الخميس ١٨ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٧
بقلم بيانكا ماضية

نظرات العيون

ينظر إليهن ، وفي عينيه تلتمع شرارة لا تبرق إلا حينما يدخل دوامة القهر ، يشرد ويطير به الشرود إلى حيث يحط طوق الحمامة على شرفات إحداهن ، ويتمالكه الشرود ويغيب بجسده عن المكان المملوء صخباً وضجيجاً ، ولا يدري وهو واقف يتملى أسراراً يجهلها أين يقبع عقله الذي تناثر على الطرقات مثل أوراق الشجر الخريفية تذروها الرياح يمنة ويسرة ، فلا تجد لنفسها غصناً أخضر تورق على ساعديه .

يأخذه الشرود ولا يبالي بعيون ترمق هديله وخلجاته ، بعيون لم يفهم منها معاني لأعماقها التي تداخلت فيها خيوط الحنين والوجد والغيرة ، بعيون تزأر زئير لبوة تود لو تنقض عليه لتفترس أفكاره .
الشرود يأخذه ، ويأخذها الحب بعيداً عنه ، تطرق أبواب الأنين ، فلا تجد مأوى لأحلامها ، وتنسل منها خيوط الأفكار لتتشابك أمام عينيها مكونة حلماً ضبابياً لم يستطع يوماً فك ألغازه وحل رموزه ، وهو الذي أيقن بنفسه شهرياراً تأبى نساؤه إلا الدخول في لياليه ، ليخرجن بعد حين لا يملكن من الحياة قلوباً ، بل رؤوس فرغت من تلافيفها همسات السحر وجمال الأفكار ، فرغت حتى من أحاديث الهوى الذي لم يعرف له باباً يطرق مصراعيه ، ليدخله تاركاً جلباب ماورثه من أمور طحنته ورمته يستجدي نظرات لا تفهم ألغاز ألف ليلة وليلة .

الشرود أخذه ونسي أنه كان حلماً طار في فضاءات عصفورة حطت على غصنه لتغني تراتيل الصباح ، ونسي أنها نامت قريرة العين على دفء ربيعه ، لتستيقظ وقد دب الزمهرير في أجزائها ، وألقاها البرد القارس في العراء وعلى جوانبه تعوي الرياح ، ويطيل بها الليل تئن على أيام خلت ، أيام كانت وردة قابعة لوحدها في كأسه ، ولم تكن لتعلم بالأشواك التي ملأت هذه الكأس قبلها فامتصت ماء الجذور التي تحييها وتورقها .

خرج من شروده بعد غيبوبة أوصلته إلى دروب لا تنتهي عند حدود ، خرج تاركاً ما بقي من أوهام وانفعالات وجنون اجتذبه ليمتص أنينه ، تخالجه ضحكات كانت سكيناً حفرت في أخاديدها ، لتجلس بعدها ممعنة في فضاء لما يصل إليه ، فالدروب أوصدها بقبضتيه وعبدها بالشك القاتل واليقين من نظرات العيون .

إن العيون التي أبحر في مجاهلها يوماً ، لم يدرك حتى الآن مغاراتها وبساتينها ومفاوزها وأعماقها التي حوت كنوزاً لن يصل إليها ، جاهلاً مفاتيح أسرارها ومغاليق أبوابها ، وهي التي أسرت له بالكلمة التي لم يفهم معناها حتى يفتح له النهار أبواب الحياة .

إن العيون التي ما أبحر فيها يوماً إلا وخرج بأوهام يظنها حقائق ، لا يعلم أن الوصول إلى دهاليزها مستحيل طالما الشرود يحط بعينيه في عيون لا تملك له شيئاً البتة .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى