الأحد ١ شباط (فبراير) ٢٠٠٤

مشاهد ثلجيّة

ربيحة علان علان ـ مخيم الجلزون – رام الله ـ فلسطين

كانت موجة جديدة من الثلج قد بدأت قبيل الظهر، وتزامنت مع طقس شديد البرودة، فالأمطار غزيرة منذ أيام، وعند العصر وجدت شوارع المدينة شبه خالية ومعظم المحال التجارية أغلقت أبوابها ، والحركة التجارية ضعيفة منذ اندلاع الحرب على العراق وزاد ضعفها صعوبة الطرق والجو العاصف. وفي هذا اليوم بدا لي اختيار طريق العودة من رام الله إلى مخيمي اختيار بين المرّ والأمرّ؛ فطريق عبر الجبال المكسوة بالطين والثلج والمقطوعة بخنادق مائية والغارقة في الضباب بدت أكثر قسوة من طريق طويل يمتد من مشارف مدينة رام الله إلى مشارف قرية صردا نقطعه سيرا على الأقدام بسبب الحاجز العسكري الصهيوني ولذا ركبت السيارة المتجهة نحو صردا .. وعندما بدأنا السير عبر هذه الطريق كان نزول الثلج كثيف وسريع التناثر بسبب قوة نزوله ووجود ريح قوية فكنت أشعر بحبيبات الثلج تسقط كشظايا الزجاج فوق وجهي المتصلب من شدة البرد، وأصبح من الصعب عليّ وعلى الآخرين النظر طويلا إلى الأمام لأن حبيبات الثلج تسقط بقوة في العيون ، ووقت ذاك بدأت أشهد مرور مئات المارة ، فقررت أن التقط صورة لمشهد بدا لي فريدا ، مشهد مئات يتدفقون سيرا على الأقدام في جو عاصف مثلج وضباب يخيم على المكان يتخلله أضواء دوريات صهيونية تشدد المنع وتقطع الطريق.. بيد أن تدفق المئات وضوء دوريات الاحتلال والمسافة الطويلة مازال مستمر برغم أني لم أتوقف عن السير .. غريب .. ماذا يحدث هنا ؟ منذ متى يتكرر المشهد عشرات المرات؟ منذ متى يمكن للشخص التقاط صورة فريدة من أي زاوية وفي أي وقت على طريق واحد ؟؟ ماذا يحدث لنا ؟؟..

مازلت منشغلة بدهشة المشهد حتى سمعت صوت إحدى تلميذاتي وقد غدت اليوم طالبة جامعية تقول :" هيا يا معلمتي مازال أمامك طريق طويل لقد جئنا من الجامعة سيرا على الأقدام " .. وعندها علمت أن طلبة جامعة بيرزيت وكافة العاملين فيها وكل من مرّ في المكان قد جاؤوا في هذا الطقس القاسي من مشارف بلدة بيزيت إلى مشارف رام الله قاطعين أراضي قريتين هما أبو قش وصردا سيرا على الأقدام ..

أعدت آلة التصوير إلى حقيبتي وسرت في الطريق ولم أعد أخشى سقوط الثلج في عيني لأني لم أترك عيوني تنظر طويلا فمرور الطلبة بالمئات المئات يتخللهم أساتذة الجامعة من حملة أعلى الشهادات العلمية والذين هم في الغالب كبارفي السن وبعضهم مريض ، مشهد مؤلم ولم يقّل عنه إيلاما رؤيتي صديقتي عائدة من رام الله وهي حامل في شهرها السابع وقد تركت نفسها للثلج لأنها لم تقوى على فتح المظلة من شدة البرد ، فتحت لها المظلة وتوقفنا عند بيت على مشارف قرية صردا ننتظر إمكانية وجود سيارة تحملنا إلى المخيم ، كانت السيارات شبه منقطعة عن المرور لأن بعضها تعرض لحوادث سير على مشارف بيرزيت ، أما دوريات الاحتلال الصهيوني فلم تنقطع عن فرض منعها للسيارات الأخرى من المرور في هذا الوضع المؤلم. وبقينا وقتا هناك نقف بالعشرات ووجدت نفسي أنظر إلى صديقتي الشابة .. يا إلهي .. مازالت المشاهد تتكرر .. يا إلهي كيف تتكرر المشاهد في الدقائق والساعات والأيام والسنين من ذات الطريق جاءت صديقتي الحامل في شهرها الخامس وثلاث أطفال .. من ذات الطريق جاء بها زوجها يبحث عن بيت يأوي عياله من المطر والبرد بعد شهور قضوها في الجبال يبيتون تحت الزيتون وفي الكهوف الموحشة، منذ نصف قرن جاؤوا إلى هذه القرية فلم يجدوا إلا بيتا قديما مهجورا تسكنه المياه ثم لم يعد الزوج يقوى على البحث عن مكان أفضل فلفظ أنفاسه الأخيرة، مات مقهورا وهو لا يملك أجرة بيت يأوي فيه عياله بعد أن أصبح بيته غنيمة للصهاينة اللصوص يقتلعون حديد النوافذ وبلاط الأرض ومدخرات البيت وحتى حجارته .. صديقتي .. نعم .. نادتني صديقتي لنغتنم فرصة وصول سيارة تحملنا إلى المخيم .. تحملنا عبر الجبل الذي خشيت المجيء منه أول الأمر، وركبت وبدأت أحدق في الطريق الوعرة .. كيف مرّت من هنا صديقتي، كيف جاءت سيرا على الأقدام بأطفالها اليتامى كيف قطعت ذات الجبل تبحث عن مخيم جديد فيه بقايا من جيرانها بعد أن تركها زوجها في البيت المهجور وحيدة لا تعرف أحد في هذه القرية..... انطوت الطريق تحت الطين خجلا من حجارتها التي أكلت من أقدام اليتامى ، وبدأ الركاب يتحدثون عن موسم المطر الطويل وعن هذا الثلج وبعضهم ذكر مواسم ثلج قاسية وذكرت صديقتي أول موسم ثلج لها في المخيم وكيف بقيت طول الليل تضرب سقف وأطراف الخيمة بعصا ليسقط الثلج ولا يتراكم فوق الخيمة فيدفن أطفالها، وحاربت السقوط، حتى غلبها النعاس والتعب فنامت لتصحو على الخيمة وقد سقطت بما تراكم عليها من ثلج فوق الأطفال، فأخذت تحفر بيديها الثلج وتدفعه بعيدا عن باب الخيمة وظلت تحفر بيديها وتحفر وتحفر حتى تصلبت يداها وتقوست أصابعها فأخذ اليتامى يتحسسون يدي أمهم ويبكون، عندها وصلت سيارة الصليب الأحمر الدولي ومن أمامها جرّافة تشق الطريق إلى خيم المنكوبين، وعندها وصلت سيارتنا إلى المخيم فنزلت وقد بقي أمامي طريق آخر حتى البيت، فبدأت السير من جديد والثلج يفترش الطريق ويروي فصلا آخر من فصول النكبة .

ربيحة علان علان ـ مخيم الجلزون – رام الله ـ فلسطين

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى