الأحد ٢٦ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٦
بقلم نعمان إسماعيل عبد القادر

الهزيع الأخير

وثمة قلق مُدْلَهّم انتاب قرية الفلماية حول مصير "إبراهيم الأشقر" الذي اختفت آثاره منذ أربعة أيام ولم يُعرف مصيره.. أخوه الشهيد "جمال" عُرف مسكنه الأزليّ في الجهة الشرقية من مقبرة الشهداء إلى جانب قبر الشهيد "عطا".. أما هو فلا قبر يضمه ولا تراب يدفنه.. وأنباء الغائبين بدأت تتكشّف للمستضعفين شيئًا فشيئًا.. "محمد" فرّ من الجنود وهو مصاب في ساقه فلجأ إلى كرم البيدر وبقي مختبئًا على غصن زيتونة ثلاثة أيام بلياليهن.. وخالد نام في مغارة رأس الخروب.. وعصام تسلل إلى قرية "الساهرة" ولجأ في أحد بيوتها.. إذن فأين اختفى "إبراهيم" يا ترى؟؟

نساء القرية ومنذ اليوم الأول، أخذت تنوح نواحًا مستمرًا لا ينقطع.. وبيوت أهل القرية جميعًا لفّتها كآبة سوداء قاتمة.. وأظلم النهار رغم ارتفاع قرص الشمس في كبد السماء.. واقشعرّت الأبدان حينما سمع المستضعفون الخارجون لتوّهم من حصارهم قصصًا كثيرة عن أبنائهم العائدين من أعمالهم حين ذبحوا دون أي ذنب اقترفوه.

أيُ حزنٍ هذا الذي حلّ بأطفال فقدوا أباهم بين عشية وضحاها؟.. كيف لا يتضاعف الحزن وما زالت نساء القرية تنوح نواحها المستمر؟ وأي ألمٍ ذاك الذي أفقد صواب أهل حلموا بالعيش كما يعيش باقي البشر؟ وأيّ غم راح يجثم على صدور الفلاحين الضعفاء؟ و"حليمة"، ابنة خالتي، الحامل المسكينة، التي أطلقوا الرصاص على بطنها فأخذت تسبح بدمائها ثم اخترقت صدرها رصاصات الموت الزكام، تركت في نفوسنا جرحًا عميقًا لن يندمل إلى الأبد.. وكأننا لا زلنا نتصورها ونسمع صوتها وهي تقول لقاتليها: "حرامٌ عليكم! لماذا تقتلوني؟ ارحموا جنيني الذي في بطني!!"

صحيح أن بعض الأسر لم يرتفع منها أحد إلى السماء.. ولكن المصاب هو مصاب الجميع.. مصاب جلل.. والأعصاب المنهكة قد بدت على وجوههم جميعًا.. ويتساءل أحدهم بعصبية: "أيدفن شهداؤنا نحن دون أن نراهم؟" ويردّ عليه آخر في براءة وبساطة: "ولكن ماذا يفيدنا هذا لو رأيناهم؟ ولو خرجنا من بيوتنا لقتلونا مثلهم..

وكانت أنباء المجزرة تتردد في الصحف على أنها مجرد مشاغبات ومحاولات لخرق نظام منع التجول.. وأنباء الجرحى يتلهف الناس إلى سماعها لحظة بلحظة وفي كل مكان..

ولعل الصدمة التي جعلتنا نعيش في خيال دائم وتفكير عميقٍ وهمٍ خانقٍ لم تـثن عزمنا على تفقد جرحانا في المستشفيات ومتابعة أخبارهم أولا بأول..

آهٍ ثم آهٍ ثم آه..

آهٍ من واقع مرير وحُكمٍ ظالمٍ وبُئسٍ لا يطاق.. إذا كان الناس قد بكوا على جراحنا، فما الذي نستفيده من بكائهم؟

مسكين أنت يا إبراهيم..

كم كنت صديقًا حميمًا وأخًا وفيًّا..

أي قلب طيب أنت تحمله في صدرك؟؟

كنا نحن الشباب نرجع من المقبرة فنجلس واجمين قرب المسجد لا يشتهي أحد منا أن ينبس ببنت شفة.. ولا تستطيع نفوسنا أن تستسيغ لقمة واحدة زمن المحنة.. ونساء القرية تنوح نواحها المستمر كأنه عرسٌ أزليٌّ.. وبعضهم أشفقوا على دوابهم الجائعة الممنوعة من التجول منذ خمسة أيام، فخرجوا بها إلى الحقل القريب لترعى.. ولما حانت ساعة الظهر إذ طلع علينا "محمود الخليلي" يبشرنا بوجود "إبراهيم" جريحا وهو يعالج في المستشفى..

انطلقت مع والده وعمه للبحث عنه في المستشفى فوجدناه قد ضمدت ساقه وذراعه.. لكنه خائر الأعصاب.. ما إن رآه والده حتى أكبّ وجهه عليه وأجهش بالبكاء.. وهو يغمغم: "مات جمال يا إبراهيم.. رحل عنا ولن يرجع.. رحل وهو يسأل عنك يا إبراهيم.. خرج يبحث عنك وكسرة الخبز في فمه".

لم أستطع أن أتمالك نفسي فاتخذت لي زاوية في الغرفة وأجهشت فيها بالبكاء..

ليس هينًا أن يفقد الإنسان عزيزًا .

وليس هينًا أن يفقد الإنسان أناسًا عاش معهم وأحبهم..

وما أصعبها من لحظات حين يفقد الإنسان عزيزًا وهو بين ذراعيه ولا يستطيع أن يحرك ساكنًا..

عند سماعه أن نظام منع التجول سيفرض بعد نصف ساعة، ترك "جمال" ابن الثالثة عشرة طعامه، وخرج للبحث عن أخيه "إبراهيم".. فوجد نفسه أمام جنود يصوبون أسلحتهم على أشخاص وقفوا في صف على جانب الطريق ورفعوا أيديهم في استسلام إلى الأعلى. ولما عرف بعضهم ونظر، وجد أخاه "إبراهيم" يقف في وسطهم مطيعًا صامتًا.. لحظات قليلة مرّت ثم نطق قائدهم نطق قاضٍ يحكم على المتهمين حكمه الأخير وهو يشفي غليله ويصب حمم غيظه عليهم: "احصدوهم".

واندفعت رصاصاتهم تحصد ثم تحصد ثم تحصد..

وسقطت سنابلنا الخضراء على الأرض السوداء.. وراحت دماؤهم تروي ترابها من جديد وعيونهم جاحظة نحو السماء. ولسان حالها يقول: رباه أي ذنب اقترفناه حتى يتم لنا هذا القضاء؟

اندفع الشاب وأكب على أخيه النازف المصاب.. وضمّهُ بين ذراعيه ثم بكى.. وبكى وهو يصيح في غضب: "قتلوك يا أخي؟ قتلك المجرمون؟ لا تمت يا إبراهيم!!".. أحدهم تقدم منه وضغط على زناد بندقيته فخرجت منها رصاصتان اخترقتا رأسه ثم أسلم روحه لله.. وتراءى لإبراهيم في تلك اللحظة أنه يقف أمام الواحد الديّان يبتهل إليه ويصلي طويلا حتى يُؤْذنَ له بالدخول إلى تلك القصور الفاخرة، وتحيط بها جنان ناضرة.. تتجه نحوها كوكبة من الشهداء حيث فُتِّحت لها الأبواب وفُرش لها البساط الأخضر.. وقال لهم خَزَنَتُها: "سلامٌ عليكمْ.. سلامٌ عليكمْ طِبْتُمْ.. فَادْخُلوها خالِدينْ".. أخذوا يسيرون في خطى ثابتة متناسقة رافعي هاماتهم وتلألأت وجوههم المبصرة ضاحكة مستبشرة، يتقدمهم الفتى "جمال الأشقر" يرفع بيده اليمنى علمًا أبيضًا خفاقًّا عاليًا كُتبت عليه عبارة واضحة باللغة العربية: "الحمد لله الذي صدقنا وعده".. وتعزف لهم فرقةٌ موسيقيةٌ خاصةٌ السلامَ الرباني ترحيبًا بقدومهم.. تحفهم الملائكة من كل جانبٍ.. يتقدمون وهم يحمدون الله وينشدون نشيدهم الوطني الجميل:

بل أحياء بل أحياء بل أحياء


عند الله بل أحياء بل أحياء

ثم أُغلقت الأبواب واستدار إبراهيم وأخذ يجري ويجري نحو دنياه فوجد الأبواب مفتوحة ما إن دخلها حتى وجد نفسه في ذلك الهزيع الأخير من الليل ممددًا على سريرٍ في المستشفى، وانبثق الفجر عليه وعاد إلى دنياه حزينًا، ليسمع عويل نساء قريته المستمر.. ذلك العويل الذي لا ينقطع..


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى