الثلاثاء ٢٦ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٦
بقلم إيمان سعيد

لقد تأخر قليلا

استيقظت ذات صباح ، لسعتني عقارب الساعة على صوته الدافئ ، يهمس بالحب ... فيوقظ في دمي حاجتي لحبه .
خرجت لا ألوي على شئ سوى احتساء فنجان من القهوة في المقهى القريب من منزله ، تهديني ذاكرتي أنه كان يقطن بهذا الشارع ، إن لم تغالفني ذاكرتي الضعيفة كعادتها معي ... وتداهمني بأنه ليس هذا هو المكان المقصود.
ضربت الأرض بقدمي اتلمس موطن سكنه الذي لم يجمعني معه إلا لقاء واحد به ، في ذلك المقهى الذي تعلق خيالي به بعدها طويلاً ، كان المكان عبقاً بالدفئ ، كرواية حية تحتوي من يقرأ سطورها و تشبعه حناناً وشوقاً للرجوع إليها تارة أخرى و لو بعد حين .

أرسل نظرات لا تنطق بشئ للمارة... دونما تركيز على أحد ، بينما تعلو في ذهني الأسئلة و تضطرم ، لماذا لم أره حتى الآن ؟ ، أليس هذا هو موعد عودته من العمل ؟ ، أم أنني نسيت هذا أيضاً !

رمقني من بعيد بنظرة داهمتني لتو ما أرسلها إلي ... فأسقطها على جسدي كله ، و عاد يسديها إلى عيني .. فأسرتني ، و تركتني سبية لصاحب تلك النظرة ، أقترب مني ... فأثار فضولي ، أهو من جئت لأجله ؟! .
له نفس العينان ، و تلك النظرة .. التي طالما داهمتني لتقتلني بداخلهما.. لأحيى حياة أخرى ،أعانق فيها حريتي بعبودية تامة .
وجهه ما زال باسماً ، وثغره ذاك المكتنز أهاته و ضحكاته .. ما زال ينبض بالحياة .

تعود أسئلتي فتجيش علي زمام فكري لتحيره ، ترى أمازال يذكرني ؟.. لكن ثمة شئ تغير به فسيماه يوشي بتعبيرات غير التي كانت ، وجهه جافل ، بالرغم من أبتسامته التي تتسم بجدية لم أعهدها معه، مشيته السريعة ، و لحيته التي تترقب الحلاقة .. توشي بأنه أصبح من هؤلاء الذين يحملون هموماً وقضايا كبرى ،
قوامه تغير إلى حد بعيد ، فقد أزداد بدانة ، و نقص طوله قليلاً.. لكن كيف ؟! .

يعبر الشارع ، فأسرعت خطواتي للحاق به ، تعاندني السيارات ، أنفس دخان غضبي ، تسنح الفرصة أخيراً ، أراه بعيداً ، تركض تساؤلاتي أسرع مني للحاق به ،علها تستوقفه فيجيب ، أواصل الركض ، أقتربت منه على مرمى قدر ، تتسلل نظراتي المتلصصة على خطواته ، دخل إلى إحدى الأزقة ، فبدا لي المكان كرواية قديمة ...عدت إليها من جديد كما لو كنت على وعد للقاء بها ..
دخل محل لبيع الجرائد ، تملكني تردد كاد يمنعني من اللحاق به ، ولكن هناك شوق مبهم يخالطه وعد غامض باللقاء يدفعني إلى الأستمرار، أشترى جريدته و باعني فضولاً و حيرة بشأنه ، لم يكن يقبل على شراء هذا النوع من الجرائد وقت أحببته .
هممت لألجم فرس فضولي الجامح لتفقد أحواله ، فأحجمت عن تلك الخطوة ، حتى أرتدي إتزاني قليلاً ، أرمقه بطرف خفي ، يتمزق أتزاني ، أدقق النظر أكثر ، تتعارك تساؤلاتي السابقة مع تساؤلات جديدة ، أهو .. هو ؟ لا...لكنه يشبهه؟
أقتربت منه فغافلني ، و دخل المقهى الذي دخلناه من قبل معاً ، فدخلت وراءه متسللة خلف أفكاري المتناسله على عقلي كشلال .
نفس سيجارته فتبعثرت أفكاري مع دخانها .. على نافذة الحقائق التي لم أقف عليها حتى الآن . تناول جريدته يقلب صفحاتها... ولا يدري أنه يقلب معها حيرتي و أستنكاري ، أخذ قلماً و بدأ يكتب أو يرسم به شيئاً ، لا أستطيع التحديد بدقة ، ذلك أنني كنت أشاهده من الخلف .

أعددت خطتي للتعرف على أسمه ، سأنادي النادل و أسأله عن الأمر دونما جلبة.. لكي لا أشعر بي أحد ، و لكن صوت خفي بداخلي يمنعني.
طلب فنجان من القهوة ، رشف منه رشفة ، أبتلعت معها حيرتي و ركلت عقلي و هممت لأرتكاب تلك الحماقة ، ذلك أن الأمر من الحماقة بنصيب وافر ، أن تسأل عن أسم شخص... فيبدو أنك لا تعرفه ، سألت النادل... فأجاب و الدهشة تملأ وجهه ، وتتراقص الأسئلة التي أثارها عقله لتو ما سمع سؤالي المتطفل .. جليه بعينيه ،أسمه صلاح ، لم تخونني ذاكرتي إذن.

الدهشة تدهسني ، فحينما أقتربت منه ... وجدته يقرأ في جريدة تحمل صوراً لعاريات ، فيغطي أجسادهن بخطوط قلمه .
أيفعل هذا ستراً لأخته؟! التي هربت من بيتهم منذ أعوام مضت.... لتعمل بهذا المجال ،
إذن فذاكرته تتسع لها و ما زال يبحث عنها ، ترى ألي في ذاكرته نصيب وافر ؟.

أشعلت سيجارتي التي تعودت أصطحابها معي منذ رحلت عنه ، دونما نار تشعلها ، دنوت منه ، طلبت منه أشعالها ،لأنفث معها بركان رغبتي في معرفة حقيقته ، هذا الذي القى بي في جزر لا أعرف موقعها على الخريطة
سمحت له أن يجول بيديه المعروقتين حول فمي مراراً، ليشعل سيجارتي ، التي أجهدته من كثرة ما أرتعشت في فمي المحاط بخطوط الزمن ... شوقاً لكفيه .
تتصارع دقات قلبي في حدة ، لم يعرفني ، ، سيجارتي تتحايل على الحياة ببصيص أمل ، ظننته لن يعود ، غير أنه دنا مني قائلاً في لطف .. هل لي أن أعيد لسيجارتك الحياة سيدتي؟ .. فأجبت أن نعم ، و لسان حالي يقول .. بل أتوسل إليك ، دنوت منه ، فلا مناص منه إلا إليه .هممت لأقل شئ هذه المرة ، لكن صمتاً أطبق علي ، فأحجمت كلماتي عن الخروج كمداً .

أنتهى الأمر ، قال في لامبلاة لا حدود لها ... أتريدين مني خدمة أخرى سيدتي ؟ .. أجبت في حنق .. لا شكراً ، تركني و ما زالت أسئلتي معلقة على جدار قلبي توشي به إلى الهاوية و تركل بعقلي إلى جزر الجنون ، و ما زالت حاجتي له تقتلني كلسعات ساعتي التي أهداها لي في لقائنا الأخير . لم يمر على لقائي الأخير به ... سوى خمسين عاماً ، ألهذا الحد تغير ؟ .. أم أن ذاكرتي توشي بي كعادتها معي ؟! .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى