الأحد ٢٢ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٦
بقلم بسام حلواني

البــــغل

لم يدرك أحد ما الذي أغضب البغل عصر ذلك اليوم حتى انطلق يعدو في الشارع العريض بهذا الشكل الجنوني , رنين الأجراس المعلقة حول رقبة البغل وقع حوافره التي تتابع فوق الإسفلت هدير الإطارات الحديدية التي تطوق عجلات العربة كانت جميعاً تتداخل مع بعضها لتشكل سيمفونية من الضجيج المرعب .

لم تكن العربة الخشبية تحمل إلا بعض البطيخات وميزان ذو كفتين نحاسيتين وأوزانه الحديدية المتنوعة التي كانت تتقافز فوق العربة مضيفة إيقاعات تتناغم مع سيمفونية الأصوات الأخرى .

وعلى امتداد المساحة المرئية في الشارع المستقيم لم ألمح أثراً لصاحب العربة فلا هو يعدو راكضاً خلف دابته ومصدر رزقه ولا هو يستخدم سيارة لمطاردة البغل الجانح لكي يصالحه ويقدم له عربون مودة حزاً من البطيخ أو ربما بطيخة كاملة وهو يقول له :

 ولو هل نخسر بعضنا من أجل بطيخة ؟كل ما تريد عندما تكون جائعاً ألست أقدم لك يومياً عشاء لذيذاً من الشعير الطازج مع سطل ماء بارد يا أخي وماذا لو ضربتك كنت متضايقاً.. طيب هل أضرب شرطي البلدية لأقضي بقية عمري في السجن ,هل أضرب زوجتي لأقضي بقية ليلتي معك في الحظيرة أنت الوحيد في العالم الذي تحتملني .

كانت العربة المندفعة في الشارع تثير الذعر بين المارة الذين يستخدمون الطريق في تلك الساعة خاصة وأن البغل كان مندفعاً دون سائقه ودون أن يمسك أحد البشر بلجامه . فالعربة التي يجرها البغل كانت تندفع بقوة البغل الجامح فوق الطريق فيما العربات المعدنية الأخرى التي يقودها البشر قد تتحول في لحظة ما إلى عربة يقودها بغل آخر يجلس خلف المقود ويدوس بأقصى قوته على دواسة الوقود ويتعامل مع مستخدمي الطريق وكأنهم صور متحركة في لعبة كومبيوتر بل قد يبالغ في اللعبة القاتلة أثناء عبور امرأة تدفع عربة طفلها أو رجل عجوز يحمل هموم الزمن فوق كتفيه فيضحك ساخرا من تغير إيقاع خطواتهم حين يهربون من الموت القادم عبر دواليب سيارته . ولأني أجبن من أن أقوم بعبور الشارع من إمام السيارات التي تندفع عبر الشارع ولأني مواطن يحترم القانون وخاصة قانون السير فإني في تلك اللحظات كنت أمشي باتجاه الإشارة الضوئية التي يحرسها شرطي متجهم الوجه خلف صفارته وعيونه مفتوحة لحماية القانون من عبث بعض السائقين ولأني وبحكم التجربة أدرك أن عبوس الشرطي لا يعني بالضرورة أن يحترم كل السائقين القانون الذي يحميه فقد انتظرت قليلاً أن يقف أول رتل من السيارات التي تشكل ستاراً حديدياً يحمي جسدي النحيل من السيارات العابرة

في تلك اللحظة كان البغل يحاول الانسياب بين سيارتين توقفتا للتو على الإشارة الضوئية دون أن يحسب "البغل" عرض العربة التي يشدها خلفه .

وعلا صوت اصطدام عجلة العربة بمؤخرة المرسيدس الزيتية وتلاه صوت تكسر زجاج الأنوار الخلفية .

ترجل السائق من سيارته فيما تسمرت عيون المارة على بزة الشرطة التي يرتديها وبدأت العيون تعد النجوم على كتفه واحدة ... اثنتان.... ثلاثة ضابط شرطة برتبة نقيب , هدأ البغل وكأنه أدرك حجم الذنب الذي ارتكبه , أسرع شرطي المرور يؤدي التحية للضابط الذي أذهلته المفاجأة لعدة لحظات قبل أن يستعيد قناعه الرسمي .

أمسك الشرطي زمام البغل وهو خائف من ردة فعل الحيوان وقد ارتفع معدل "الإدرينالين" في جسمه وكأنه يتحسب لاندفاع البغل مرة أخرى حالما تتحرر العربة من مؤخرة المرسيدس ولكن البغل أدرك سوء فعلته وقدّر العقوبة القانونية التي سوف تناله فطأطأ رأسه وسلم زمام أمره للشرطي الذي قاده إلى يمين الطريق حيث ربطه بعمود الكهرباء .

وإذا كنت قد ذكرت سابقاً بأن صاحب البغل لم يكن يطارده فلا شك أنه الآن يبتعد عن موقع الحادث وهو يخفي وجهه بيديه حتى لا يعرفه البغل ويبدي أي إشارة تدل على معرفته بصاحبه كأن يهز برأسه ليسمعه صوت الأجراس النحاسية التي تطوق رقبته ومع أن صاحب البغل يدرك جيداً أن البغال لا تتكلم إلا أنه يعتقد بقوة أن للشرطة أساليب قد تدفعه للاعتراف باسم صاحبه وربما اعترف البغل بكل حوادث الصدم المقيدة ضد مجهول .

وقف ضابط الشرطة عاجزاً للمرة الأولى في حياته العملية فهو لا يستطيع أن يسدد صفعاته إلى وجه البغل ولا أن يجبره على دفع أجور الإصلاح , فكر في أن يصادر العربة والبغل ولكن من سيطعمه ويسقيه .

عاود الصعود في سيارته جلس بهدوء ثم انطلق تاركاً مهمة إيجاد الحلول للشرطي تفرق الفضوليون في شتى الاتجاهات , تابعت سيري وأنا أودع البغل بنظرة أخيرة التقت نظراتنا للحظة واحدة تخيلت فيها أن البغل كان يبتسم


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى