الأربعاء ٢٧ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٦
حالات: من وحي الانتفاضة
بقلم عادل الأسطة

بدايات الجنون

 1-

تمشي في شوارع نابلس، تنظر إلى المحلات التجارية، ولا ترى، منذ تسعة أشهر إلا الهدوء. حركة قليلة وبشر يمكن أن تعدهم إذا رغبت، وأنت منذ 28/9/2000 لم تغادر المدينة إلا مرة واحدة إلى أريحا فعمان. لم تزر رام الله مرة واحدة، لا لأنك لا ترغب في زيارتها، وإنما لأنك تصغي إلى جارك يحدثك عن عذابات الطريق. هو يأتي مضطراً، وأنت لست مضطراً لأن تسافر. لأنك، حين كنت تسافر، كنت تسافر رغبة في تغيير الشوارع التي تذرعها.

تمشي في شوارع نابلس، وترى الشوارع شبه فارغة، ولا تبصر البشر أفواجاً إلا حين تكون هناك جنازة شهيد. حين تكون هناك جنازة ترى الشوارع تمشي وتصغي إلى أصوات الرصاص، وتذهب نصيحة محافظ نابلس، أبو جهاد العالول، هباء. لا احد يوفر الرصاصة لزمن صعب قد يأتي. وتتساءل: من أين يحصلون على هذا الرصاص؟ ويجيبك أحدهم: إنهم يدفعون ثمن الرصاصة كذا شيكلاً، ويبدون في هذا كرماء وكرماء، جداً. للرصاص ،رصيد، وإطلاقه بلا حساب ( تتذكر ما بثه التلفاز عن أحداث الخليل، تتذكر ما قاله رجل خليلي تعرض بيته لاعتداء الإسرائيليين المستوطنين: إنهم يطلقون الرصاص دون أن يصيبوا إسرائيلياً، ونحن ندفع الثمن، والله لو قتلوا واحداً أو أصابوا لما حزنا. وتقول: لعله يبالغ، ولكن قتلانا وجرحانا أكثر ).

قبل أسبوع من الآن، 11/7/2001 أو أقل قليلاً كنت تسير في شوارع نابلس، كنت تسير مع صديق قديم، وبعد أن زرتما شوارع البلدة القديمة واقتربتما من الدوار، أصغيتما إلى رجل يهذي، يشتم ويشتم ويشتم، وذكرك بمظفر النواب، وأنت منذ فترة مشغول بإيجاد تفسير لظاهرة الشتم هذه. هل يشتم النواب العرب لأنه يكرههم، لأنه لا يحبهم أم أنه يشتمهم لأنه يحبهم، ولأنه يحبهم، دون أن يحققوا له ما يرغب في أن يحققه العرب، وما يرغب في أن يحققه العرب هو شيء نبيل، لأنه يحبهم فإنه يشتمهم.

ذلك الرجل من نابلس، في مدخل سوق البصل، كان يشتم العرب ويقول: لقد سمّن العرب اليهود حتّى يذبحوا أهل فلسطين. ولو كان العرب انتصروا على اليهود وحرروا أهل فلسطين لما قال الرجل ما قاله. إنه يشتم لأنه رأى واقعاً أليماً عجز هو وأهل فلسطين عن مواجهته، وعجز العرب أيضاً عن مواجهته.

تقول لصديقك: هذه الحالة ليست حالة مرضية، هذه حالة صحية، ولعل الأيام القادمة تشهد المزيد من الحالات المشابهة لهذه الحالة. إن ما ألم بنا ليس سهلاً، إنه يدفع إلى الجنون.

وتمشي في شوارع نابلس، الشوارع غير مكتظة، وأهل الريف الذين تعتمد المدينة عليهم، في البيع والشراء، لا يأتون إلى المدينة إلا بصعوبة بالغة، والكل يشكو، أصحاب السيارات العمومية يشكون، والتجار يشكون، وأهل الريف يعانون، والرجل يشتم ولا بُدَّ من جنون، لا بُدَّ من جنون حتّى نثبت أننا أصحاء نتأثر بما حولنا ونقنع ذاتنا بأننا لا نذهب إلى المسلخ كالخراف.

عمان 11/7/2001


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى