الخميس ١ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٤
بقلم عصام بغدادي

غسان كنفانـــي

ذاكرة فلسطـين النازفة على مر السنين

" تنتج الرغبة في الحرية من القمع، وتنتج الحرية من التحرير"

* بريشت في كتابات حول السياسة والمجتمع-منشورات لارس باريس 1970 صفحة 50


قبل ثلاثين عاما وحينما كنت طالباً جامعياً، اعتدت أن اتبضع كتبي المفضلة أسبوعياً من مكتبة المثنى في ساحة التحرير في بغداد، لفت نظرى مجموعة قصصية بعنوان: موت سرير رقم 12 وكانت تلك هي البداية مع قراءة مزمنة لأعمال الكاتب المبدع غسان كنفاني وحرصت على أن أقرا كل أعماله الأدبية حال صدوروها عن دار الطليعة ووصولوها إلى مكتبات بغداد.

سأتطرق الآن إلى قصة موت سرير رقم 12 التي حملت المجموعة القصصية اسمها والتي كانت بداية قراءتي للكاتب غسان كنفاني فموضوعها الأساسي هو شعور المنفي المعذب الذي ينعطف إلى الوراء والذي تعبر عنه كافة الصور من خلال التعلق الأحادى الجانب بالماضي، حيث يتطور موضوع المنفى الأساسي تحت دافع الموت الكاشف عن سر الحياة. يأخذ أحد المرضى بمراقبة مريض آخر يحتضر، أصله من عُمان، لا يؤثر وجوده في أحداث القصة، فيشرع المريض الرواي بتكوين فكرة عن حياته.

لقد تخيله منفياً شق طريقه بشجاعة رغم العقبات العديدة لكن الحياة نبذته بعد إصابته بمرض فتاك. وقد تخيل أيضاً في صندوقه الذي يمسك به على الدوام ثروته:"عباءة بيضاء شفافة مذهبة الأطراف... حلق خزفيّ لأخته سبيكة تزين بها أذنيها، وزجاجة من عطر قوي، وصرة بيضاء مصرورة على ما يسره الله له من نقود".

يموت العماني، فتنكشف الحقيقة: أن ما كان خيالا كان صورة رومانطقية للحياة، إذ أن حياة العماني في الواقع أكثر قسوة. فهو يتيم في الكويت بعيداً عن وطنه وأطفاله الخمسة، بينما يتخيله الرواي رجلا غادر بلاده ليجمع المال، وليرجع غنيا كي يستحوذ على حبيبته. غير أن ما كان في الصندوق ليس سوى: "مجموعة فواتير بديون الدكان الجديدة للمخازن الموردة وكانت في الظرف صورة قديمة لوجه مليح وجلد ساعة قديم، وخيط من القنب، وشمعة صغيرة، وبضع روبيات منثورة بين الأوراق".

وهكذا لم يحتو الصندوق على قيمة ثمينة وإنما على قيم لحياة الفقر والمنفى الشاقة فالصندوق الخيالي مفعم بالأوهام بينما الصندوق الحقيقي يحتوى على أشياء حزينة للحياة يذوق الفقير مرارتها.

أثار الراوي الذي هو مريض أيضا مسالة موت الإنسان: فهو يرى أن حياة الشقاء والألم ذات المحتوى المحدد لا تترك سوى آثار عديمة الجدوى كالفواتير والشموع وهذا ما يفكر به: "إن قضية الموت ليست قضية الميت، إنها قضية الباقين.. إن علينا أن ننقل تفكيرنا من نقطة البداية إلى نقطة النهاية. يجب أن ينطلق كل تفكير من نقطة الموت."

لقد أعطى الموت في هذه القصة معنى لما يستطيع الراوي معرفته مسبقا فهل من الضروري أن ننتظر الموت دائما لمعرفة الحياة؟ إذا طبقنا هذه الفكرة على مصير الشعب الفلسطيني نقرؤها هكذا: يجب أن نفهم حقيقة الشعب الفلسطيني قبل أن يموت. ومع هذا فلم تطرح هذه المسالة عند غسان كنفاني بشكل واضح إلا في وقت لاحق، إذ لا تحمل سوى طابعها الفلسفي القائل: "يجب أن ينطلق كل تفكير من نقطة الموت.

كانت تلك هي بداية إعجابي بأعمال الكاتب غسان كنفاني حيث حرصت بعدها على اقتناء مجموعة أعماله الكاملة- بجزئيها الأول والثاني- والمحافظة عليهما وشاء القدر أن تتعرض داري في بغداد لقصف الطائرات الإيرانية في الأيام الأولى للحرب عام 1980 وأن يخترق جزء مشتعل من صاروخ طائرة إيرانية نافذة غرفة الكتب في الطابق الثاني من الدار وأن تحرق ما يقرب من 5000 كتاب ومجلة تتضمن كتباً عمرها ما يقارب 50 إلى 70 عاما ونجا من تلك الكتب القليل مما كان أصلا في الغرف الأخرى ومنها المجموعتين الكاملتين لأعمال الكاتب الراحل غسان كنفاني وأطروحة تقدم بها الباحث أفنان القاسم لنيل شهادة الدكتواره من جامعة السوربون عام 1975 بإشراف المستشرق أندريه مايكل والتي طبعت عام 1978، وكتاب مختارات من الشعر الأميركي لمؤلفه ألفريد كريمبورغ والمطبوع عام 1930 في الولايات المتحدة. وبقيت هذه الكتب الثلاثة لتشكل نواة مكتبة منزلية من جديد خلال السنوات العشر الأخرى 1980-1991 حيث صار متعذراً الحصول على الكتب بعد العقوبات التي فرضتها الأمم المتحدة على العراق بفعل سياسة صدام حسين والولايات المتحدة الذين ساهما بشكل مباشر في عزل العراق ومحاولة إعادته للوراء.

آه ما أقسى أن تغادر كتبك وتحرص على الحفاظ عليها وأنت بعيد عنها وأن تمنع تحويلها إلى أكياس ورقية كما فعلت أغلب العائلات في العراق في ظل الحاجة الماسة بالاستغناء عما ليسوا بحاجة إليه، فقد استغنوا عن المطالعة في زمن صارت فيه المطالعة جريمة واتهام وترف لا مبرر لصرف المال عليه، وكانت الغاية واضحة وهي ترك العراقي يلج العتمة في زمن ثقافة النظام فقط وفي ظل واحد من أعتى الدوافع الاستراتيجة للسياسة الأميركية التي استهدفت إيقاف الغذاء الروحي والذهني للفرد العراقي.

ربما لم أعد قراءة روايتين كما فعلت مع "ما تبقى لكم-1966"، و "عائد إلى حيفا-1969" كنت كل مرة أعيد قراءتهما أكتشف أسرار قوة تلك الروايتين وقوة كاتبهما، لقد قاوم غسان كنفاني بصفته كاتباً واقعياً اشتراكياً التمثيل الروائي القديم وأراد أن يجعل من نفسه مدافعاً عن الحقيقة لهذا كانت أعماله مقاتلة بفعل الكلمة وتأثيرها واستخدم البؤس عنصراً جمالياً فالبؤس نبيل وجميل عندما ينطبق على مجهودات أولئك الذين يبحثون عن التغلب عليه، وأكثر من هذا يفتح كنفاني في أعماه آفاق المستقبل للطبقات المسحوقة التي هي ذاتها حقائق وقوى محركة للواقع وهي ليست الطبقات المفرغة من جوهرها، ان اعمال كنفاني عبارة عن احتجاج ضد الحالة القديمة للأشياء المنتزع منها أفق المستقبل، وهناك موضوعة أخرى تميز أدب كنفاني ألا وهي تعرية وفضح الوهم الطوبائي وهكذا بعيداً عن أن يرجو حلا طوباويا لتعاسات الإنسان كما في رؤية يحيى حقي، يفضح كنفاني مخاتلة الدين ويمنح العلاج، ففى الأعمى والأطرش يمثل الولي السلطة الروحية الموظفة من قبل السلطة الحاكمة لخدمة مصالحها القمعية ولا تزول الأوهام إلا بفعل حاسم للأعمى والأطرش بعد أن يدركا أنه لا يمكن أبدا تحريرهما بواسطة قوة غيبية. لكن جوهر الحل الإيجابي الذي اعتقده وتبناه غسان وعبر عنه كطموح نبيل كان يدعو إلى "ردكلة" الجماهير- تعميم الثقافة الوطنية العلمية الذي استطاعت القوى المضادة من محاصرته وتفتيته خلال العقود الثلاثة الاخيرة لأسباب عديدة ليس الآن مجال بحثها، وقد شاء القدر أن يرحل غسان قبل أن يرى ما حل بتلك الطموحات التي تهاوت على أيادي الآخرين من بعده.

ذاكرة فلسطـين النازفة على مر السنين

مشاركة منتدى

  • الصراحة انا فتاة لا احب المطالعة ولكن يوم حين اويت الى مضجعي احببت ان امسك بقصة واشرع القراءة بها وذهبت الى مكتبتي المتواضعة فلفت انتباهي كتاب بعنوان "موت سرير 12" للكاتب العظيم غسان كنفاني" حين بدات القراءة بها احببت ان اقرا ماهية غسان كنفاني .ووجدته انسانا عظيما ومن هنا اخذ الادمان ينصب علي والان احب دائما ان اقرا فقط للكاتب العظيم
    غسان كنفاني

    • ليس والله لانه فلسطيني و انا كذلك ... ليس والله لانه يدخل في اعمق اعماق روحك ليستجث مشاعرك المدفونة فحسب .. بل لانه عرف كيف يتطرق الى البوابة الواقعية واصفا الحقائق المرة بطريقة والله انها الاروع .. غسان كنفاني هو مثلي وقدوتي الادبية .. رحمك الله في ترابك يا غسان

    • انا احترمك يا سيدي واشعر بأن أفكاري وأفكارك العظيمة متشابهة

  • في الحقيقة لم أكن اعرف المبدع رحمة الله عليه غسان كنفاني الا من خلال برنامج اذيع في قناة الجزيرة

    وكم أعجبني ما كتبه غسان في فترة النكسة ,,,,أحببته من تلك اللحظة وشرعت بعد الانتهاء من رؤية

    البرنامج ان أذهب لاتصفح واعرف المزيد عنه من خلال موقع جوجل ,,, وصادفني موقعكم الكريم

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى