السبت ١٤ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٦
بقلم عيسى شريط

استئصال

منذ أيام، استسلم جسده وليمة للصدأ.. يشعر وكأن الزمن يسرق أشرعته ليرهن العمر، وهديل الحمام، وذاكرته التي تتآكل رهينة البدء.. (أه أيها الزمن الشقي مثلي، لمَ جعلت من حركتي مصدرا للألم حتى صار الجمود راحتي؟) تحسر "الزبير" في سره وحرر تنهيدة احتوت هموم الكون.. (الإنسان هو طبيب نفسه) هكذا كان دوما تعتقد، لكن فجيعة الألم هذه المرة، أجبرته على تجاوز كل المعتقدات.. وكانت نتيجة الفحص صاعقة نزلت عليه لتكتمل غربته.. شيء يشبه الورم استوطن مرارته.. كيس صفري على كبده.. أحجار مستقرة بكليتيه.. أي هول هذا الذي حل بجسده المتصدع، وأية فجيعة.. تهالك على كرسي قبالة الطبيب ذي الوجه الناعم، وكان وجهه متصلبا كالموت.. (الاستئصال) حسم الطبيب بنبرة الواثق الناصح أخيرا، ليقتله..
(كم تشير الساعة الآن؟).. بصراحة ذلك لا يهمه، لم يعد للوقت معنى في هذه اللحظات التي ترهن زمنه والعمر.. سرب الحمام الذي كان قابعا على السقف المقابل، ينعش بهديله جناح الولادات، اختفى فجأة، ليحل محله صراخ الرضع، وأنين الحوامل، والصدى المنبعث من جوفه المتصدع.. كانت الحمامات تؤنسه، لعلها التحقت بأعشاشها ليظل وحده قابعا بجناح الجراحة يرعى الغربة، ويترقب.. لم يعد للوقت معنى.. همهمات من حوله تتسرب من الغرف المجاورة، والآهات المتوجعة أيضا.. ها قد حطت حمامة الآن، وثانية هناك، وثالثة، كأنهن سمعن نداء الغربة الذي يقهر يتمه.. الشمس استسلمت للغروب، وشمسه منجذبة لموعد الغيبوبة والاستئصال.. لم يعد للوقت معنى.. البارحة فقط، حلم بتحطم ساعته.. تشاءم من ذلك كثيرا..

أصوات خطى تثير جلبة في الرواق، ربما أحد المرضى ساءت حاله.. خطى لا يمكن أن تكون إلا ذكورية، فهذا الجناح يفتقر للممرضات.. طارت الحمامات ثانية، وبلا رجعة هذه المرة.. (استئصال المرارة أمر هيّن) بهذا شجعه أحد الممرضين بنبرة القبايلي الصادق، لعله لاحظ خوفه.. جناح مقفر، ثم من أين له بالصبر في غياب ملائكة الرحمة، وهن الحياة كلها والأماني؟.. وراح يترقب.. لم يعد للوقت معنى، قد حلمَ البارحة بتحطم ساعته.. (في المقهى) القصة التي بين يديه الآن، لم تساعده على تجاوز توتره.. السجين الذي اقتحم المقهى وظل واقفا مشدوها كالأبله، حيره وكثف توتره.. حتى ذلك المسن الفرنسي الذي باع تذكرة سفره بالميترو، يحيّره.. كم يشبههما في هذا الزمن الذي ليس زمنه.. ليته كان مجرد شخصية من شخوص "محمد ذيب".. صوت مرتل القرآن يتسرب من جهاز كاسيت بإحدى الغرف المجاورة، لعل أحد المرضى يحاول نسيان خوفه من موعد مرتقب.. ما أضعف الإنسان!..

يشعر الآن، ببرودة تتسرب الى رجليه، والى روحه أيضا.. اللعنة على هذا الصمت المريب الذي خيم على قسم جراحة الرجال، بل على المستشفى كله.. (كم تشير الساعة؟).. قد حلم بتحطم ساعته، ولم يعد للوقت معنى.. مفجع أنين ذلك الطفل، يبدو أن شيئا حادا اقتحم بطنه، قد أنقذه الجراح بأعجوبة.. صوت أبيه المقزز ينهره مع كل أنة ليجبره على الصمت وقمع التوجع.. (خليني نرقد يلعن والديك).. أب جلف.. مسكين هذا الطفل، معاناته المستقبلية أشد من راهنه.. اللعنة على الجنس الخشن.. ملائكة الرحمة لا وجود لهن بهذا الجناح الدامي.. (كم تشير الساعة؟).. لا يهم.. قد حلم البارحة بتحطم ساعته.. خطى رشيقة تقترب!.. اليقين أنها خطى امرأة!.. أخيرا امرأة.. سيتشبث الجميع بالحياة.. انخفض صوت مرتل القرآن، لعل المريض صاحب الجهاز نسي خوفه واعتنق الحياة حينما اخترقه صدى الخطى الرشيقة.. ما أضعف الإنسان!.. انتصف الليل والأرق يصر على لفه بردائه الشائك لتكتمل غربته.. ساعة الاستئصال تزحف بسرعة ليكتسي الوقت بكل معاني الفجيعة والترقب.. قد صار للوقت معنى وتبخرت تفاصيل الحلم لتغدو مجرد أضغاث أحلام.. الساعة منتصف الليل، كم كان يود أن يزوره الأصدقاء وما أكثرهم.. ما أقسى القطيعة هواية إنسان هذا العصر!.. منعزل هو الآن، كقديس ملعون طرد من صلاته بعدما لوث أعضاء جسده بهول الخطيئة.. الساعة منتصف الليل، قد صار للوقت معنى وعليه أن يواجهه منفردا.. خطى تدنو من غرفته، لعله الممرض يقوم بدوراته الليلية، أو ربما يبحث عن مريض افتقد لذة النوم مثله.. طل من الباب وهمس سائلا بنبرة القبايلي (أمازلت مستيقظا؟)، واقتحم الغرفة وهو يعبث بهاتفه النقال، جلس على كرسي قبالته، وراح يكلمه عن مزايا هذا الهاتف العجيب.. أسمعه بعض المقطوعات الموسيقية المسجلة، ثم سأله إن كان يملك هاتفا مثله، لم يجبه واكتفى بكبت رغبته في البوح بمعاناته المالية، ماذا لو أخبره بأنه عاجز عن دفع مبلغ العملية الجراحية؟.. انتبه الممرض الى مجموعة "محمد ذيب" القصصية المنسية على الطاولة.. جذب الكتاب إليه وقرأ (Au café) بالنبرة القبائلية التي تعطي لكنة مثيرة للغة الفرنسية، ثم سأله عن محتوى الكتاب، وعلى الرغم من توتره، حاول تلخيص أفكار القصة التي تمكن من قراءتها، حدثه عن السجين الذي اقتحم المقهى وظل واقفا على عتبتها يحدق في فراغ، يبدو تائها لا يلوي على شيء، لقد خرج لتوه من السجن بعد أن قضى سنين طويلة أتت على إحساسه بالزمن، لم يعد للوقت معنى بالنسبة إليه، لكنه إحساس ظرفي سيزول حينما يتأقلم و الحياة العادية من جديد.. إنه مثله تماما، بمجرد ما اقترب موعد الاستئصال، صار للوقت معنى.. وحدثَه أيضا، عن ذلك الفرنسي العجوز الذي كان يقترح بيع تذكرة سفره بالمترو، ربما كان جائعا، مما يمكنه من اقتناء ساندويتش من شرائح الحلوف.. أو ربما لم يعد لسفره معنى أيضا.. كان الممرض يصغي إليه باهتمام، وقاطعه بسؤال مباغت يريد أن يعرف أين تعلم اللغة الفرنسية.. حين تأهب للإجابة، قاطعه انبعاث أنغام مقطوعة (عبد القادر يا بوعلام) للشاب خالد والتي تسربت من هاتفه النقال، اعتذر الممرض ليرد على الهاتف وقد تغيرت ملامحه تماما، من ملامح الفضولي المهتم بالأدب الى ملامح العاشق، لعلها خليلته.. وراح يكلمها باللغة الأمازيغية وهو يتمايل بحركات غريبة، يبدو كالمخنث، حتى نبرات صوته تغيرت، صارت أكثر رقة تنبعث حروفها كالنغم.. ما أضعف الإنسان!.. بينما يكلم خليلته، سافر سؤاله بذاكرة "الزبير" الى حيث أيام المدرسة الابتدائية.. وتسربت في غفلة، الى أنفه رائحة حبيبة رمته في تفاصيل القسم ، جدرانه، طاولاته المجرحة بعبارات العشق وبالسهام التي اخترقت القلوب، والمزخرفة ببقايا المداد البنفسجي، كراريس القسم، كتب القراءة، السبورة، الطباشير، والأصدقاء، وأنت يا مريم أيضا.. ( أه مريم يا صديقة صباي ويا عطري المنسي، هل تذكرين خجلي حين كنت تشاغبينني داخل القسم وخارجه لحظة الاستراحة؟.. وحين كنت تترقبينني قبالة باب بيتنا العتيق حتى أخرج الى الشارع نتبادل النظرات والابتسامات البريئة؟.. لكنني كنت أخشى مواجهتك، فأظل أترقب انصرافك من خلال ذلك الثقب الذي اخترق باب الدار.. كم كنت أتلذذ تلك اللحظات الخجولة!.. ربما أنت لا تدرين يا مريم، بأني كنت أحترق مودة طفولية تجذبني دوما، إليك.. احتفظت بها في سري، فخجلي حينها، كان يقمع بوحي باستمرار.. هل تذكرين يا ملح طفولتي كل أشياءنا الجميلة؟).. يا له من سؤال عجيب سرى به الى أغوار الذاكرة كسجاد طائر!.. مازال "الزبير" يتجول في كواليس تلك المدرسة الحبيبة.. ومازال الممرض يغازل حبيبته عن بعد.. اختار الانصراف حين شعر بتيه "الزبير" وبرغبته في الصمت كي يحافظ على الخيوط الهلامية التي توصله بمريم صباه.. تمدد على السرير وحاول التوغل أكثر في سديم الذكريات الحبيبة.. هي مجرد ثوان مرت، واستسلم لنوم عميق، لم يفق منه إلا على صوت ممرض أخر، كان يطلب منه الاستعداد لموعد الاستئصال.. صار للوقت معنى.. عاد الحمام ليستوطن على سقف قسم الولادات، لكنه هذه المرة لم يثر في "الزبير" شيئا، وهديله أيضا صار بلا معنى.. تعرى تماما، وتسلل تحت الغطاء، جاء الممرض ليسحبه والسرير الى حيث موعد الاستئصال.. ما أطول ذلك الرواق وتلك المصابيح العابرة باستمرار، ترافقه بإلحاح، تخطف بصره كأنها تهيئ الغيبوبة لاحتضانه.. يا إلهي، ما الذي يحدث له؟.. لمَ يحمي كل هؤلاء أجهزة تنفسهم؟.. أقذر هو الى هذا الحد؟.. (هي مجرد ثوان وتنام) قال له أحدهم وسقى عروقه بإكسير الموت.. ما أضعف الإنسان!.. لم يفق بعده إلا وهو في غرفة الإنعاش.. خامره إحساس مبهم يقنعه بأن الغربة قدره، وأن عضوه المستأصل صار غريبا مثله.. بكى كما الطفل يبكي حينما تؤخذ منه أشياءه.. أي هول هذا الذي حل بجسده المتصدع، وأية فجيعة!.. ما أضعف الإنسان!..


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى