الاثنين ١٤ آب (أغسطس) ٢٠٠٦
أوطان صغيرة (متتالية قصصية عن الرؤى والألم)
بقلم زكرياء أبو مارية

(2) الانتظار

ينطفئ الأفق، وأسترق أنا النظر من خلف خصاص شرفة شقتي إلى بقايا التورد في رماده الزاحف، وكأنه ظلال غياب آخر يقبل. وهج قرص الشمس في آخر أنفاس استسلامه لابتلاع المحيط، وعيني لا تتسع الإطلالة أمام بصرها كالعادة لتشهد غرقه الجميل والموجع في آن، فأبحث لها بين الخصاص عن فرجة تكون أوسع أو بزاوية تمكنها من ذلك، وعندما لا أجد، أشرع الفدريش على مصراعيه، فإذا بي أتأكد أيضا أن ذكرى عشقي الوحيد منفلتة مني لا محالة لولا هذا الألق الأخير في الغروب.

"فاء" كانت عندي أشبه ببوصلة خُلقت على فطرة أن يكون في إشارتها المسار السليم لقوافلي نحو براري الأمان وواحات الأمل، وعندما شوشت على إشارتَها جاذبيةٌ شريرة فقدت مسالكي صوابها، وأظلمت المماشي نحو الأوطان أمام خطوتي، وقادني الغروب أخيرا نحو انتظار أن يتفتح ليلي على أدلته.. وماذا يكون بمقدور تائه في محيط يضطرم أو صحراء مترامية وبغير معالم أن يصنع سوى أن يهتدي بالنجوم؟

كان الانتظار وإصراري عليه يهمسان لي بعد كل خلاف يدب بيننا بأن الشمس لم تستدر فقط لتشع أينما طاب لـ"فاء" مقامها بعيدا عني، بعد نزوة هجرها، للإراحة من خصوماتنا، ولا هي أوجدت لتساعد على تتبيث العنصر الفيتاميني "دال" في عظامها ليحافظ قوامها الرشيق على هروبه المتكرر، ولكنها لا تشرق أيضا إلا ليستمتع العشاق مثلي بغروبها، وكنت في كل مرة أرتاح لانتظاري لأن المدار عودني أن يأتي بدء اليوم الموالي بالشمس في موعدها، فإذا بها توغل هذه المرة في الذهاب.

* *

مرت دقائق قليلة، تحرك بعدها نسيم بارد من جهة الغرب.. تثاءبت مشاهدتي، فرميت بعقب دخينتي من النافذة.. اعتذرت للموج وانحنيت قليلا لقصر البحر. كنت أستطيع أن أنحني أكثر على الرغم من الأوجاع التي كانت تعذب رقبتي، ولكنني تفاديت أن تلتقي نظرتي بالهيكل الحديدي للسكة التي كانت تخترق الجانب الشرقي للقصر وتشوهه.

أومئ في الأخير بتحية وقورة للغياب، وكأنما أستأذنه في الدخول، لأنني تذكرت القهوة التي تعودت أن أهيئها في ذلك الوقت لتساعدني على الانسحاب إذا ما كشر ملمح الفضاء في وجهي، أو تأففت رئته لتزكمني، والدليل هو أنني كنت ممنوعا من المشروبات المنبهة.

أغلقت النافذة ودخلت، كنت أحس على الرغم من ذلك بشيء من الدفء والنور يتنفسان بداخلي، فخاطبت نفسي ليقيني حينها بأن "فاء" كانت لا تزال تسكن في قرارتها:

 فلتتلبد السماء ما شاءت.

وساندني الانتظار والإصرار عليه، هامسين في صدري بضرورة ذلك بين فترة وأخرى، حتى لا يفقد الصفاء الذي سيطل حتما من جديد أهم ما سوف يميزه دائما: انتظارنا المشتاق لعودته، وكأن وطنا قد يفعل، دون مقاومة منا للتخلي عن الاكتفاء بالتحسر والحنين، لاستعادته من براتن العكر.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى