يخيم عليه الغروب أو الضباب. وعندما يأتيه الغثيان أو تداهمه شلالات الدم فضاع ولدي وفي صدره وطن .. يا أهل المدينة . من رأى منكم ولدا تائها يحمل في يده خبزا ووردة؟ ! !
وأقترب من باب المدينة أكثر، أتصفح قائمة التائهين . فقد تضاف أسماء أخرى قذفها الظلم في ظلمة المصير المجهول .. أقترب من القائمة أكثر فأكثر حتى كاد أنفي يلمسها، أمسح عيني الغائرتين بيدي المرتجفتين لأتأكد أني لم أخطئ في قراءة الإسم .. نعم .. إنه زوجي مصطفى في قائمة التائهين هذا المساء .. زوجي .. ضاع أيضا ..

وأصرخ بكل الوجع الذي يلبسني :
ثكلى ، وأرملة أنا .. يا وجعي .
وأهيم على وجهي في كل الأزقة ، أتسول نورا .. شمسا .. أملا ، ويردد الصدى صوتي و فجيعتي:
 يا أهل المدينة، من رأى منكم ولدا تائها، يحمل في يده خبزا ووردة ؟! !
استوقفني أحد المارة وقد رق لحالي وسألني :
 كيف هو ولدك ؟ ما لونه ؟
قلت له :
 إنه طفل يركض كالبرق خلف سراب اسمه المستقبل. طفل بلون القمح، ولد مع أول شتاء قاتل، وقذفت به مع أبشع عاصفة تقتلع المدينة، فتملكه الخوف، وبات جسمه يرتعش خوفا وبردا .. ولدي كان عائدا إلى البيت ، يتدحرج مع ما تبقى من أحلامه وبراءته ، لكن ابتسامته ضاعت منه .. رجع ليبحث عنها، فلم يعد ..
نظر إلي الرجل بإشفاق كأنه يخفي عني سرا، وراح يجري بعيدا عني، وكلماته تنزلق من لسانه باهتة حائرة :
 لا أعرفه .. لم أره .
وأعود مرغمة إلى تسولي :
 يا أهل المدينة ، من رأى منكم زوجي ؟! !
سألوني :
 كيف هو ؟!
قلت وصوتي يرسم تفاصيل قصة مبتورة :
 خرج هذا الصباح، وهو يحمل ثقل الأيام، وعلى وجهه كآبة المحن، ومع ذلك فهو زوج موسوم بالأمل .. في كل ليلة كنت أجمع أهدابي المتناثرة على وجه الحياة الرتيبة، وأغمض عيني في هدوء تام لأنام على حكاياه التي يختمها -دوما- بعبارة صرت أحفظها :"الصبر مفتاح الفرج .." –يا أهل المدينة .. أمي .. من رآها منكم – لا تسألوني عنها- إنكم تعرفونها جيدا، لا تجامل ، ولا تكابر ،ولا تتوقف عند محطة.
لم يجبني أحد ..لماذا كلما نظر أحدهم إلى وجهي ولى هاربا ؟! ! همس إلي رجل وانصرف مسرعا:
 إنك مخيفة وهذي الدماء تلون جسدك ! !
كم هو كثيف هذا الضباب الذي يغشى المدينة .. يا الله .. ما الذي يحدث ؟! جمع "من البشر يهرولون .. يتساقطون، يتهاوون كذباب عضه البرد بنابه، فأصبح لا يلوي شيئا .. ماذا حدث ؟
أمسكت رجلا من قميصه ، وسألته برجاء :
 أرجوك سيدي .. ما الذي يحدث بين أسوار المدينة؟ لماذا هذا النواح الآتي من كل الشوارع، والذي يطل بعنقه من كل النوافذ والشرفات ، هل هو زمن الإستبداد ؟!
صفعني الرجل بقوة وزمجر غاضبا :
 اسكتي، لقد نطقت تمردا .
نهضت أتكئ على ما تبقى من قوتي وصبري، وسألت أول من إلتقته عيناي وأنا أرفع وجهي عن الأرض :
 سيدي- ما هذا الصراخ الذي يتمدد صداه في كل القلوب ، هل هو زمن الردة ؟! لم أكد أنتهي عند آخر حرف حتى أهداني الرجل صفعة طرحتني أرضا وقال :
 اسكتي ، لقد نطقت كفرا .
و أنهض .. أجمع قوتي التي انفرطت مني وتدحرجت ، لتسوقني إلى جثث تتزاحم على الرصيف، اقتربت منها .. تفحصتها : هذا وجه زوجي . وقد تمدد الفرج على ملامحه الساكنة مهزوما .. مقهورا .. هذه جثة ولدي التائه متوسدا "خبزا" ووردة، وقد ماتت الإبتسامة عند منعرج شفتيه، لتترك مكانا واسعا للشحوب والموت البارد.. وتلك ظفائر أمي تتمدد في شموخ على جسدها الساكن .. آه.. يا وجعي ، كلهم سقطوا .. ضاعوا.. ابتلعهم الفناء ..
 يا أهل المدينة .. من لطخ يده بدمائهم ؟
 يا أهل المدينة .. من أباح دمهم ؟
وتنطلق كل الأصوات، وتتحرك من خلفها كل الكراسي الوثيرة، وتتمايل الرؤوس الكبيرة ، وتصرخ الجباه العالية لتعلن أنها بريئة .. بريئة .
وفي انتظار المحاكمة الكبرى، أقمت خيمة احتوت جثث كل عزيز ضاع مني ، ولم تفلح كل السلطات الرسمية وغير الرسمية أن تبعدني عن هذه الأجساد الباردة ، وأن تبني لي سكنا آخر بمنآى عنهم ، فهنا سكني.. هنا وجعي ، هنا حرقتي التي تنبت على وجهي شوكا .. دما ..

هنا سأظل أصرخ في وجوه هذه الجثث : من أباح دمكم ؟! من أباح دمكم ؟!
وعبثا حاولوا إقناعي أن الأموات لا ينطقون .. بل لا يسمعون .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى