الأحد ٣ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٦
بقلم داليا محمد خلف

لن يرحل

هناك...في تلك البقعة...ذاتها والتي لم تتغير منذ سنوات ونفس الكرسي الذي لم يحركه كائن وكأنه ميراث للمكان..أو ميراث شخصي لي لم يمسه أحد احتراما لمشاعري، يحتضن الكرسي الخوص طاولة مستديرة متهالكة بعض الشيء لكنها متماسكة خاصة أرجلها التي قد يطولها بعض من مياه النيل حيث تجلس. كان النادي على شاطئ النيل مباشرة وتلك الطاولة ذات الكرسي المنفرد عكس جميع باقي الطاولات...تنتظرني كل فترة، لست منتظمة في الذهاب لكنني دءوبة لإيجاد الفرصة التي افعل فيها خاصة بعد رحيله!!!! فهو الوحيد الذي كسر وحدة الكرسي الخوص وحمل كرسيه من بعيد ليشاركني طاولتي والحقيقة لقد شاركني الكثير....نعم....فهو كاتب شاعر قصاص.....متذوق للموسيقى الكلاسيك ونهم في القراءة في شتى الموضوعات........

وكثيرا ما رقبته يجلس منفردا مع كتابه وحيدا مع مسجل صغير تنبعث منه موسيقى كلاسيكية بحتة وهى لم تستهويني للسماع كثيرا أو للبحث عن تاريخها والتعمق في القراءة عنها ومنذ أن أطلت منى ابتسامة هاربة عندما علا صوت الصريخ في الموسيقى ورمقني بنظرة لاءمه...كمن يلوم طفلة صغيرة انهمكت في اللعب بالتراب!!!! خجلت بشدة وواريت عيني في كتابي....ولم افهم حرفا مما قرأت لمدة نصف ساعة ضممته بعدها لصدري وجريت خارجة من باب النادي الأبعد عن هذا الرجل كي لا اصطدم به مرة أخرى...ومن يومها تبدلت كتبي إلى موسيقى!!! بدأت استرق السمع إلى الإذاعات العالمية...أتعلم..هذا شتراوس...وهذا تشايكوفسكى...رباه...اسم صعب استوعبته بعد تكرار....وهذا..آه انه بيتهوفن...لم أكن بهذا الجهل حتى لا اعلم عنه شيئا....الموضوع ليس بدرجة السوء والسخرية التي توقعتها وانجذبت أذناي لتلك الموسيقى وأعطت رونقا مختلفا لكلمات كتبي أثناء القراءة...تعطيني نشاطا وصحوا تعودته كما تعودت السيمفونيات والكلاسيكيات الموسيقية.

اعتادت أن تجلس على طاولتها مواجهة لمكان جلوسه وكأن روحيهما قد توحدا في معزوفة واحدة من خلال سلسلة من النظرات الخاطفة. وأراد الله لها أن تتطور عندما التقيا بدار الأوبرا في إحدى الأمسيات الموسيقية...وجدته رجلا وسيما يرتدى بزة رمادية هادئة وقميصا أصفراً مريحاً تعلوه رابطة عنق ذهبية مموجة بلون رمادي رائع...تسمرت قدماها...شجعتها ابتسامته على أن تمد له يدها بالسلام، وكأن الكلام قد صمت وانزوى مع دقات الإيقاع المتصاعدة وأنفاسها التي تتلاحق مختلسة النظر إليه...كم هو رائع ذو ملامح دقيقة..أسمر نيلي ذو خصلات رجولية ناعمة تتدلى على جبينه. ما هذا؟أنها لم تنجذب لرجل بهذا الشكل مذ سنوات..وهى الناضجة ذات الخبرة والثقافة. خلال شهرين!! ستين يوم ترقبه بملء عينيها...ومع شرودها!! انتبهت مع انتهاء الحفل وتوقف الفرقة الموسيقية، وجدته واقفا أمامها يتفرس ملامحها بابتسامته مادّاً يده إليها متسائلا..الديك سيارة؟ أومأت برأسها إيجابا...فعرفها بنفسه ذاكرا وظيفة مرموقة وذيَّل التعريف بعرضه عليها السير وراء سيارتها حتى تبلغ منزلها فالوقت متأخرا (وبالرغم إنها لم تجده متأخرا فقد جاوزت الحادية عشرة بقليل) إلا إنها كانت تبتسم بذهول وتنطق بكلمات قليلة مقتضبة لم تستطع أبدا أن تجعلها خالية من الإعجاب..بل والانبهار..فتح لها باب سيارتها برقة وقبل أن يغلقه علق ضاحكا..آنستي..عرفت اسمك من النادي!! سأتبعك..ابتسمت ابتسامة باهتة أثناء القيادة، وأطاعت جميع العوائق والمطبات في الطريق بالرغم من مهارتها في القيادة وحمدت الله أن الطريق انقضى سريعا فلقد خضب الخجل وجهها بالحمرة وشعرت بزلزال عندما ترجلت من سيارتها أمام منزلها لتلقى عليه التحية شاكرة وانصرفت دون أن تلتفت لتنظر إليه..ونامت ملء عينيها مبتسمة. استيقظت مشرقة، اليوم عطلتها عن العمل...ستمارس طقوسها المعتادة في حركة نشيطة بعد أن تدير المسجل بآيات سورة الكهف التي أصبحت ترددها دون وعى. ارتدت ثيابها الرياضية وانطلقت....خفيفة كالفراشة تتمتم بالأذكار خلال قطعها لطريق النادي القريب من منزلها تتأبط حقيبتها..ألقت سلاما مختلفا على موظفي الأمن واتجهت إلى طاولتها لتجدها مختلفة عن ذي قبل..محلاة بمزهرية وبضع الوردات. انتابتها دهشة عميقة ولم تجد تفسيرا عند النادل لوجود الزهور وكأنما هناك من يخطط ويرشى الموظفين ليرى ابتسامتها...ابتسمت مرة أخرى عندما جال هذا الخاطر ببالها. ضمت الزهرة بين يديها بحنان ونظرت تجاه طاولة صديقها الوسيم فلم تجده. توقعت أن تراه اليوم في النادي وانقضت ساعات طوال وهى ترقب حركة الأعضاء السريعة خاصة وانه يوم العطلة لكنه لم يهل. اضطرت للانصراف حاملة كتابها والزهرة في يدها مطأطئة الرأس تعاتب نفسها على تعلقها به.... وقررا أن تكون كعادتها متبعة لعقلها فما هو إلا سراب أو قوس قزح الذي هل بأشعة ملونة مع سقوط المطر أيقظ نشوتها بألوانه وذهب.....

مرت أيام الأسبوع وهى ممتنعة عن الذهاب للنادي كعقاب لنفسها ومحاولة منها لكسر حالة التعلق التي انتابتها وتوقفت عن سماع الموسيقى الكلاسيك مستبدلة إياها بموسيقى الرحبانى التي أثارت شجونها. مر الأسبوع رتيبا لم ينطو إلا على العمل ومشاغله ليتبدل حالها تماما مع العطلة الأسبوعية وشتان بين وجهها منذ أسبوع ووجهها اليوم. انطلقت بتباطؤ تجر قدميها للنادي وحيدة وعندما عانقت طاولتها وجدت باقة من الزهور توضع أمام وجهها وصوته يأتيها من خلفها...أين كنتِ....فقدت باقتين من الورود أمس وأمس الأول!!!! نظرت إليه بدهشة وفرح..أو كنا على موعد؟ ابتسمت عيناه دون أن ينطق....إنك لم تأتى الجمعة السابقة؟ تساءلت...نعم عزيزتي كانت لدى رحلة وعدت أمس الأول فقط....تخضب وجهها حمرة وخجلا فلقد نسيت انه بحار مسافر من ميناء إلى ميناء..... ولكن عليها أن تعترف أنها استقرت في عينيه ونبرة صوته وعادت إليها حياة افتقدتها منذ أسبوع. ودام الحلم أياما وأياما بين المشاعر الدافئة والحكايا...قصائد الشعر والروايات....موسيقات وخبايا مشاعر التحمت...يوم...اثنين...ثمانون يوما يطيرا معا كلما تواجد على أرض المحروسة.تعترف كل خلية من خلاياهما انهما حبيبان..زغردت أمواج النيل لفرحتهما...أشتاق أعضاء النادي لأن يفرحوا بهما. ونما العشق مزهرا ثوبا أبيضا موشى بالذهب...انه عائد من تلك الرحلة ليحتضنها زوجة وحبيبة...يبذر حبه في أرضها الخصبة...وجاء صوت المذياع صباحا حاملا أنباء عن العبارة التي يعمل بها، أنصتت نعم انه هو نفس الاسم وذات الشركة...حريق...غرقى...موتى....دون إنقاذ...في عرض البحر...أين هو....لقد حادثها قبل الإبحار...جاءها صوته حالما مرفرفا كالطير...حاملا معه ارق كلمات من محب. لا إنهم لم يفعلوا!!!! لم يتركوه في عرض البحر وحيدا دون منقذ انه سباح ماهر...يستطيع أن يتلو آيات من القرآن ويتماسك...سيعود...سينقذ الجميع ويعود ليرتدى بذته السوداء ويتسلمها عروسا من خالها....لقد رحل أباها ووعدها هو ألا يرحل..لا لن يرحل...لن يرحل..........

وحتى الآن تردد "لن يرحل" وتجلس على نفس الطاولة تتصفح كراسة أشعاره التي وجدتها على مكتبه وقد ذيلها بآخر قصائده "رسائلي....التي لن تصلك" !!!!

29 أغسطس 2006


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى